مشاهدة النسخة كاملة : تاريخ الجزائر الثقافي.doc الجــــزء الثاني
روضة الكتب
08-21-2016, 07:44 PM
تاريخ الجزائر الثقافي.Word الجــــزء الثاني
الدكتور أبو القاسم سعد الله
تاريخ الجزائر الثقافي
الجزء الثاني
(1500 - 1830)
دار الغرب الاسلامي
1998 دار الغرب الإسلامي
الطبعة الأولى
دار الغرب الإسلامى
ص. ب. 5787 - 131 بيروت
جميع الحقوق محفرظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق إستعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونة أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.
بسم الله الرحمن الرحيم
تنبيهات
- للإحالة على الدوريات ذكرنا اسم الدورية بين قوسين فتاريخها فالصفحة فإذا ذكرنا رقما قبل التاريخ فهو عدد الدورية.
- للإحالة على الكتب المطبوعة ذكرنا أول مرة ما يتعلق بتعريف الكتاب فإذا أشير إليه بعد ذلك نذكر عنوانه بين قوسين فالصفحة منه وإذا كان له أجزاء ذكرنا رقم الجزء تليه الصفحة ويفصل بينهما خط مائل.
- للإحالة على مصدر مخطوط ذكرنا مكانه ورقمه وبعض أوصافه ومكملاته ما أمكن مثل حالته وصفحه أو ورقة الخ.
- وهناك بعض المصادر كنا اطلعنا عليها مخطوطة ثم نشرت، مثل (الثغر الجمالي) و (التحفة المرضية)، فإذا كانت الإحالة مطلقة فتعني المطبوع، وإلا فإن عبارة "مخطوط " تذكر إزاءها.
- لم نختصر عناوين المكتبات مثل: المكتبة الوطنية - تونس، المكتبة الوطنية - الجزائر، الخزانة العامة - الرباط، الخ. تفاديا للالتباس وتسهيلا، للبحث.
- لم تكتب أسماء المؤلفين الأجانب باللاتينية إلا نادرا. وقد حاولنا في نطقها الرجوع إلى أصل لغة المؤلف مثلا شيلر وليس شالير كما هو في الفرنسية، الخ.
- في فهرسة الأعلام اتبعنا التنظيم الأبجدي العالمي، مع الاستغناء عن "ابن" و "أبو".
- زيادة في التوضيح نذكر أسماء المجلات الآتية مع أصلها باللاتينية
- (أنال) annales
- (روكاي) Recueil des notes et mémoires de Constantine
- (نشرة جغرافية وهران) Bulletin de la Société de géographie d'Oran
- (المجلة الإفريقية) Revue Africaine
- (المجلة الآسيوية) Journal Asiatique
- (مجلة العالم الإسلامي) تعني - المجلة التي تحمل هذا الاسم بالإنكليزية والفرنسية، ولكننا فرقنا بينهما بذكر عبارة "بالإنكليزية"، أو "بالفرنسية".
Revue du Monde Musulman
Moslen world review
Société de Géographie D'alger et de L'afrique du nord = Sgaan
- مجلة الجمعية الجغرافية لمدينة الجزائر وشمال إفريقية.
الفصل الأول
العلوم الشرعية
حول التقليد والتجديد
نقصد هنا بالعلوم الشرعية الدراسات القرآنية كالتفسير والقراءات، والحديثية كرواية الحديث ودرايته، بما في ذلك الأثبات والإجازات، والفقهية من العبادات والمعاملات كالنوازل. وقد كثرت هذه الدراسات بين الجزائريين خلال العهد العثماني حتى أنه يمكن القول بأن أغلب إنتاج الجزائر خلال هذا العهد يكاد ينحصر في العلوم الشرعية والصوفية والمجالات الأدبية. ورغم أن معظم الإنتاج في العلوم الشرعية كان يفتقر إلى الأصالة والجدة، فإن كثرة التأليف فيه يبرهن على سيطرة العلوم المذكورة على الحياة الفكرية عندئذ. ولا شك أن ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى كون القرآن والحديث كانا المنبع الذي يستمد منه الجزائريون كل ألوان تفكيرهم وأنماط حياتهم.
وأهم ما تميزت به العلوم الشرعية في هذا العهد التقليد والتكرار والحفظ. فالفقهاء قلما اجتهدوا أو استقلوا بآرائهم، بل كانوا يقلدون سابقيهم تقليدا يكاد يكون أعمى. فإذا ما حاول أحدهم أن يشذ عن هذا التيار أقاموا عليه الدنيا وأقعدوها، واجتمع عليه المجلس الشرعي الذي كانت تتدخل فيه الدولة. وفي أحسن الأحوال كان يحكم على المستقل برأيه بعزله من وظيفته. أما في أسوأ الأحوال فالحكم عليه بالتكفير والزندقة. ومع ذلك حاول بعض الفقهاء تحطيم هذا الجدار. ومنهم عبد الكريم الفكون في القرن الحادي عشر (17 م)، وأحمد بن عمار في القرن الثاني عشر، ومحمد بن العنابي في أوائل القرن الثالث عشر. وقد سقنا في الجزء الأول عدة نماذج من ثورة الفكون على الجمود العقلي لدى فقهاء عصره. ونود أن نضيف هنا
قوله عن ظاهرة الحفظ لدى هؤلاء الفقهاء. فقد استشهد ذات مرة، وهو ينعي على صديقه أحمد المقري عدم دقته العلمية واعتماده على الحفظ، بكلام أبي بكر ابن العربي من أن "العلم ليس بكثرة الرواية وإنما هو ما يظهر عند الحاجة إليه في الفتوى من الدراية، وأن السرد للمعلومات إنما حدث عند فساد القلوب بطلب الظهور والتعالي عن الأقران وكثرة الرياء في الأعمال". وقد علق الفكون على هذا من أن ما قاله ابن العربي يعبر عن الواقع في الجزائر وغيرها، فلا ترى إلا من يقول قال فلان قال فلان أو يذكر نص التأليف بدون تغيير. فإن صادف الحكم الحكم نجا وإلا أصبح كالصيد في الشبكة. وهم يفعلون ذلك حبا للمدح وصرفا لقلوب الخاصة والعامة إليه. ولو (سئل عن وجه الجمع بين المتشابهين أو الفرق بين المسألتين يقول النص هاكذا (كذا)، ويستظهر بحفظ النصوص، وهل هذا إلا جمود في غاية الجمود) (1).
ويعتبر نقد الفكون في غاية الصراحة والدقة. ذلك أننا لا نعرف أن فقهاء الجزائر الذين عاشوا في القرن الأول من العهد العثماني قد نادوا بتقديم الاجتهاد العقلي (الدراية) على التقليد (الرواية). فهم كانوا يرددون أقوال المتقدمين ويحفظونها حفظا سطحيا لا عقل فيه ولا تفكير، ويسردون المسائل كما هي في الكتب لا كما تقبلها أو ترفضها عقولهم. ويتظاهرون بالحفظ وقوة الحافظة، وكل العلم عندهم ما حواه القمطر. فإذا عدت إلى كتاب كـ (البستان) لابن مريم تجده لا يترجم لأحد الفقهاء إلا قال عنه إنه كان يحفظ كذا وكذا من الكتب. وقد وصف أحمد المقري معاصروه بأنه كان أحفظ أهل زمانه حتى قال فيه أحدهم بأنه لا يعرف في وقته أحفظ منه، وعندما خرج المقري من المغرب إلى المشرق قيل عنه "خلت البلاد من مثله ومضاهيه " (2). وكثيرا ما وصف المقري بأنه (حافظ المغرب الأوسط)، وهو نفس الوصف الذي أطلق على غيره أيضا، ولا سيما أبو راس الناصر.
وظاهرة الحفظ والتقليد قد جمدت الإنتاج في العلوم كلها، وخصوصا العلوم
__________
(1) عبد الكريم الفكون (منشور الهداية) من تحقيقنا، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1987
(2) عبد الحي الكتاني (فهرس الفهارس) 2/ 14.
الشرعية، وجعلته عبارة عن تكرار ونقل رتيب لأعمال الآخرين.
وإذا كان ابن عمار قد عاب على فقهاء عصره جمودهم العقلي وترهل الفكر عندهم فإن ثورته لم تصل إلى حدة ثورة الفكون ولا ثورة محمد بن العنابي، والواقع أن ابن العنابي كان من أوائل الفقهاء الذين لم يكتفوا بنقد الجمود العقلي بل أضاف إلى نقده اللاذع الدعوة إلى استعمال الاجتهاد والأخذ بأسباب الحضارة الغربية، والحد من نشاط الدراويش الذين أضروا في نظره بالمجتمع الإسلامي. وكأن ابن العنابي قد جاء ليوضح ما دعا إليه الفكون. ففي كتابه (السعي المحمود في نظام الجنود) نقد ابن العنابي معاصريه من الفقهاء بشدة وسخر من أفكارهم ومظهرهم، كما نادى بضرورة النهضة الإسلامية على أساس المنافسة بين العالم الإسلامي والعالم الأوروبي والسباق مع الحضارة الأوروبية والفوز عليها فيما تفننت فيه من أنواع الاختراعات والمبتكرات الصناعية والتقنية والحربية. وكان له رأي أيضا في الديمقراطية السياسية وتوزيع الثروة واختيار الأكفاء في الإدارة ونحو ذلك مما كان شبه محرم طرقه على الفقهاء قبله (1).
وظاهرة التقليد، بالإضافة إلى تخلف الثقافة عموما، كانت مسؤولة على ندرة الإنتاج في العلوم الشرعية التي تحتاج إلى ثقافة واسعة وعميقة كالتفسير. ذلك أن مفسر القرآن الكريم يحتاج إلى ثقافة دينية وتاريخية ولغوية قوية لكي يقدم على عمله، بالإضافة إلى استقلال عقلي كبير، وهذا ما لم يتوفر للجزائريين خلال العهد العثماني. فمجال الثقافة، كما عرفنا، كان محدودا، وميدان استثمارها كان أيضا محدودا. وإذا توفر جانب من جوانبها المذكورة (الدينية، التاريخية، اللغوية والاستقلال العقلي) فإن بقية الجوانب لا تتوفر. لذلك قل مفسرو القرآن من الجزائريين، وضحلت دراسات الحديث باستثناء بعض الفروع كرواية الأسانيد والأثبات ومنح الإجازات فيها. أما الدراسات الفقهية فقد كانت تقليدية أيضا. ولم يستطع أحد من
__________
(1) أبو القاسم سعد الله (رائد التجديد الإسلامي: ابن العنابي) ط 2، الإسلامي، بيروت 1990.
العلماء في العهد العثماني أن يكتب عملا في الفقه شبيها بـ (معيار) أحمد الونشريسي. كما لم يكتب أحد منهم (فيما وصل إلينا) عملا في التفسير يشبه (الجواهر الحسان) للثعالبي. فإنتاج الجزائر إذن من العلوم الشرعية كاد ينحصر في مجالات واهية لتفسير القرآن الكريم، وبعض العناية بالقراءات، وفي مجموعة من الأثبات والإجازات، بالإضافة إلى أعمال فقهية تتناول فروعا من العبادات والمعاملات، وسنحاول الآن أن ندرس كل علم من هذه العلوم على حدة.
التفسير
يمكن أن نتناول التفسير من ناحيتين. ناحية التدريس وناحية التأليف.
أما تدريس التفسير فقد كان شائعا بين العلماء البارزين. ومن الذين اشتهروا بذلك محمد بن علي أبهلول، وابن للو التلمساني، وعبد القادر الراشدي القسنطيني، وأبو راس الناصر. ورغم أننا لا نملك الوثائق الآن فإن أمثال سعيد قدورة، وأحمد بن عمار، وسعيد المقري ربما تناولوا أيضا التفسير في مجالس دروسهم التي اشتهروا بها. ومن الطبيعي أن نقول إنه ليس كل من تناول التفسير أجاد أو جدد فيه. ذلك أن ظاهرة التقليد والحفظ كانت مسيطرة على العلماء في جميع الميادين، ومن بينها ميدان التفسير. فنحن نتصور أن
معظم المفسرين للقرآن الكريم في مجالس الدروس، كانوا يكررون في الغالب أقوال المفسرين المتقدمين، وقلما يخرجون عليها برأي جديد يتلاءم مع العصر.
ومن جهة أخرى فإن الوثائق تعوزنا في الوقت الراهن، فليس هناك ما يدل على نوع الطريقة (1) التي كان يستعملها أمثال أبهلول وابن لَلُّو والراشدي
__________
(1) ذكر ابن حمادوش في رحلته أنه حين زار الشيخ أحمد الورززي المغربي مدينة الجزائر سنة 1159 اجتمع إليه الطلبة (العلماء) وطلبوا منه أن يريهم كيف يبتدئ المدرس درس التفسير ففعل، وكان ذلك في الجامع الكبير. انظر التفاصيل والدرس الذي ألقاه، في رحلة ابن حمادوش، من تحقيقنا. نشر المكتبة الوطنية - الجزائر، 1983
أثناء درس التفسير. فقد روى سعيد قدورة أن الرحال كانت تشد إلى شيخه محمد بن علي أبهلول لشهرته في علوم التفسير والحديث وما شابهها. وروى قدورة أيضا أن شيخه قد وصل في تفسيره إلى سورة الإسراء قبل أن يقتل سنة 1008 (1). فهل كان الشيخ أبهلول يملي تفسيره إملاء أو كان يلقيه إلقاء على طلابه؟ هذا ما لا تفصح عنه الوثائق. والظاهر أن الشيخ كان يفسر باللسان ولا يسجل بالقلم. ذلك أن الذين ترجموا له تحدثوا عن براعته في عدة علوم أخرى ولكنهم لم يتحدثوا عن كتب أو تقاييد له. فهو إذن من المدرسين في التفسير وليس من المؤلفين فيه. ولا نتوقع أن يكون تفسير أبهلول تفسيرا حيا أو مبتكرا، وإنما نتوقعه تفسيرا تقليديا منقولا عن السابقين، مع قليل من ذلاقة اللسان وبيان العبارة، لأن الشيخ كان مشهورا أيضا بحذق العروض والمنطق والنحو، وهي علوم تساعد على فهم القرآن وجودة تفسيره.
وعندما ترجم أبو حامد المشرفي لابن للو التلمساني قال عنه إنه قد ختم تفسير القرآن الكريم في الجامع الأعظم بتلمسان. وكان والد المشرفي معاصرا أو قريبا من زمن ابن للو، فهو الذي حدث ابنه، أبا حامد، بأن ابن للو قد فسر القرآن حتى ختمه. وقد عرفنا في الجزء الأول أن ابن للو كان غير راض على الأوضاع السياسية بتلمسان وأنه كان ساخطا على العثمانيين حتى أنه أمسك بلحية القائد حفيظ التركي ورد عليه هديته من السمن والدقيق. ويكفي ابن للو أنه كان أستاذا لعدد من الطلاب الناجحين، وعلى رأسهم الشيخ محمد الزجاي (2)، الذي اشتهر أمره أيضا أوائل القرن الثالث عشر. ونحن لا نستغرب أن يعمد ابن للو إلى تفسير القرآن الكريم ويتصدى لذلك حتى يختمه بالجامع الأعظم، فقد عرف عنه أيضا أنه كان من الأدباء الحاذقين حتى أن أبا حامد المشرفي جعله "خاتمة أدباء تلمسان
__________
(1) سعيد قدورة، مخطوطة رقم 422، مجموع المكتبة الوطنية، تونس. انظر أيضا أبو حامد المشرفي (ياقوتة النسب الوهاجة). انظر ترجمة قدورة في فصل التعليم من الجزء الأول.
(2) عن محمد الزجاي انظر فصل السلك الديني والقضائي في جزء لاحق
المتأخرين " (1). وهذا يؤكد ما قلناه من أن الذين تناولوا التفسير كانوا من أبرز العلماء ومن أكثرهم إلماما بمختلف العلوم الشرعية والعقلية. والظاهر أن ابن للو لم يكن يحتفظ بتقييد لما كان يفسره، ولم يهتم أحد من تلاميذه بجمع ما ألقاه. ولو فعلوا ذلك لوصل إلينا نموذج من تفاسير القرن الثاني عشر نستدل به على ثقافة العلماء عندئذ ومنهجهم في التفسير. ولعل منهج ابن للو في تفسير القرآن كان يعتمد على المعاني الظاهرية، كما كان يعتمد طريقة القدماء في الاستدلال والاستنتاج.
ومن الذين تناولوا التفسير تدريسا أيضا عبد القادر الراشدي القسنطيني.
ورغم شهرة الراشدي في وقته فإن حياته ما تزال غامضة وليس لدينا منها سوى نبذ متفرقة هنا وهناك. والذي يهمنا هنا ليس حياته وإنما مساهمته في تفسير القرآن الكريم، ذلك أن مترجميه قد تحدثوا عن أنه كان يعقد مجالس للفتوى والتفسير، غير أننا لا نعرف ما إذا كانت هذه المجالس للتدريس أو مجالس اجتماعية يحضرها الوالي والعلماء. والمعروف أن الراشدي كان قد تولى الإفتاء والتدريس بجامع سيدي الكتاني ومدرسته، وكلاهما من آثار صالح باي. كما أن للراشدي بعض التآليف، ولكننا لا نعرف ما إذا كان تفسيره قد جمع في كتاب، فلعله لم يكن يتناول التفسير بصورة منتظمة، وإنما كان يتناول بعض الآيات في المناسبات المعينة ويعرضها ويحللها، ونحن نتصور أنه كان إلى حد ما متحررا في فتاويه وآرائه. ذلك أن سيرته تشير إلى أنه قد واجه بعض التحدي نتيجة آرائه. فقد قيل عنه إنه كان يقول بالتجسيم وأن بعض علماء وقته قد حكموا عليه بالزندقة والكفر وكادوا ينجحون في الفتك به لولا تعاطف صالح باي معه. كما أنه قد ألف رسالة في تحريم شرب الدخان (2). وكل هذه المواقف والآراء تجعلنا نتصور أنه كان في تفسيره شيء
__________
(1) أبو حامد المشرفي (ذخيرة الأواخر والأول)، مخطوط، ص 12.
(2) أبو القاسم الحفناوي (تعريف الخلف برجال السلف) 2/ 219. وقد أخبر الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 172 أن ترجمة الراشدي توجد في معجم مرتضى الزبيدي. والمعروف أن الراشدي كان قد أجاز الزبيدي بالمراسلة. انظر قسم الإجازات من هذا الفصل=
من الخروج عن المألوف وعدم التقيد الرتيب بنصوص وآراء الأقدمين.
أما أحمد المقري فقد عرف عنه كثرة المحفوظ في مختلف العلوم والفنون وكثرة التأليف في الأدب والتاريخ والحديث، ولكن لم يعرف عنه أنه كان من مدرسي القرآن الكريم. وقد أخبر عبد الكريم الفكون أن المقري قد انتصب للتدريس في الجامع الأعظم بمدينة الجزائر عندما أخرجته الظروف السياسية من المغرب، وأن من جملة ما درس هناك التفسير. ولكن إقامة المقري لم تطل بالجزائر، فقد توجه إلى المشرق حيث درس الحديث والأدب وتاريخ الأندلس والعقائد. ولكن مترجميه لم يذكروا أنه درس هناك التفسير أيضا. ويبدو أن ما قيل من أن العقائد كانت مهنة أهل المغرب وأن التفسير فن أهل المشرق قول فيه كثير من الصحة، والدليل على ذلك قلة التفاسير عند المغاربة مع كثرتها في المشرق، بينما الأمر بعكس ذلك بالنسبة للعقائد ونحوها. ومهما كان الأمر فإن أحمد المقري كان غزير المعرفة، يتمتع بحافظة قوية، ولم يكن يعوزه التأليف في التفسير فما بالك التدريس فيه. ونحن نعتقد أنه لو ألف فيه لأجاد كما أجاد فيما ألف في العلوم الأخرى. كما نفهم من نقد الفكون له أن طريقة المقري في التفسير، كما هي في علومه الأخرى، طريقة كلية لا جزئية تعتمد على التعميم وتبتعد عن الدقة. وهو، لكونه أديبا، كان يزوق الألفاظ ويستعمل العبارات المبهمة.
وقد أخذ عليه الفكون حين سأله عن إعراب ابن عطية للآية (ولأتم نعمتي عليكم)، تهربه من الإجابة العلمية (1).
ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن هناك غير هؤلاء. فالوزان والأنصاري وعيسى الثعالبي كانوا أيضا من مفسري القرآن الكريم في دروسهم. وقد روى محمد بن ميمون أن القاضي أبا الحسن علي كان بارعا في تفسير القرآن حتى
__________
= أما رسالته عن الدخان فقد حققها عبدالله حمادي تحت عنوان (تحفة الإخوان في تحريم الدخان)، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1997.
(1) عبد الكريم الفكون (منشور الهداية) الخاتمة. انظر ترجمة أحمد المقري في فصل الأدب من هذا الجزء.
اشتهر به وتسابق الناس إلى درسه في الجامع الكبير، كما اشتهر بعلوم اللسان. وكذلك قال ابن ميمون عن المفتي مصطفى بن عبد الله البوني بأنه تناول تدريس الثعالبي "على سبيل التفقه " وأنه أجاد فيه (1)، ومن جهة أخرى ذكر ابن زاكور في رحلته أن شيخه أبا عبد الله بن خليفة الجزائري قد ختم القرآن الكريم تدريسا (2).
أما التفسير تأليفا فالخوض فيه قليل. ورغم شهرة مدرسة تلمسان العلمية فإنها لم تنتج مفسرين للقرآن الكريم جديرين بالإشارة. حتى العالم المعروف، أحمد الونشريسي وابنه عبد الواحد لم يعرف عنهما التأليف في التفسير. ونفس الشيء يقال عن مدرسة بجاية وقسنطينة. فرغم شهرة عمر الوزان وعبد الكريم الفكون (الجد) خلال القرن العاشر، فإننا لم نعثر لهما على تأليف في التفسير. وقد اعتنى عبد الرحمن الأخضري بمختلف العلوم، شرعية وعقلية، ولكننا لم نعرف عنه أنه حاول التفسير.
وهكذا ينتهي القرن العاشر (16 م) دون أن نسجل تأليفا واحدا في تفسير القرآن الكريم. غير أنه يقال إن محمد بن علي الخروبي قد وضع تفسيرا أثناء إقامته بالجزائر. فإذا صح هذا فإنه يكون أمرا غريبا من شيخ لا هم له عندئذ سوى نشر الطريقة الشاذلية وخدمة الدعاية العثمانية والتأليف في التصوف. ومهما يكن من أمر فنحن لم نطلع على هذا التفسير ولا تؤكد مصادر الخروبي وجوده (3)، وقد روى عبد الكريم الفكون (الحفيد) أن جده قد وضع "تقييدا" جمع فيه الآيات التي استشهد بها سعد الدين التفتزاني في كتابه المطول، ولكن العناية ببعض الآيات من القرآن الكريم لا تعني العناية بالتفسير كعلم قائم بذاته. ثم إن الرواية تشير إلى أن الشيخ الفكون قد جمع الآيات ولم تقل إنه فسرها أو علق عليها. ومن ثمة يظل هذا التقييد خارج
__________
(1) ابن ميمون (التحفة المرضية) مخطوط، 48، و 235 من المطبوع.
(2) ابن زاكور (الرحلة) 31، وكان ابن خليفة من الذين أجازوا ابن زاكور أثناء زيارة هذا للجزائر، وقد توفي ابن خليفة سنة 1094.
(3) أشار إليه صاحب (الإعلام بمن حل مراكش واغمات من الإعلام) 4/ 150.
النطاق الذي نتناوله. ذلك أن الفكون (الجد) كان مهتما اهتماما خاصا بعلم البيان وكان جمعه للآيات من مطول التفتزاني لا يخرج عن حبه للبيان (1).
وقد أنجب القرن الحادي عشر مجموعة من العلماء المشار إليهم من أمثال سعيد المقري، وابن أخيه أحمد المقري، وسعيد قدورة، وابنه محمد، وعيسى الثعالبي، ومع ذلك لا نجد أحدهم قد ترك تأليفا في علم التفسير (2)، وفي ترجمة علي بن عبد الواحد الأنصاري ذكر المحبي أن للأنصاري عملا في التفسير بلغ فيه إلى قوله تعالى: (ولكن البر من اتقى) (3)، وقد قام يحى الشاوي بوضع أجوبة على اعتراضات أبي حيان على ابن عطية والزمخشري.
ويبدو أن أجوبة الشاوي كانت ضخمة إذا حكمنا من حجم عمله (4)، ولم نطلع نحن على هذا العمل حتى نحكم على منهج صاحبه، ولكننا نعرف أن يحى الشاوي كان من أبرز علماء عصره تجربة وثقافة ونقدا. وقد ألف في علوم أخرى كالتوحيد والفقه سنعرض إليها. ونود هنا أن نذكر بما قلناه عنه من أنه كثير النقد لعلماء عصره وغيرهم، وإنه كان يعتبر هذا النقد، رغم ما فيه من تعرض للأخطار، مصدر ثواب. لذلك فنحن نتصور أن أجوبته على تفاسير غيره ستكون مشبعة بالآراء المستقلة التي كانت تهدف إلى فهم القرآن في ضوء مصالح المسلمين في وقته.
ومن العلماء الذين ألفوا في التفسير خلال القرن الثاني عشر أحمد البوني وحسين العنابي. وعنوان تأليف البوني هو (الدر النظيم في فضل آيات
__________
(1) عبد الكريم الفكون (منشور الهداية)، 18 - 23 في ترجمة جده المتوفي سنة 988.
(2) ذكر محمد بن عبد الكريم (المقري وكتابه نفح الطيب) 280، إن للمقري تأليفا عنوانه (إعراب القرآن) وأنه في المكتبة الوطنية بباريس.
(3) المحبي (خلاصة الأثر) 3/ 173.
(4) محمد بن عبد الكريم (مخطوطات جزائرية في مكتبات إسطانبول) ص 11 - 12. فقد ذكر أن نسخة من هذه الأجوبة (الحاشية) تبلغ 718 ص وأن نسخة أخرى منها تبلغ 810 ص. انظر أيضا مجلة (المورد) العراقية 7 (1978) 313. فقد ذكر هنا أن عدد الأوراق 259 ورقة. انظر أيضا ترجمة يحيى الشاوي في الفصل التالي.
من القرآن العظيم) (1)، ويبدو من هذا العنوان أن البوني لم يتناول التفسير بالمعنى المتعارف عليه وإنما خص بعض الآيات من القرآن مستخرجا منها المعاني التي تناسب التصوف والآداب العامة.
أما العنابي فقد تولى الإفتاء عدة مرات في الجزائر، وكان من أبرز علماء الحنفية. وإذا كانت حياته في الوظيفة معروفة من سجلات الإدارة العثمانية فإن حياته العلمية ما تزال غير معروفة. ولا نكاد نعرف عنها أكثر مما ذكره حفيده محمد بن محمود بن العنابي الذي ذكر في تأليفه أن لجده تفسيرا للقرآن الكريم، وقد نقل منه عدة مرات مستشهدا بكلامه. ولم يصل تفسير حسين العنابي إلينا ولكن عبارة حفيده تدل على أن العمل كامل، فهو يقول:
"قال مولانا الجد الأكبر حسين بن محمد رحمه الله في تفسيره". ومما نقل عنه تفسيره لقوله تعالى: (نحن أولياؤكم! حيث قال حسين العنابي: "أي تقول لهم الملائكة عند نزولهم للبشرى، نحن أولياؤكم أي أنصاركم وأحباؤكم في الحياة الدنيا فنلهمكم الحق ونحملكم على الخير، وفي الآخرة بالشفاعة والكرامة لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة" (2). ولم يذكر ابن العنابي عنوانا لتفسير جده ولا حجما. ولكن عبارته تدل على أنه كان يملك نسخة منه يستعملها عند الاستشهاد. ولم نطلع نحن على عمل آخر لحسين العنابي حتى يساعدنا في الحكم على تفسيره، والظاهر أنه تفسير ديني بالدرجة الأولى.
وهناك عالمان متعاصران ألف كلاهما في التفسير، وهما أبو راس الناصر ومحمد الزجاي. وكلاهما أيضا جمع إلى الثقافة الدنيوية ثقافة صوفية ودينية قوية. فأما أبو راس فقد ذكر أنه قد وضع تفسيرا للقرآن الكريم في ثلاثة أسفار وأنه جعل كل سفر يحتوي على عشرين حزبا، وسماه (التيسير
__________
(1) المعرض الخامس لجائزة الحسن الثاني للمخطوطات 1973، ضمن مجموع رقم 406 ر. انظر أيضا (غريب القرآن) لمحمد بن عبد الله المجاسي (المجاجي؟)، الجزائر 413، بروكلمان 2/ 987.
(2) انظر كتابي (المفتي الجزائر ابن العنابي)، 100 انظر أيضا ط 2 منه.
إلى علم التفسير). ومما عرفناه عن أبي راس نستطيع أن نحكم بأن تفسيره سيكون محشوا بالاستطراد كالأخبار والإعراب والحكايات ونحوها. ونحكم أيضا بأن عبارته ستكون سهلة وألفاظه قريبة من العامية. أما التفسير في حد ذاته فقد يكون مقتصرا فيه على المعاني الظاهرة التي لا تحتاج إلى كثرة الاستدلال والاستنباط والتفرع. ومهما كان الأمر فإن تفسير أبي راس. يذكر المرء بتفسير الثعالبي لأن كليهما كان يجمع الزهد إلى العلم، وكليهما جاء في وقت اضطربت فيه الأحوال السياسية في البلاد، كما أن حجم التفسيرين متقارب (1).
ويبدو أن محمد الزجاي قد غلب عليه التصوف أكثر من أبي راس.
فالذين ترجموا له عدوا له مجموعة من الكرامات، واعتبروه من زهاد العصر ومن علمائه أيضا. وللزجاي مجموعة من التآليف في التفسير والنحو والتصوف. ويهمنا من أعماله ما فسره من القرآن. فقد عد له أحد مترجميه "تفسير الخمسة الأولى"، وهو تعبير غير واضح، فهل هو تفسير السور الخمس الأولى أو تفسير الأجزاء الخمسة الأول؟. وعلى كل حال فإن التعبير يدل على أن هذا التفسير غير كامل وأنه تناول فيه جزءا فقط من القرآن الكريم. كما ذكر له مترجمه "حواش كثيرة في التفسير وغيره (2)، ولعل هذه الحواشي تشبه ما قام به يحيى الشاوي في تعاليقه على التفاسير المتقدمة.
والظاهر أن الزجاي الذي اشتهر بمهنة التدريس، كان يتبع في تفسيره طريقة الشروح المتداولة، حيث كانوا يعمدون إلى عبارة الأصل فيعربونها ويذكرون معناه أو معانيها ويستشهدون لذلك بما يعزز رأيهم، وقد يستطردون بعض
__________
(1) عدد أبر راس كتبه في رحلته المسماة (فتح الإله ومنته في التحدث بفضل ربي ونعمته) التي اطلعنا منها على نسختين، وقد خصص القسم الخاص منها لتعداد تآليفه وسمى هذا القسم "العسجد والإبريز في عدة ما ألفت بين بسيط ووجيز". وجعل التفسير هو الباب الأول من هذا القسم، ومنه الحديث، والتوحيد، والتصوف، والفقه، والنحو، والأدب، والتاريخ. وقد نشر محمد بن عبد الكريم هذه الرحلة.
(2) إتمام الوطر في التعريف بمن اشتهر) مخطوط باريس. عن الزجاي انظر فصل السلك الديني في جزء آخر.
الشيء لإثراء الفكرة التي يسوقونها أو للتباهي بالحفظ والاطلاع.
ومما لا شك فيه أن هنالى أعمالا أخرى في التفسير لم نهتد إليها. وفي هذا الصدد نذكر أن ابن علي الشريف الشلاطي (محمد بن علي) قد ذكر أن من بين تآليفه عملا بعنوان (تفسير الغريب للمبتدئ القريب) وهو عنوان غامض لا نفهم منه بالضرورة أنه في تفسير القرآن الكريم، كما لا نفهم منه أنه موجه إلى الطلاب المبتدئين في هذا الميدان. فإذا صح أن هذا العمل هو تفسير للقرآن بطريقة بسيطة فإن مؤلفه قد يكون لجأ فيه إلى المعلومات التاريخية والفلكية، لأنه قد ألف أيضا في التاريخ الإسلامي والفلك (1)، كما أن الشيخ عمر بن محمد المحجوب المعروف بالبهلول الزواوي قد كتب تفسيرا للقرآن يبدو أنه انتهى منه حتى أصبح يعرف بـ (تفسير البهلول). وقد قيل عن البهلول وتفسيره هذه العبارة "وكان رجلا عاميا كتب في التفسير بما عنّ له " (2) والظاهر أن كلمة "عاميا" إنما تعني أنه قد أملى تفسيره على تلاميذه بشيء من البساطة في العبارة، أو أنه كان غير عميق في معانيه فظهر لمن اطلع عليه أن صاحبه عامي الثقافة.
القراءات
ويكاد ينسحب على القراءات ما قلناه عن التفسير. فقد اشتهر الجزائريون بتدريس القراءات أكثر مما اشتهروا بالتأليف فيها. وكانت بعض المراكز في أنحاء الجزائر قد عرفت بالحذق في هذه المادة، مثل زواوة حتى أنها كانت مقصودة للعلماء للاتقان والبراعة. فهذا الشيخ محمد بن مزيان
__________
(1) ذكر ذلك في كتابه الذي سنتناوله في فصل العلوم من هذا الجزء، وهو (معالم الاستبصار بتفصيل الأزمان ومنافع البوادي والأمصار) الذي ألفه سنة 1192. اطلعنا على نسخة منه في مكتبة الكونغرس الأمريكي، كما اطلعنا على صور أخرى منه في الجزائر.
(2) الخزانة التيمورية، ص 40، ولم نعرف إلى الآن عصر البهلول فلعله من أهل القرن الثاني عشر أيضا.
التواتي المغربي، الذي ورد على قسنطينة من المغرب، قد تثقف في المغرب في الفقه والنحو على الخصوص حتى أصبح يلقب بسيبويه زمانه. ومع ذلك فإنه حين جاء إلى قسنطينة وجلس للتدريس بها لم يستغن عن الذهاب إلى زواوة لتعلم القراءات السبع بها، وكان من شيوخه فيها عبد الله أبو القاسم، وقد أخبر عنه تلميذه الفكون أنه بقي في زواوة لذلك الغرض حوالي عام ثم عاد (ومتمكنا من علم القراءات) (1). ومن أشهر أساتذة القراءات بزواوة أواخر القرن الحادي عشر وأوائل الثاني عشر الشيخ محمد بن صولة الذي قرأ عليه العالم التونسي أحمد بن مصطفى برناز القراءات السبع أيضا (2).
وفي تراجم الفكون وابن مريم إشارات إلى بعض العلماء الذين اشتهروا بتدريس القراءات وحذقها في عهدهما. ومن ذلك ما رواه ابن مريم في (البستان) من أن محمد الحاج المناوي قد تصدر للتدريس في عدة علوم ولكنه مهر خصوصا في القراءات (3). أما الفكون فقد ذكر، أثناء نقده لعلماء عصره، إن محمد بن ناجي كان له درس عظيم ومشاركة في علم القراءات. وقال عن أحمد الجزيري إنه كان مدرسا من أهل الفتوى والشورى، وإنه كان يتعاطى التفسير والفقه ويدعى الأستاذية في القراءات السبع ومعرفة أحكام القرآن. وكلمة (يدعى) هنا لا تهمنا كثيرا لأن الفكون كان شديد النقد للعلماء الذين ضلوا، في نظره، سواء السبيل، لدخولهم في خدمة الولاة وأصحاب السلطة، والذي يهمنا هنا هو أن الجزيري كان يشتغل بالقراءات السبع (4).
أما التأليف في القراءات خلال هذا العهد فقد كان أقل من التفسير. ويبدو أن جل اعتماد علماء الجزائر حينئذ كان على (مورد الظمآن) للشريشي
__________
(1) ترجم له تلميذه عبد الكريم الفكون في (منشور الهداية). وقد توفي التواتي بالطاعون في باجة بتونس سنة 1031، انظر عنه سابقا.
(2) حسين خوجة (بشائر أهل الإيمان). وقد توفي برناز سنة 1138. وزار برناز الجزائر سنة 1107.
(3) ابن مريم (البستان). 266.
(4) الفكون (منشور الهداية) مخطوط. وقد حققناه، انظر سابقا.
المعروف بالخراز المغربي، وعلى شرح محمد التنسي، الذي أشرنا إليه، والمسمى (الطراز في شرح ضبط الخراز) (1). وفي نهاية القرن التاسع ألف محمد شقرون بن أحمد المغراوي المعروف بالوهراني عملا في القراءات أيضا سماه (تقريب النافع في الطرق العشر لنافع) (2). والنسخة التي اطلعنا عليها من هذا العمل عبارة عن قصيدة لامية تبدأ هكذا:
بدأت بحمد الله معتصما به ... نظاما بديعا مكملا ومسهلا وقد قسمها الى أبواب مثل باب الاستعاذة، باب البسملة، وباب ميم الجمع، باب المد والقصر، الخ. ويبدو أن محمد الوهراني قد شرح هذه القصيدة أو شرح (مورد الظمآن) للخراز، لأننا وجدنا له ما يدل على ذلك (3).
وكان محمد بن توزينت العبادي التلمساني من القراء المشاهير أيضا. وقد عرف عنه العلم والجهاد معا. ذلك أنه توفي مجاهدا ضد الإسبان سنة 1118، أي أثناء الفتح الأول لوهران. أما علمه، وخصوصا في القراءات، فيكفي أنه أخرج فيه تلميذه أحمد بن ثابت الذي لعله فاق أستاذه شهرة فيه. وكما أخرج ابن توزينت التلاميذ، ألف تقييدا في القراءات أيضا لعله كان الحافز الرئيسي لتلاميذه لكي يحتذوا حذوه، غير أننا لم نستطع أن نطلع على هذا التقييد لأن النسخة التي حاولنا الرجوع إليها منه مفقودة الآن (4). وقد
__________
(1) انظر الفصل الأول من الجزء الأول.
(2) مخطوطات باريس، رقم 4532 مجموع. انتهى منه الوهراني سنة 899. والنسخة التي اطلعنا عليها تعود إلى سنة 1149 وهي بخط محمد أبو ناب الغريسي. وفيها أخطاء كثيرة. انظر أيضا المكتبة الملكية بالرباط، رقم 4497 مجموع. وتوجد ترجمة الوهراني في (دوحة الناشر) وغيره.
(3) وجدنا في المكتبة الملكية بالرباط رقم 4497 مجموع ما يدل على ذلك حيث العنوان (تعليق على مورد الظمآن للخراز) وإن كنا لم نطلع على هذا العمل.
(4) المكتبة الوطنية، الجزائر، رقم 2243. وقد ذكره تلميذه أحمد بن ثابت في (الرسالة الغراء) ونوه به، كما ذكره أبو راس الناصر في (عجائب الأسفار).
وجدنا في التعريف بهذه النسخة أن صاحبها هو محمد بن علي بن توزينت وأنه من تلاميذ الشيخ محمد السنوسي. ولكننا نستبعد أن يكون ابن توزينت قد تتلمذ على السنوسى وذلك للمسافة الزمنية الطويلة التى تفصل بينهما والصحيح أن يقال إنه تلميذ لتلاميذ السنوسي.
أما تلميذه أحمد بن ثابت صاحب (الرسالة الغراء في ترتيب أوجه القراء) فلا نعرف عن حياته إلا القليل أيضا. فقد ذكر بعض المعلومات عن نفسه في رسالته المذكورة، مثل قراءته على شيخه ابن توزينت. وممن نوهوا به أبو راس الناصر الذي وصفه بالعلم الغزير والجهاد أيضا. فقد أخبر عنه أنه من أهل تلمسان وأنه، قياما بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد حارب أهل تلمسان (حتى دوخهم) (1). وقد مات من أجل ذلك عدد كثير من الطلبة (وهم العلماء وتلاميذهم) وأنه قاد الطلبة في الحرب ضد الإسبان في وهران مثل شيخه ابن توزينت. كما اعتبره أبو راس شيخ مشائخه وقال عنه إنه ترك تلاميذ في القراءات وإنه كان من سلالة سلاطين تلمسان، وقد توفي ابن ثابت في منتصف القرن الثاني عشر. غير أن عبد الرحمن الجبرتي قد حدد تاربخ وفاته بسنة 1151 (2). وقد أورد الجبرتي بعض المعلومات التي تكمل معلوماتنا عن ابن ثابت. فهو عنده (الأستاذ العارف أحمد بن عثمان بن علي بن محمد بن علي بن أحمد العربي الأندلسي التلمساني الأزهري المالكي). ونلاحظ أن الجبرتي لم يذكر كلمة (ثابت) في هذه السلسلة. كما نلاحظ أنه قال عنه إنه أخد الحديث عن علماء المغرب العربي ومصر والحرمين وتصدر للتدريس في هذه الأماكن. بقي علينا أن نتساءل: هل أن أحمد بن ثابت عند أبي راس هو نفسه أحمد بن عثمان عند الجبرتي؟ إن تطابق العصر وتاريخ الوفاة والنسبة إلى تلمسان تجعلنا نرجح أن الاسمين لشخص واحد.
__________
(1) ذكر لي المهدي البوعبدلي في رسالة خاصة أن أحمد بن ثابت قد ثار على الأتراك سنة 1150 وأنه اضطر إلى الهجرة والوفاة في المهجر.
(2) الجبرتي (عجاب الآثار) 1/ 166.
ومهما كان الأمر فإن الذي يهمنا الآن هو رسالة أحمد بن ثابت المذكورة في القراءات (1) فقد اعتمد فيها على المؤلفين السابقين في هذا العلم أمثال الشاطبي صاحب منظومة (حرز الإماني ووجه التهاني) والجعبري وابن الجزري. وكثيرا ما يقول ابن ثابت إنه قرأ هو بقراءة كذا. وبعد أن بين الدوافع التي جعلته يؤلف رسالته أوضح طريقته فيها بقوله: (وبعد، فهذه الرسالة الغراء .. سألنيها بعض الثقات، ليعرف المقدم في وجوه الروات (كذا)، فاستبنت القوي من الضعيف، وباينت المشروف من الشريف ..) ومن عناوينه فيها ذكر اختلافهم - أي القراء - في التعوذ والبسملة وبيان الراجح من ذلك، اختلاف سورة آل عمران، ثم سورة النساء، الخ.
وقد أسهم عبد الكريم الفكون أيضا بالتأليف في القراءات. فقد ذكر أنه ألف عملا سماه (سربال الردة في من جعل السبعين لرواة الاقرا (كذا) عدة). وقد نص على أن هذا التأليف لا يتجاوز كراسة وأنه قد وضعه بعد واقعة وقعت له مع أحد علماء قسنطينة عندئذ، وهو أحمد بن حسن الغربي (2). ويبدو من العنوان ومن ظروف التأليف أن هذه الكراسة عبارة عن مناقشة لما ادعاه الغربي. ولكن معرفتنا لبعض آثار الفكون الأخرى تجعلنا نعتقد أن هذا العمل غني بالآراء والنقول، وأن صاحبه قد عالج فيه أنواع القراءات ورواتها وغير ذلك مما يتصل بهذا الموضوع. ومما يتصل بأوجه القراءات طريقة النطق بالتكبير والصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) عند الختم. وقد ألف في ذلك أيضا أحمد بن ثابت التلمساني، الذي تقدم ذكره، رسالة لا نعرف الآن بالضبط اسمها لأنها مبتورة، والذي نعرفه عنها أن صاحبها قد نظم أبياتا في التكبير عند الختم بطلب من بعض إخوانه ثم شرح الأبيات. وجاء في طالعها:
__________
(1) المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 2245 مجموع، وهي فيه من ورقة 171 إلى 182.
(2) الفكون (منشور الهداية)، مخطوط. وهو محقق ومطبوع.
إذا أدرت الختم للمكي ... من الضحى يروى عن النبي
أما الشرح فقد بدأه بهذه العبارات (وبعد، فلما كان التكبير سنة مأثورة على أهل مكة، وكان نظر شيخنا سيدي محمد بن توزينت كافيا في معرفة وجهه وكيفية تلاوته حالة الختم، واستكثره بعض الأخوان، وليس بكثير) (1)، أنشأ الأبيات المذكورة همع شرحها تلبية لمن طلبه ذلك.
الحديث
من العلوم التي أنتج فيها الجزائريون علم الحديث ومصطلحه. فقد اعتنوا به تدريسا وتأليفا ورواية وإجازة. ولا شك أن ذلك يعود إلى صلة علم الحديث بالدين وبالتصوف معا. كما يعود إلى كون علم الحديث يعتمد إلى حد كبير على الحفظ، وهم حفاظ مهرة حتى اشتهروا بذلك منذ القديم. وكان العمل عندهم بالكتب الستة، يدرسونها ويسندونها ويحفظونها أحيانا، ولكن عنايتهم بصحيح البخاري قد فاقت كل عناية. فهو الكتاب الذي كان متداولا لديهم أكثر من غيره، ولعله قد بلغ عند بعضهم مبلغ القداسة، فكتبوا عليه الشروح والحواشي، وتدارسوه للبركة والحفظ، واستعملوه في المناسبات الدينية والحربية، واهتموا به عند القراءة حتى لا تقع أخطاء في معانيه.
ولا نكاد نجد مدرسا من المدرسين البارزين الذين ذكرناهم إلا وقد برع في تدريس الحديث أيضا. وأهم الأماكن التي كان يدرس بها الحديث هي الجوامع الكبيرة احتراما له. وكان بعضهم يبالغ فيضيف إلى جو الدرس جوا آخر من البهجة والسرور برش ماء الورد في نهاية ختم البخاري، وإلقاء جملة من الأدعية المناسبة، وترنيم الأحاديث بصوت رخيم. وكان لا يتولى إملاء الحديث إلا كبار العلماء وذوو الأصوات الحسنة والجهورية. فهذا
__________
(1) المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 2254 مجموع. لا يوجد منها سوى ورقتين مع (الرسالة الغراء) لنفس المؤلف. ولا نعرف مصدرا آخر لباقيها.
عبد الرزاق بن حمادوش، الذي تولى سرد صحيح البخاري في الجامع الكبير بالعاصمة، يروي أن ممليه كان محمد بن سيدي الهادي وأحمد العمالي والمفتي الحاج الزروق وعبد الرحمن الزروق، وغيرهم. وكان يميز من كان له صوت جهوري سليم ومن كان صوته ضعيفا وغير فصيح (1). كما تضمنت رحلة ابن عمار (2) ومذكرات الزهار وغيرهما المناسبات الدينية والاجتماعية التي يتلى فيها البخاري وطريقة التلاوة وزمنها ونحو ذلك. كما أن مصادر الحملات العسكرية ضد الأجانب تضمنت وصفا للجوء العلماء الجزائريين، أحيانا بأمر السلطات السياسية، لقراءة صحيح البخاري في المساجد أو بين أيدي المقاتلين. ومن ذلك ما رواه ابن زرفة في (الرحلة القمرية) (3) وابن سحنون في (الثغر الجماني) من أن الباي محمد الكبير قد أمر العلماء والطلبة بقراءة صحيح البخاري عند الحملة ضد الإسبان بوهران. وبالجملة فإن مكانة صحيح البخاري في الحياة الدينية والاجتماعية في الجزائر خلال العهد العثماني مكانة عظيمة حتى أن صحيح البخاري كاد ينافس المصحف في كثرة الاستعمال (4).
فإذا عدنا إلى الأثبات والفهارس وجدنا ثروة كبيرة تركها الجزائريون بهذا الصدد. كما أن إجازتهم لغيرهم قد تضمنت روايتهم للحديث وشيوخهم ونحو ذلك مما يتصل بالسند. وكان الجزائريون حريصين في أسفارهم وحجهم على الدراسة وطلب العلم، ولا سيما علم الحديث، للأسبالب التي ذكرناها في الجزء الأول، وعلى رأسها عدم وجود معاهد عليا للتعليم في
__________
(1) ابن حمادوش (الرحلة) مخطوط. انظر أيضا دراستي عنه في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، ج 1، ط 3، 1990.
(2) الحاج صادق، المولد عند ابن عمار (بالفرنسية)، دمشق، 1957.
(3) هوداس (مخطوط عربي عن خروج الإسبان من وهران) في وقائع مؤتمر المستشرقين الرابع عشر، الجزائر 1905.
(4) عالج ذلك محمد بن أبي شنب (وصول صحيح البخاري إلى سكان مدينة الجزاثر) في بحث قدمه إلى مؤتمر المستشرقين الرابع عشر، الجزائر 1905.
بلادهم. فكانوا إذا حلوا بالمغرب أو بتونس، بمصر أو بالحرمين، بالشام أو العراق 0 يتتلمذون على أكابر العلماء إلى أن ينالوا منهم سعة الاطلاع والتعمق في المعارف ويحصلون منهم على الإجازات في مختلف العلوم، وخصوصا علم الحديث وكان علماء الجرائر بدورهم ينشرون هذا العلم عن طريق الإجازة ونحوها بالشروط المعروفه لديهم عندئذ. وبذلك ساعدوا من جهتهم على نشر علم الحديث وأظهروا العناية به. وقد ساعدتهم في ذلك قوة الحافظة التي أشرنا إليها. وهكذا فعل كبار علماء الجزائر أمثال عبد الكريم الفكون وابن العنابي وعلي بن الأمين وعيسى الثعالبي، وأحمد البوني، وأحمد بن عمار وأبو راس الناصر ويحيى الشاوي.
ولم يكن الحديث يدرس لذاته فقط بل كان يدرس أيضا للعمل به في مجالات المعرفة المختلفة. فالحديث قبل كل شئ مصدر من مصادر التشريع الإسلامي. وفي ضوء ذلك عمد الجزائريون إلى دراسة الطب النبوي وسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) والصحابة، وما إلى ذلك من القضايا التي تضمنها الحديث. فقد ألف محمد بن علي بن أبي الشرف التلمساني كتابا كبيرا في أجزاء جرده من كتاب الشفا للقاضي عياض سماه (المنهل الأصفى في شرح ما تمس الحاجة إليه من ألفاظ الشفا) كما قام بشرح ما أخذه من الشفا. وكان المؤلف قد أخذ الشفا إجازة عن ابن غازي بفاس سنة 913. وبعد أن تشبع بالثقافة الجزائرية والمغربية توجه ابن أبي الشرف إلى المشرق حيث كان موجودا بمكة المكرمة سنة 930، ومن هناك انقطعت عنا أخباره فلعله ظل مجاورا بالحرمين إلى أن أدركته الوفاة في تاريخ ما زلنا نجهله. وطريقة الشرح التي اتبعها ابن أبي الشرف ليست جديدة، فهو يعمد إلى شرح الألفاظ التي انتقاها من الشفا شرحا لغويا ثم دينيا، ولكن بأسلوب سهل واضح (1).
__________
(1) اطلعنا على نسخة الخزانة العامة بالرباط، ك 340. وتوجد منه نسخة أخرى في المكتبة الوطنية بالجزائر، رقم 2113 وهناك نسخة أخرى منه مأخودة عن خط مؤلفه بالزاوية الحمزية بالمغرب رقم 468. وتاريخ النسخة 971. انظر (مجلة تطوان)، 8.
وقد ترك أحمد المقري عدة تآليف في علم الحديث والسنة النبوية.
وكان مشهورا برواية الحديث الذي أخذه عن علماء المغرب والمشرق. ومما أخذه عن عمه سعيد المقري بتلمسان سنده في الكتب الستة إلى القاضي عياض. وكان المقري قد تصدر لتدريس صحيح البخاري في الجامع الأزهر حتى بهر الحاضرين، كما وفد على المدينة المنورة سبع مرات وأملى الحديث النبوي عند قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم). وقد أملى صحيح البخاري بالجامع الأموي بدمشق أثناء درس كان يلقيه بعد صلاة الصبح. ولما كثر الناس حوله خرج إلى صحن الجامع. وحضر درسه غالب أعيان دمشق وجميع الطلبة، كما يقول المحبي. وكان يوم ختم البخاري (حافلا جدا اجتمع فيه الألوف من الناس وعلت الأصوات بالبكاء فنقلت حلقة الدرس إلى وسط الصحن إلى الباب الذي يوضع فيه العلم النبوي في الجمعات من رجب وشعبان ورمضان. وأتي إليه بكرسي الوعظ فصعد عليه وتكلم بكلام في العقائد والحديث لم يسمع نظيره أبدا، وتكلم على ترجمة البخاري. وكانت الجلسة من طلوع الشمس إلى قرب الظهر، ثم ختم الدرس بآيات قالها حين ودع المصطفى (صلى الله عليه وسلم). ونزل عن الكرسي فازدحم الناس على تقبيل يده. ولم يتفق لغيره من العلماء الواردين إلى دمشق ما اتفق له من الحظوة وإقبال الناس) (1) وكان ذلك قبل وفاة المقري بأربع سنوات. ومن تآليف المقري في السنة النبوية (فتح المتعال في مدح النعال) (2) وهو بحث في النعال النبوية ألفه في المدينة المنورة، و (أزهار الكمامة في أخبار العمامة ونبذة من ملابس المخصوص بالإسراء والإمامة)، وهو بحث في عمامة وملابس النبي (صلى الله عليه وسلم). كما ألف كتابا في الأسماء النبوية سماه (الدر الثمين في أسماء الهادي الأمين) (3)، وسنذكر ما للمقري من أثبات بعد قليل.
__________
(1) خلاصة الأثر، 1/ 305.
(2) طبع قي حيدر أباد سنة 1334.
(3) الكتاني فهرس الفهارس 2/ 14، وخلاصة الأثر 1/ 303، وفهرس دار الكتب المصرية رقم 24260 ب.
وكان مختصر ابن أبي جمرة لصحيح البخاري متداولا أيضا بين الجزائريين. وقد شعر عبد الرحمن بن عبد القادر المجاجي أن هذا المختصر في حاجة إلى شرح يضبط ألفاظه ويقرب معانيه فقام بعمل ضخم بهذا الصدد، وسمى شرحه (فتح الباري في ضبط ألفاظ الأحاديث التي اختصرها العارف بالله (ابن أبي جمرة) من صحيح البخاري). وكان المجاجي قد درس أولا في موطنه مجاجة وفي تلمسان ثم في فاس على عدة شيوخ. وكان دافعه إلى القيام بهذا العمل الغيرة على قراءة الحديث حتى لا تقع فيه الأخطاء أثناء القراءة، وكون شيخه، محمد بن علي أبهلول، كثيرا ما فكر في كتابة عمل من هذا النوع، ولكن الأقدار لم تسعفه. لذلك قام هو بالمهمة. وقد بدأ المجاجي بتعريف علم الحديث، فقال: (علم الحديث من أجل العلوم قدرا، وأعلاها منزلة وخطرا، وكان الناس مقبلين على قراءة جامع البخاري عموما وعلى ما اختصر منه الشيخ العارف بالله ابن أبي جمرة .. خصوصا .. وكانت قراءة الحديث تحتاج إلى شروط جمة، وتلزمها آداب مهمة، أعظمها الاحتراز من الخطأ في إعرابه، ومن اللحن في مضبوط ألفاظه، فتحرك مني الغرام الساكن لضبط تلك الأماكن ..) وفي المقدمة التي وضعها المجاجي لشرحه بابان الأول في التعريف بالمصنف (البخاري) والثاني في علم الحديث على الجملة، وجعل كل باب يحتوي على فصول، كآداب معرفة الحديث، وكيفية روايته، وكيفية كتب الحديث وضبطه، وبعض ألقاب الحديث الخ. أما الكتاب جملة فقد قسمه إلى كتب، فهناك كتاب للبيع، وآخر للشركة، وثالث للصوم، ورابع للهبة الخ. وقد وضع بعض المصطلحات في المنقول عنهم: فحرف الحاء (ح) يشير إلى القاضي عياض، وهكذا. كما أنه نقل كثيرا عن أستاذه محمد بن علي أبهلول (1).
__________
(1) الخزانة العامة بالرباط، رقم ك 1775 في حوالي 300 ورقة وبخط جيد، وهناك نسخة أخرى برقم ك 1065 غير جيدة وغير كاملة ويبلغ الموجود منها 416 صفحة. ومنه نسخة أيضا في المكتبة الملكية بالرباط رقم 5714 (1). ومن الملاحظ أن أبا راس قد أوضح أن عبد الرحمن المجاجي كان تلميذا لابني علي أبهلول، وهما =
وهناك تآليف أخرى في علم الحديث والسنة، من ذلك تأليف عبد العزيز الثميني الذي سماه (مختصر حاشية مسند الربيع بن حبيب) وهو في ثلاثة أجزاء. وحاشية أحمد بن عمار على صحيح البخاري. وقد عرف ابن عمار السند وفضله على الأمة الإسلامية، مستعيرا تعريفه من محمد بن أبي حاتم بن المظفر 0 وكان ابن عمار من المسندين المعروفين في وقته. وسنذكر ثبته فيما بعد (1). ومثله عيسى الثعالبي الذي وضع رجزا سماه (مضاعفة ثواب هذه الأمة) (2). ولعل عنوان الرجز غير كامل، ولعل الثعالبي قد قام بشرحه وإبراز أفكاره وإثراء عمله بالاستشهادات. وهناك عمل آخر ينسب إلى قاسم بن محمد ساسي البوبي سماه (المنحة الإلهية في الآيات الإسرائية) (3). كما ينسب إلى أحمد بن ثابت البجائي عمل في الحديث هو (التفكر والاعتبار في الصلاة على النبي المختار) (4). أما محمد بن أحمد الشريف الجزائري فقد وضع رسالة في الطب النبوي سماها (المن والسلوى في تحقيق معنى حديثا لا عدوى). وقد حلل فيها معنى الحديث من جميع النواحي. وأهداها بنفسه إلى السلطان العثماني في وقته أحمد باشا (سنة 1149) (5). كما نظم محمد بن علي المعروف بأقوجيلي (القوجيلي) الجزائري منظومة سماها (عقد الجمان اللامع المنتقى من قعر بحر الجامع)،
__________
= محمد وأبو على، وليس لوالدهما. انظر (عجائب الأسفار)، مخطوط الجزائر، 138. ولا ندري الآن ما إذا كان عبد الرحمن المجاجي هو نفسه مؤلف (التعريف بأهل بدر) الذي يذكر مؤلفه أنه عبد الرحمن بن علي الراشدي. المعرض الثالث لجائزة الحسن الثاني للمخطوطات (مركز الرباط، 1971).
(1) محمد بن أبي شنب (وصول صحيح البخاري إلى أهل مدينة الجزائر) محاضر. مؤتمر المستشرقين 14، الجزائر 1905.
(2) بروكلمان 2/ 939. وهو في علم الحديث.
(3) بروكلمان 2/ 691. ولعل هذا العمل من تآليف أحمد البوني.
(4) بروكلمان 2/ 939. ولا نعرف الآن عصر البجائي.
(5) اطلعنا على هذه الرسالة في مكتبة كوبروللو بإسطانبول، وهي في 13 ورقة وخطها رقعي وجيد، ورقمها 69.
وهي منظومة في مخرجي أحاديث الجامع الصحيح للبخاري وعدد الأحاديث التي لكل منهم، ومن هو المكثر ومن هو المقل في السند على ما أورده ابن حجر. وزاد عليه القوجيلي التعريف بالوفاة وتكملة تراجم الرواة (1). وقد قام أحمد بن قاسم البوني باختصار مقدمات فتح الباري على البخاري (2). كما جمع محمد بن أبي الحسن بن محمد العربي التلمساني حوالي خمسمائة حديث ووضعها في مائة واثني عشر بابا وسمى ذلك (الهادي للمهتدي) (3). ويمكن القول إنه برغم عناية الجزائريين بالحديث، وبصحيح البخاري خصوصا، فإن تآليفهم فيه لا تقارن هذه العناية. حقا إن لهم أعمالا أخرى في السيرة النبوية عموما وبعض الأعمال المستمدة من الأحاديث، ولكن يظل ميدان التأليف في علم الحديث يكاد يكون خاليا إلا من بعض الأمور التقليدية مثل الشروح والحواشي والرسائل الصغيرة والأراجيز، ولا شك أن هناك بعض الأعمال التي فاتنا التنبيه عليها. ولعل في جهود الجزائريين في ميدان الأثبات والفهارس والإجازات ما يعوض هذا النقص في التأليف في علم الحديث.
الأثبات
شاع في الجزائر خلال العهد المدروس حفظ الحديث وإسناده وقراءته وإقراؤه. كما شاعت كتابة الأثبات أو (الفهارس أو البرامج) التي كان العالم يسجل فيها مروياته في الحديث بالسند، والكتب التي قرأها مثل صحيح
__________
(1) دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، مجموع رقم 52 من ورقة 29 - 47. وبناء على هذا المصدر فإن القوجيلي قد توفي سنة 1080. انظر عنه فصل الشعر أيضا.
(2) نسخة منه في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية (قسم يهودا) رقم 450. وعنوانه هناك هو (مختصر مقدمات فتح الباري). وهو بخط المؤلف بتاريخ 1113. انظر أيضا فهرس الفهارس 1/ 169، وبروكلمان 2/ 715، انظر أيضا ترجمة أحمد البوني في هذا الفصل.
(3) نسخة منه في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية (قسم يهودا) رقم 5681 مجموع. وقد كتبه مؤلفه سنة 1156.انظر أيضا بروكلمان 2/ 611.
البخاري وغيره من الكتب الستة المشهورة، كما يسجل شيوخه الذين درس عليهم، ولا سيما شيوخه في علم الحديث. وكانت هذه الأثبات تتداول بين العلماء ولا تعرف حدودا لا في البلد الواحد ولا خارجه، فهي تتنقل مع الحجاج أو ترسل بالبريد أو تحفظ عن ظهر قلب أو تكتب مطولة أو مختصرة في شكل إجازات، كما سنرى. وكانت الأثبات ورواية علم الحديث وإجادة السند مما يتفاخر به العلماء ويتباهون به فيما بينهم. ويعتبر الثبت الغني بالشيوخ والإجازات والقراءات علامة على تبحر العالم في علمه وعلى بلوغه ما يشبه الكمال عندهم. لذلك قل كتاب الأثبات لقلة الأكفاء في علم الحديث وكثر، من جهة أخرى، طلاب الإجازات وسهل منحها، لأنها تعتبر شهادات علمية ومدخلا للكفاءة في التدريس ونحوه. وكان يكفي أن يقال عن فلان إنه (حافظ) حتى تشرئب إليه الأعناق وتقطع إليه المسافات لنيل الإجازة منه ورواية الحديث وغيره عنه.
وإذا نظرنا إلى الناحية الشكلية فإن الثبت يكتب إما كسجل تاريخي شخصي، وإما لمنحه إجازة لأحد العلماء الراغبين. ولدينا الآن نماذج للنوعين. ولكن الإجازة قد تكون اختصارا لما في الثبت من مطولات. مثلا، كتب أحمد بن عمار ثبته مطولا ولكنه عندما أجاز عالم دمشق محمد خليل المرادي اكتفى بتعداد القليل من شيوخه ومروياته. وكذلك فعل ابن العنابي مع محمد بيرم التونسي. وكان العلماء يعتقدون أنهم بهذه الطريقة (كتابة الأثبات ومنح الإجازات) يحافظون على علم الحديث رواية ويصلون السند بعضه ببعض مهما تباعدت الحقب. والواقع أنهم بذلك خلقوا استمرارية واضحة بين الأجيال في هذا الفرع الهام من فروع المعرفة الإسلامية. ويكفي أن يقال مثلا أن ابن باديس في القرن الرابع عشر الهجري كان يروي الحديث عن أحمد الونشريسي في القرن العاشر، بينما لم يجتمعا ولم يتتلمذ أحدهما على الآخر وإنما وقعت للأول رواية الحديث عن طريق السند من الثاني. ومن أشهر الجزائريين الذين رويت عنهم الأحاديث سعيد قدورة وأحمد بن عمار وعلي بن الأمين وعيسى الثعالبي وسعيد المقري.
ومن الجزائريين الذين انتقل منهم علم الحديث إلى علماء آخرين نذكر محمد التنسي وابن مرزوق المعروف بالكفيف، ومحمد بن يوسف السنوسي وعبد الرحمن الثعالبي ومحمد بن عبد الكريم المغيلي وأحمد الونشريسي (1). وكان لهؤلاء تلاميذ أخذوا عنهم علم الحديث جيلا بعد جيل. وقد اشتهروا (بالحفظ) وهي الظاهرة العامة التي تحدثنا عنها. ولذلك أشير إلى محمد بن عبد الله بن عبد الجليل التنسي بأنه (الإمام المحدث الحافظ) وسماه بعضهم (ببقية الحفاظ). ومهما يكن من شيء فإن ثبت التنسي قد وصل إلى العهد العثماني عن طريق سعيد قدورة وأحمد المقري وغيرهما.
ومن الذين تركوا (ثبتا) أوائل العهد العثماني محمد شقرون بن أحمد الوهراني. وقد قيل إن ثبته يقع (في جزء لطيف) مما يبرهن على كثرة شيوخه ومروياته. والمعروف عن الوهراني أنه قد ألف في علوم أخرى أيضا وكان واسع الاطلاع بحكم الدراسة والتنقل (2). ولا نعرف أن عمر الوزان وعبد الرحمن الأخضري وسعيد المقري قد تركوا أثباتا بشيوخهم وأسانيدهم. وقد اشتهر في القرن الحادي عشر عدد من العلماء الذين ولعوا بالحديث رواية ودراية وتركوا وراءهم مروياتهم وشيوخهم في فهارس تحمل أسماءهم أو نقلوا مروياتهم إلى تلاميذهم فأخذوها عنهم مشافهة. وكان حظ بعض التلاميذ أوفر من حظ الأساتذة في تسجيل هذه الآثار. ولعل أبرز من سجل المرويات وولع بالحديث دراية ورواية أبو مهدي عيسى الثعالبي الذي ترك سجلا حافلا بذلك. ولأهمية عمله سنفرد له ترجمة في هذا الفصل. وقد كان أحمد المقري، رغم ولوعه بالأدب والتاريخ، قد أخذ سند الحديث عن
__________
(1) عن هؤلاء العلماء انظر الفصل الأول من الجزء الأول. باسثناء ابن مرزوق الكفيف الذي لم نذكره هناك. وهو من مشاهير المسندين أيضا حتى سماه معاصره أحمد الونشريسي (بالحافظ المصقع). وقد أخذ العلم عن والده محمد بن مرزوق الحفيد وعبد الرحمن الثعالبي، كما حج وأخذ عن علماء المشرق والمغرب. وتوفي سنة 901. وله (ثبت) يرويه عنه العلماء. انظر عنه (فهرس الفهارس) 1/ 197.
(2) (دليل مؤرخ المعرب) 2/ 300. توفي الوهراني حوالي 929.
شيوخه من المغرب والمشرق، كما عرفنا. وتضمن كتابه (روض الآس العاطر الأنفاس في ذكر من لقيته من علماء مراكش وفاس) مجموعة من شيوخه في السند. وذكر بعض الباحثين أن للمقري أيضا (فهرسة) بأسانيده (1). وقد كان المقري في معارفه الكثيرة وطموحه البعيد ومحفوظه الغزير نقطة مضيئة في ظلام الثقافة الجزائرية خلال العهد العثماني (2).
وشهد القرن الثاني عشر أيضا موجة أخرى من العناية بالحديث رواية ودراية على يد مجموعة من العلماء، منهم المنور التلمساني الذي لا نكاد نعرف له تآليف غير مجموعة من الإجازات التي منحها له شيوخه في المغرب والمشرق. ومن شيوخه في الجزائر مصطفى الرماصي. وأما مشائخه في المشرق فقد ذكر منهم عبد الحي الكتاني أبا عبد الله محمد المسناوي وستة آخرين. وقد حصل الكتاني على معظم إجازات المنور. والأوصاف التي أطلقت على هذا الشيخ تدل على باعه الطويل في علم الحديث والسند حتى أن محمد مرتضى الزبيدي قال عنه: (العالم الفاقد للأشباه .. عالم قطر المغرب). ولعل هذا الإعجاب بالشيخ المنور يعود إلى كونه من الذين أجازوا الزبيدي أيضا. وقد توفي المنور بمصر أثناء عودته من الحج سنة 1172. ويؤكد الكتاني أن علماء الجزائر في وقته كانوا يروون مرويات المنور في الحديث (3).
وكان المنور التلمساني معاصرا لأحمد بن عمار الذي يعتبر من مسندي العصر ومن المؤلفين في السند أيضا. كان ابن عمار أديبا فقيها بالدرجة الأولى، ولكن تأثير العصر جعله يعيش عيشة العلماء الفقهاء أيضا. فأخذ الطريقة الشادلية عن المنور التلمساني، وأخذ (طريق القوم) عن
__________
(1) الكتاني (فهرس الفهارس) 2/ 13. انظر أيضا (خلاصة الأثر) 1/ 305. وله سند برواية صحيح البخاري مع إجازته لعيسى العجلوني في دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 335 مجموع.
(2) ستفرد للمقري ترجمة في فصل الأدب من هذا الجزء.
(3) الكتاني، 2/ 9. انظر عنه أيضا في الإجازات.
عبد الوهاب العفيغي بمصر. ولعله أخذ أيضا غير ذلك من عهود الطرق الصوفية عندما كان في الحجاز. أما الحديث، ولا سيما صحيح البخاري، فقد رواه عن خاله محمد بن سيدي هدى الجزائري ومحمد بن سيدي الهادي. كما روى علم الحديث عن علماء بمصر والحرمين وسجل بعضهم في إجازته لمحمد خليل المرادي الشامي. وقد عد له الكتاني تسعة أساتذة على الأقل يروى عنهم بأسانيدهم. وتنقل ابن عمار كثيرا بين الجزائر ومصر وتونس والحرمين، كما سنرى. وكان له نشاط أدبي في كل هذه البلدان.
وقد جمع تلميذه إبراهيم السيالة التونسي إجازات شيخه ومروياته فإذا هي تبلغ نحو الكراستين وتسمى: (منتخب الأسانيد في وصل المصنفات والأجزاء والمسانيد). وعندما اطلع عليها ابن عمار سنة 1204 أجازه بها ووضع عليها خطوطه وختمه. وقد اطلعنا نحن على خط وختم ابن عمار في إجازاته للمرادي سنة 1205، وهي الإجازة التي كتبها بنفسه. وكان لرواية الحديث بطريقة ابن عمار تأثير على علماء العصر حتى أن معظم علماء الجزائر يروون عنه، ومنهم أبو راس وعبد الرحمن بن الحفاف (1) ومصطفى الكبابطي وأحمد بوقندورة وغيرهم (2) ولابن عمار تلاميذ كثيرون من المشرق والمغرب. فبالإضافة إلى من ذكر، هناك أحمد الغزال المغربي، وعمر بن عبد الكريم المعروف بابن عد الرسول المكي الحنفي شيخ الإسلام (3)، وغيرهما.
والمعروف أن أبا راس الناصر كان من أكثر العلماء إنتاجا في عصره. وكان إنتاجه متنوعا تنوع ثقافته. ومن الصعب دراسته في باب معين، ولكننا
__________
(1) كان حيا سنة 1213 إذ وجدناه يحضر مجلس البخاري بالعاصمة دراية ورواية ويتقاضى عن ذلك ريالا في كل شهر، الأرشيف دفتر (288) 41 - 228 mi .
(2) الكتاني، 2/ 26، 1/ 82 - 83 والحاج صادق (المولد عند ابن عمار) 289. انظر ترجمة ابن عمار في فصل الأدب من هذا الجزء.
(3) عن هذا الأخير انظر (فيض الملك المتعالي) لعبد الوهاب عبد الستار، 2/ 93. مخطوط بمكتبة الحرم الشريف.
سنفرد لأبي راس دراسة في فصل التاريخ لغلبة هذا العلم على إنتاجه. وحسبنا هنا منه إنتاجه في سند علم الحديث. ذلك أنه قد أخذ هذا العلم على كثير من العلماء في المغرب والمشرق أيضا لكثرة أسفاره وتتلمذه هنا وهناك.
ومن الذين أخذ عنهم في الجزائر أحمد بن عمار وعلي بن الأمين، ومحمد بن جعدون، ومحمد بن مالك، ومحمد بن الشاهد، وأحمد العباسي، أما في المشرق فمن أبرز أساتذته محمد مرتضى الزبيدي ومحمد الأمير.
وقد خص أبو راس، الزبيدي بثبت سماه (السيف المنتضى فيما رويته عن الشيخ مرتضى)، وأدرج الجميع في عمله المعروف بـ (لب أفياخي في تعداد أشياخي) الذي لخصه في رحلته (فتح الإله ومنته في التحدث بفضل ربي ونعمته). وفي هذه الرحلة عدد أبو راس أيضا فضل الله عليه في التأليف والمشيخة ونحو ذلك. كما أنه ذكر هناك تآليفه الأخرى في علم الحديث.
ومن المعاصرين لأبي راس أبو طالب محمد المعروف بابن الشارف المازوني الذي توفي سنة 1233 بمازونة عن نيف ومائة سنة. والمازوني يشبه محمد المنور التلمساني في كونه غير معروف بتآليفه. فأسانيده التي وصلت إلينا توجد في مجلد وسط، حسب تعبير الكتاني، وقد جمعها عبد القادر بن المختار الخطابي الجزائري وسماها (الكوكب الثاقب في أسانيد الشيخ أبي طالب). والخطابي من سلالة المازوني ومن سلالة أبي راس أيضا. وقد تنقل الشيخ الخطابي بين الجزائر وتونس ومصر، وفي مصر أكمل تأليفه المذكور، ولعله توفي فيها أيضا سنة 1236. وقد رأى الكتاني نسخة من (ثبت) أبي طالب في مازونة (1).
ويشترك الطاهر المشرفي وحمودة المقايسي مع ابن الشارف المازوني ومحمد المنور في قلة الإنتاج والشهرة بين المعاصرين برواية الحديث وحفظ السند. فقد كان للطاهر بن عبد القادر المشرفي المعروف بابن دح (ثبت)
__________
(1) الكتاني 1/ 382.
أيضا يرويه العلماء ويتداولونه، وهو الثبت الذي كان قد أجاز به تلميذه ابن عبد الله سقط الذي سنتحدث عنه. ورغم أن الطاهر المشرفي قد تولى القضاء في وهران في أواخر العهد العثماني فإننا لا نعرف عن حياته الآن إلا القليل. ومن ذلك أنه هو شارح (النصيحة الزروقية) في التصوف، وانه كان قد أخذ العلم بفاس وأن من شيوخه بالإجازة عبد القادر بن شقرون والطيب بن كيران، وكلاهما قد أجازه إجازة عامة شملت كل ما عندهما. وقد توفي المشرفي بوهران ولكننا لا ندري الآن متى كان ذلك (1). ومن جهة أخرى لا ندري ما حجم هذا الثبت ولا ما اشتمل عليه من المسائل.
أما حمودة بن محمد المقايسي فيبدو أكثر ثقافة من سابقه أو على الأقل نعرف نحن عنه أكثر مما نعرف عن زميله. فقد ولد بمدينة الجزائر ولعله أخذ بها العلم، ثم توجه إلى المشرق حيث تتلمذ على عدد من الشيوخ ذوي الشهرة الواسعة عندئذ، كالزبيدي ومحمد الأمير وحسن العطار ومحمد الدسوقي وحجازي بن عبد المطلب العدوي، كما أذنوا له بالتدريس هناك. وكان الأزهر في الوقت الذي درس فيه حمودة المقايسي يعج بالأفكار والتيارات فتأثر بذلك. ثم حل بتونس ولكنه عاد إلى بلاده يحمل بعض هذه التيارات والأفكار فلم يستطع أن ينشرها، لأسباب لا نعرفها، فاشتغل، بدلا من التدريس ونشر الأفكار، بصنعة المقايس التي كان ينال منها رزقه، وقد مات فقيرا في الجزائر أيضا سنة 1245. ومن الذين أجازوا المقايسي محمد مرتضى الزبيدي الذي عمم له الإجازة وسماه فيها (الشيخ الصالح الوجيه الورع الفاضل المفيد السيد الجليل والماجد النبيل). كما أجازه محمد الأمير وكذلك الدسوقي والعدوى. وممن أجازوه من الجزائريين محمد بن عبد الرحمن الأزهري منشئ الطريقة الرحمانية. ولعل ذلك كان أثناء إقامتهما معا في مصر. وقد جمع المقايسي أسانيده في (ثبت) خاص (2).
__________
(1) الكتاني 1/ 350، انظر أيضا (فيض الملك المتعال) 2/ 57.
(2) الكتاني 1/ 256 وتعريف الخلف 2/ 140. لا ندري متى عاد المقايسي إلى الجزار، والظاهر أن ذلك كان بعد سنة 1212 لأنه كان بالقاهرة في هذا التاريخ.
وكان علي بن عبد القادر بن الأمين يعتبر في عصره من أعيان العلماء.
ورغم أنه تولى الإفتاء عدة مرات، فإن شهرته كانت تقوم على العلم وليس على الجاه والوظيفة. فقد كان علوي النسب أندلسي الأصل، كما أنه كان شاذلي الطريقة، على عادة معظم علماء الجزائر في وقته. وهو من مواليد الجزائر ولكنه أخذ العلم بها وبالمشرق ولا سيما مصر، وهو يروي عن شيوخ كثيرين ذكرهم في إجازته للشيخ السنوسي الراشدي سنة 1189. كما إنه كتب (ثبتا) في نحو الكراسة ضمنه مروياته وشيوخه. وقد قيل عن ابن الأمين إنه كان (مجدد رونق العلم) بالجزائر. وهو أستاذ محمد بن محمود بن العنابي الذي روى عنه (ثبت الجوهري) بالإجازة، وكان ابن الأمين قد رواه أيضا بالإجازة عن شيخه أحمد الجوهري. وقد قال ابن العنابي عن أستاذه أنه كان يجيز كل من أدرك حياته، وقد توفي ابن الأمين بالجزائر سنة 1236 (1).
ويعتبر ابن العنابي من تلاميذ علي بن الأمين لا في الدراسة عليه فقط ولكن في تقليده في منح الإجازات أيضا. ولا نريد هنا أن نستوفي حياة ابن العنابي ما دمنا قد فصلناها في كتابنا عنه (2). والذي يهمنا هنا هو وضع ابن العنابي بين معاصريه في علوم الحديث وروايتها. فقد ولد بالجزائر سنة 1189 وأخذ بها العلم عن مشائخ ذكرهم في (ثبته) المعروف (بثبتالجزائري) ومنهم والده وعلي بن الأمين. كما أنه أخذ العلم في مصر والحرمين. وكان ابن العنابي قد زار أيضا المغرب وتونس وإسطانبول. وفي الأزهر جلس للتدريس والتأليف ومنح الإجازات. ومن الذين خصهم بثبته
__________
(1) الكتاني 2/ 173. انظر (ثبت الجزائري) لابن العنابي، دار الكتب المصرية، تيمور، مصطلح حديث، 167، وكذلك رقم 597، ورقم (118 تيمور). وانظر كتابي (المفتي الجزائري ابن العنابي). وأخبار ابن الأمين مبثوثة في الأرشيف، لاسيما سنوات توليه الإفتاء وعلاقت بالعلماء المعاصرين. انظر مثلا (288) - 41 - mi 228.
(2) المفتي الجزائري (ابن العنابي) الجزائر 1977.
المذكور إبراهيم السقا وعبد القادر الرافعي (1).
ومن مسندي أوائل القرن الماضي زيد العابدين المشرفي المعروف بابن عبد الله سقط. وقد لعب هذا الشيخ دورا في الأحداث التي جرت بين الجزائريين والفرنسيين. وتهمنا هنا الناحية العلمية من حياته. فقد تثقفبالجزائر على عدد من شيوخ الناحية الغربية، ومنهم أبو راس، ثم رحل إلى المشرق فأخذ العلم إجازة من بعض العلماء هناك. وقد وصفه أبو حامد المشرفي في كتابه (ياقوتة النسب الوهاجة) أنه كان كثير الحفظ حتى أنه كان يحفظ صحيح البخاري متنا وإسنادا كما كان يحفظ صحيح مسلم، بالإضافة إلى حفظ السيرة النبوية والأخبار والتواريخ وشيوخ المذهب. وله (فهرسة) تشهد له بذلك. ومن جهة أخرى ذكر له الكتاني مجموعة من الشيوخ الذين قرأ عليهم وأجازوه بالمغرب والمشرق (2).
الإجازات
إذا كانت الإجازة تعتبر (شهادة كفاءة) أو تأهيل يستحق بها المجاز لقب الشيخ أو الأستاذ في العلوم المجاز بها، فإنها بتقادم العهد أصبحت لا تعني كل هذا، لتساهد المجيزين في منحها. فلم يعد هناك تحقق من المجازين في كفاءتهم ودرايتهم بالعلوم ولا من أخلاقهم وسلوكهم، كما أن الإجازة لم تعد تقيد بالقراءة والمشافهة أو حتى بالجزء المقروء من الكتاب، فقد أصبحت
__________
(1) دار الكتب المصرية، تيمور، مصطلح حديث، 167، 597. وإجازته للسقا تاريخها 1242.
(2) الكتاني 2/ 15. ولعل ابن عبد الله سقط هو نفسه الذي قيل إن محمد النفزي الفاسي، مفتي المالكية بمكة والمتوفى بها سنة 1245، قد أجازه. فقد وجدت في فهرسة النفزي إجازة لمن اسمه أبو محمد عبد القادر الشهير بابن عبد الله (كذا ولم ترد معها عبارة سقط) المشرفي الراشدي المعسكري، وهذا الفهرس قد جمعه أحمد بن محمد بن عجيبة المتوفى سنة 224 1. دار الكتب المصرية، مصطلح حديث (مجاميع 7، ش).
تمنح بالمراسلة والسماع، كما أنها أصبحت تعطي مطلقة في كل العلوم وكل الكتب التي تعلمها المجيز سواء قرأها المجاز أم لا. وهذا التساهل نتج عنه ضعف مستوى التعليم لأن المجازين أصبحوا يتصدرون للتدريس ويمنحون بدورهم الإجازات لغيرهم في علوم وكتب لم يدرسوها على أحد.
ومن جهة أخرى خضعت الإجازات لنوع من المجاملات بين العلماء، فطالب الإجازة (يستدعي) المجيز ببيت شعر أو بقطعة أو برسالة يطلب منه الإجازة ويصفه بألقاب ما أنزل الله بها من سلطان كالبحر والمحيط والشمس والكوكب، ويتردد المجيز قليلا (وهو تردد تقليدي أيضا لأن العادة جرت كذلك) وقد يعتذر بأنه ليس من فرسان هذا الفن، لكنه في النهاية يستجيب للإطراء والمدح فيقلد جيد المجيز بألقاب أخرى فيها التنبؤ والتوسم كالشاب الأريب، وعنوان النجابة، والهلال الذي سيصبح بدرا، ونحو ذلك. ومن الذين انتقدوا التساهل في منح الإجازات، ولا سيما عند المشارقة، الشيخ عبد الكريم الفكون. فقد لاحظ مرة أن بلديه علي بن داود الصنهاجي القسنطيني قد قرأ على الشيخ سالم السنهوري المصري وأجازه هذا وهو (أي الصنهاجي) لا علم له سوى (حفظ بعض المسائل المشهورة من الطهارة وبعض العبادات وبعض المعاملات التي لا تجهل في الغالب. ولا بحث معه ولا تدقيق ولا نظر، والعجب إجازة الشيخ المذكور له. ولا حول ولا قوة إلا باللهء (1).
ولكن العادة جرت أن لا تكون الإجازة إلا بعد القراءة على الشيخ المجيز وملازمته أياما وشهورا بل أعواما في بعض الأحيان، ومناظرته في بعض المسائل. وقد يقرأ الطالب على الشيخ بعض مؤلفاته، أو بعض الكتب الأخرى كصحيح البخاري أو الكتب الستة، وبعض التفسير ونحو ذلك. فهذا عيسى الثعالبي قد لازم شيخه علي بن عبد الواحد الأنصاري أكثر من عشر سنوات. وهذا عمر المانجلاتي قد لازم الأنصاري أيضا أربع عشرة سنة.
__________
(1) (منشور الهداية) مخطوط.
ولكن بضعف العناية بالإجازة أصبح التلميذ لا يقطع المسافات لحضور درس أستاذه ولا يتحمل عناء السفر والغربة، وأصبح المشائخ يمنحون الإجازة لتلاميذهم عن طريق السماع بهم، وبدل أن تكون الإجازة خاصة مقيدة بالجزء المقروء أو المسموع أصبحت عامة مطلقة في كل المرويات والمقروءات. وأحيانا نجد بعض المجيزين يجيزون غيرهم بكل ما كانوا قد أجيزوا به. ومن الملاحظ أيضا أن الإجازة التي كانت خاصة بالعلم قد انتقلت أيضا إلى الطرق الصوفية. فقد وجدنا شيوخا يجيزون تلاميذهم بالسبحة والضيافة والخرقة الصوفية ونحو ذلك من مظاهر الدخول في حضرة الشيخ والتتلمذ عليه في الطريقة التي يسلكها. ولكن الذي يعنينا في هذا الفصل هو الإجازة العلمية وليس الإجازة الصوفية.
وهناك ثلاثة أصناف من الإجازة: إجازة الجزائريين للجزائريين، وإجازة الجزائريين لغيرهم، وإجازة علماء المسلمين لعلماء الجزائر. ومن الطبيعي أننا لن نحصي، في أي صنف من هذه الأصناف، عدد الإجازات، لأن ذلك يكاد يكون مستحيلا، ولكن الهدف هو سوق نماذج من كل صنف للتعرف على اهتمام الجزائريين بعلم الحديث خصوصا وطلب العلم عموما. فالإجازة، مهما انتقدنا التساهل في منحها، كانت عنوانا على كسب نصيب من العلم بالنسبة للمستجيز وعلامة على التبحر والتخصص في نفس العلم بالنسبة لمانحها. ولما كان الجزائريون كثيرا ما خرجوا من بلادهم لطلب العلم في البلدان الإسلامية فمن الواضح أنهم كانوا من طلاب الإجازة في الغالب وليس من مانحيها. ومع ذلك فلو أحصينا عدد الجزائريين الذين منحوا الإجازات في المشرق والمغرب لاندهشنا لكثرتهم.
ومن الغريب أن العلماء الجزائريين لم يجيزوا بعضهم البعض إلا قليلا. من ذلك إجازة محمد الزجاي لأحمد بن محمد الشريف المعروف بابن سحنون مؤلف (الثغر الجماني). فقد ذكر هو في هذا الكتاب نص الإجازة مخافة ضياعها، كما قال. وبناء عليه فإن ابن سحنون قد لازم الزجاي ومجلسه العلمي عدة أيام وليال. فقد قرأ عليه صحيح البخاري وكبرى
السنوسي، وأكثر القرآن الكريم، ومعظم جمع الجوامع للسبكي، وجوهرة الأخضري وسلمه، وحواشي السعد ومتنه وألفية ابن مالك وشروحها، ورسالة الوضع، ونخبة ابن حجر (1). ومن هذه المواد نعرف ماذا كان يدرس الشيخ الزجاي أيضا، كما نعرف برنامج الدراسات في العهد العثماني لأن هذه المواد تكاد تكون هي البرنامج الأساسي في مختلف الأقاليم.
وبهذا الصدد نذكر أن أحمد الزروق البوني قد أجاز الورتلاني صاحب الرحلة كما أن محمد بن عبد الرحمن الأزهري قد أجاز حمودة المقايسي. وتذكر المصادر أيضا أن يحيى الشاوي قد تلقى إجازتين من مواطنه محمد السعدي بن محمد بهلول، الأولى إجازة بقراءته عليه موطأ الإمام مالك وبعض صحيح البخاري وبعض صحيح مسلم ورواية الكتب الثلاثة المذكورة بسنده عن شيوخه فيها (2). والثانية ما يسمونه بالمصافحة. فقد أجاز محمد السعدي للشاوي مصافحة الفقيه محمد العربي يوسف الفاسي له بزاوية محمد بن أبي بكر الدلائي (3). كما ذكر شعبان بن عباس المعروف بابن عبد الجليل القسنطيني أن شيخه المفتي محمد بن علي الجعفري القسنطيني أيضا قد أجازه إجازة عامة بعد سنة 1139 إثر القراءة عليه (سنين عديدة). كما ذكر الكتب التي قرأها عليه كالألفية وخليل وألفية العراقي والمحلى في الأصول وصغرى السنوسي والفلك والبخاري (4).
وطالما جلس علماء الجزائر لتلقي العلم على بعضهم بعضا، ومع ذلك لا نكاد نجد أنهم قد منحوا الإجازات لبعضهم. فمجالس سعيد قدورة وسعيد المقري وعمر الوزان وبموراس ونحوهم كانت عامرة ومع ذلك فإن الإجازات
__________
(1) (الثغر الجماني) مخطوط باريس، ص 39 - 40.
(2) انظر دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 335، ضمن مجموع.
(3) نفس المصدر، رقم 313 ورقم 366.
(4) نص هذه الإجازة في مخطوط بمكتبة المولود بن الموهوب عند السيد ماضوي عبد الرحمن، وهي في عدة صفحات ولكنها مبتورة، ويدعى محمد بن علي الجعفري بالبوني أيضا، وهو تلميذ أحمد ساسي البوني.
الصادرة عنهم لتلاميذهم لا تكاد تذكر. وقد قيل إن يحيى الشاوي قد اضطر إلى أن يسافر مع شيخه عيسى الثعالبي مسافة (ثماني مراحل) إلى أن درس عليه علم المنطق، ولكننا لا نجدهم يتحدثون عن كون الثعالبي قد أجاز الشاوي في هذا العلم (1). ونعرف أن أبا راس قد ورد على مدينة الجزائر وأخذ العلم على ابن عمار وغيره فيها، ولكننا لا نعرف أن هناك إجازة من ابن عمار لأبي راس. فيبدو أن علماء البلد الواحد لا يمنحون عادة الإجازات لبعضهم، وكأن الإجازة لا تأتي إلا نتيجة اغتراب وسفر طويل وتتلمذ على غير أهل البلد. ومن جهة أخرى نعرف أن عيسى الثعالبي قد روى مرويات ثلاثة شيوخ على الأقل من الجزائر وهم سعيد قدورة، وعلي الأنصاري، وعبد الكريم الفكون. وقد ترجم لثلاثتهم في ثبته.
ومن الطريف أن نذكر إجازة أحمد بن قاسم البوني لابنه أحمد الزروق (الذي أشركه فيها مع محمد بن علي الجعفري القسنطيني - البوني الأصل -) (2). ولعل أطرف من ذلك إجازة محمد قدورة لأخيه أحمد قدورة. ولدينا نص طلب الإجازة الذي تقدم به الأخ لأخيه، على عادتهم في ذلك، وهو في عشرين بيتا، ونحن نكتفي منه بهذه الأبيات المعبرة، فقد قال أحمد قدورة يخاطب أخاه الذي كان عندئذ مفتي المالكية بالعاصمة:
قطب الزمان ونخبة الفضلاء ... وسلالة النجباء والعلماء
شيخ الجزائر، حبرها وخطيبها ... وإمامها حقا بغير مراء
جل السعيد (3) محمد العلم الذي ... أحيا العلوم بفطنة وذكاء
إلى أن يقول:
تلميذكم ومحبكم بل عبدكم ... طلب الإجازة منكم بوفاء
__________
(1) (خلاصة الأثر) للمحبي 3/ 241.
(2) اطلعت على هذه الإجازة في مكتبة زاوية طولقة واستفدت منها وطلب نسخها فلم أحصل على طائل.
(3) يعني والدهما المفتي سعيد بن إبراهيم قدورة. انظر ترجمته في فصل التعليم من الجزء الأول.
بجميع ما تروونه عن والد ... أو غيره من سائر العلماء وقد جاء في النص أيضا:
عمرت دهرا للعلوم تبثها ... بالكتب والتدريس والإملاء وبقيت فردا لارتقاء منابر ... للوعظ والتذكير والإيضاء (1) وقد منح الجزائريون كثيرا من الإجازات لغيرهم من علماء المسلمين. ولنذكر هنا بعض ذلك فقط. فإذا عدنا إلى رحلة ابن زاكور المغربي إلى الجزائر وجدنا فيها نماذج من هذه الإجازات والطريقة التي حصل بها ابن زاكور عليها، وأسلوب منحها وكفاءة شيوخه فيها. وقد ذكر ابن زاكور على الأقل ثلاثة من مشاهير علماء الجزائر في القرن الحادي عشر، وهم عمر المانجلاتي، ومحمد بن عبد المؤمن، ومحمد بن سعيد قدورة. وبناء على ابن زاكور فإن المانجلاتي قد درس العلم بجد واجتهاد وانقطاع، وأن شيوخه قد درسوه أيضا على مشائخ جلة من المشرق والمغرب قراءة وإجازة وإعلاما، وإنه بالرغم من أنه لا يشعر بأنه مؤهل لمنح الإجازة فقد أجاب غرض ابن زاكور. وقد اتبع المانجلاتي الأسلوب المتعارف عليه، وهو الاعتذار، لكونه غير مؤهل لهذه الدرجة (ولكن خلت الديار فساد غير مسود) وأن الزمان قد تغير (وتحولت الأحوال واشتغل البال) (2).
والإجازة الثانية من علماء الجزائر لابن زاكور هي إجازة محمد بن عبد المؤمن. وقد كان محمد بن عبد المؤمن يسمى بـ (أديب العلماء وعالم الأدباء) لجمعه بين الأدب والفقه (3). وقد وصفه ابن زاكور بأنه (ممن ضرب
__________
(1) (جليس الزائر وأنيس السائر) منسوب لأحد أفراد عائلة قدورة. مخطوط بالمكتبة الوطنية، غير مرقم، اشترته المكتبة من الشيخ المهدي البوعبدلي وفي كلمة (إيضاء) خروج عن القواعد.
(2) ابن زاكور (الرحلة) 8. وقد سبق الحديث في فصل التعليم من الجزء الأول عن المواد التي درسها المانجلاني وكانت الإجازة بتاريخ 1094.
(3) انظر عنه رحلة ابن حمادوش، فقد أورد له نص عقد زواج كتبه ابن عبد المؤمن بمناسبة زواج عبد الرحمن المرتضى الشريف، وأصبح العقد مثالا يحتذيه الموثقون =
بسهم وافر من العلم. العالم الفقيه اللوذعي جامع الفضائل). وبعد اعتذار ابن عبد المؤمن لعدم أهليته أجاز ابن زاكور بما أجازه به شيخاه علي الشرملسي المصري وأحمد بن تاج الدين نزيل المدينة، كما أجازه بمنظومته في العقائد والفروع وطلب منه أن يشرحها إذا تمكن (1). أما محمد بن سعيد قدورة فقد أجاز ابن زاكور إجازة مطلقة عامة (في جميع مقروءاتي معقولا ومنقولا توحيدا ونحوا) ولم يذكر قدورة أي شيخ من أشياخه وإنما اكتفى بقوله: (فليحدث بذلك إن أحب عن أشياخي إلى المؤلفين) (2).
وقبل ابن زاكور منح أحمد العبادي التلمساني الإجازة لابن عسكر مؤلف (دوحة الناشر). وقد عاش الشيخ العبادي حياة متقلبة نتيجة تقلب ظروف العصر. فبعد استيلاء العثمانيين على تلمسان والاضطرابات التي رافقت ذلك هاجر إلى المغرب فأقام في فاس وزار مراكش وأكرمه السلطان عبد الله الغالب (توفي سنة 981) إكراما خاصا. ولكنه ما لبث أن عاد إلى تلمسان واستقر نهائيا، كما يقول ابن عسكر، في مليانة. وقد ذكر ابن عسكر نص إجازته له في مؤلفه (3). ولم يكن العبادي سوى نموذج من الجزائريين الذين منحوا الإجازة لبعض علماء المغرب. فالحدود العلمية بين الجزائر والمغرب تكاد تكون غير موجودة. ويكفي أن نشير هنا إلى مكانة أحمد الونشريسي وابنه عبد الواحد وأحمد المقري ومحمد الكماد بين المغاربة. ولنشر أيضا إلى إجازة عيسى الثعالبي للعياشي، وإجازة سعيد المقري لأحمد بن القاضي صاحب (جذوة الاقتباس) (4).
__________
= لما فيه من أدب وشريعة، وكان قد درس في المشرق أيضا، وكان حسني النسب.
(1) ابن زاكور (الرحلة)، 17.
(2) نفس المصدر، 28.
(3) ترجمته والإجازة في (دوحة الناشر) النص الفرنسي، ص 200 - 202. وكان والد العبادي من علماء تلمسان أيضا، هاجر إلى فاس وتولى التدريس بالقرويين، ثم عاد أيضا إلى تلمسان حيث توفي حوالي 1524 م (931) هـ. أما ابنه فلا نعرف متى توفي بالضبط.
(4) ذكر ذلك أحمد المقري في (روضة الآس) 268، وتاريخ الإجازة هو سنة 1009.
أما عن العلاقة بين علماء الجزائر وتونس كما تصورها الإجازات فقد كانت أيضا وطيدة ولكننا لا نحفظ منها إلا القليل. ورغم رحيل الجزائريين إلى تونس لطلب العلم والإقامة والتجارة فإن القليل من علماء تونس قد زاروا الجزائر نسبيا خلال العهد العثماني. ولعل ذلك يعود إلى اكتفاء علماء تونس الذاتي من طلب العلم. فلهم جامع الزيتونة يروي غلتهم، وهم إذا أرادوا المزيد فالشرق أمامهم، ولم تكن الجزائر تقدم لهم شيئا تقريبا مما كانوا يطلبون. ومع ذلك فإننا نجد الورتلاني وأبا راس يتحدثان عن علاقاتهم الوثيقة مع علماء تونس. ثم إن أحمد بن عمار قد أجاز تلميذه إبراهيم السيالة التونسي كما ذكرنا آنفا. كما أن ابن العنابي قد أجاز محمد بيرم وغيره.
وقد كان منح الإجازات للسلاطين والوزراء أمرا غير شائع، ولكن محمد بن أحمد الشريف الجزائري قد منح أحد الوزراء العثمانيين إجازة شملت الأحاديث النبوية والمؤلفات. وهذا الوزير هو أحمد باشا نعمان الذي تولى، بالإضافة إلى منصب الوزير في بلاده، وظيفة شيخ الحرم بالحجاز. وأثناء ذلك كان محمد بن أحمد الشريف مجاورا ومدرسا بمكة، فطلب منه الباشا الإجازة فيما سمعه منه ففعل. وقد قال المجيز عن ذلك: (فأسعفته في ذلك، وأتحفته بما هنالك، تطييبا لخاطره وتنشيطا لفكره وناظره).
وبعد البسملة والتصلية افتتح محمد الشريف إجازته بقوله: (أما بعد فقد طلب من هذا العبد الفقير المعترف بالقصور والتقصير، أيام المجاورة بالحرم المكي، وذلك سنة 1154، أربع وخمسين ومائة وألف، إنسان عين الفضائل والمفاخر، وسلالة فضلاء الوزراء كابر عن كابر. عمدة السلطنة العثمانية، وليث غياهبها الباهر. ورئيس الغزاة المجاهدين، فكم قصم سيفه من كافر وفاجر، فهل أتاك خبر الفيش (1) (؟) وما شتت فيه من شمول
__________
(1) كذا، ولعلها الفنش التي تعني النصارى، وتطلق في الجزائر غالبا على الإسبان.
الكوافر، وبدد فيه من دماء تلك المناحر، وهو الذي حاز قصبات السبق لا يدانيه في الذكاء والسياسة مناظر، نجل الوزارة وقائم مقامها وقطب رحاها وعليه مدارها، حضرة مولانا ولي النعم أبو الخيرات أحمد باشا نعمان باشا زاده، دام عزه ورفعته وحفت بالحفظ والعناية حضرته، سماع بعض الأحاديث والإجازة فيها وغيرها كسند السبحة والضيافة ونحوها، وهو إذاك شيخ الحرم الشريف زاده الله شرفا، فأسعفته في ذلك وأتحفته بما هنالك تطييبا لخاطره، وتنشيطا لفكره وناظره، والله تبارك وتعالى المسؤول في التوفيق والقبول، وبه أستعين، فأقول: سمع منا الوزير المشار إليه ..) (1).
وبعد أن يسرد الأحاديث التي سمعها منه يذكر أيضا مؤلفاته التي بلغت أحد عشر مألفا (إلى غير ذلك مما لنا من تقييد وتقرير، وبيان وتحرير، وبسط وتفسير). ومعظم مؤلفالت محمد الشريف تحوم حول الأحاديث النبوية والتصوف. ومن ذلك (جامع الأصول المنيفة من مسند أحاديث أبي حنيفة) الذي قال عنه أنه جعله في التبويب والترتيب نظير موطأ الإمام مالك. وكان محمد الشريف يوقع تآليفه هكذا (خادم العلم والعلماء الشيخ محمد بن أحمد الشريف الجزائري مولدا ومنشأ الأزميري وطنا وملجأ) فهو إذن من الجزائريين الذين يعودون إلى أصول عثمانية ويعتنقون المذهب الحنفي. وقد هاجر إلى المشرق وجاور بمكة واستوطن أزمير لأسباب لا نعلمها الآن. وقد نعرض إلى بعض مؤلفاته في فصل التصوف.
وتعتبر إجازة البوني والراشدي لمحمد مرتضى الزبيدي إجازة بالمراسلة، لأنهما لم يجتمعا به، الأول من عنابة والثاني من قسنطينة. وقد ذكر الكتاني أن الزبيدي قد ترجم للراشدي في (معجمه) وسماه فيه (شيخنا الإمام المحدث الصوفي النظار) (2). وبناء على الزبيدي فإن الراشدي قد توفي سنة 1194. وممن أجازوا الزبيدي أيضا من الجزائريين محمد المنور
__________
(1) هذه الإجازة مصورة، عن النسخة الأصلية من إسطانبول.
(2) الكتاني، 1/ 172.
التلمساني المتوفى سنة 1172. وقد أجاز يحيى الشاوي عددا من علماء المشرق منهم المحبي صاحب (خلاصة الأثر) بعد أن درس عليه هو وجماعة من الشاميين تفسير سورة الفاتحة من البيضاوي، والألفية والعقائد ونحوها. وكانت الإجازة نظما ذكره المحبي (1). وممن أجازهم الشاوي أيضا محمد بن زيد الدين الكفيري، وذلك بأسانيده ومروياته عن مشائخه في كتب الموطأ
وصحيح البخاري وغيرها (2). كما أجاز تقي الدين الحسني بالإجازة التي منحه إياها شيخه محمد السعدي البهلول (3). ولا شك أن الشاوي قد أجاز غير هؤلاء أيضا (4).
أما ابن عمار فقد منح سنة 1205 إجازة إلى مفتي الشام عندئذ محمد خليل المرادي. وقد ذكر ابن عمار في هذه الإجازة بعض شيوخه في مصر وفي الحرمين كما ذكر العلوم التي تلقاها عنهم، بالإضافة إلى بعض الأثبات. فمن مشائخه بمكة عمر بن أحمد، وبالمدينة حسن بن محمد سعيد، وبمصر محمد الحفني، ومن هذه الإجازة نعرف أن ابن عمار يروي الحديث عن عيسى الثعالبي بطريق محمد الحفني (5). وبالإضافة إلى إبراهيم السقا وعبد القادر الرافعي منح ابن العنابي الإجازة إلى محمد بيرم التونسي ومحمد بن علي الطحاوي المصري وغيرهما. وقد عرفنا أنه كان يقلد أستاذه ابن الأمين في منح الإجازة لكل من أدرك حياته. وكان أحمد المقري قد منح الإجازات أيضا لعلماء المشرق. وقد روى هو أنه أجاز أحمد الشاهين
__________
(1) (خلاصة الأثر) 4/ 486. وقد هاجم الشاوي الفلاسفة في هذا النظم، وعدد الأبيات خمسة عشر.
(2) دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، ضمن مجموع رقم 313، وهي بخط المجيز نفسه.
(3) نفس المصدر، رقم 335 ضمن مجموع.
(4) جاء صاحب الأعلام 9/ 214، بلوحة رقم 1460 من إجازة للشاوي بدار الكتب المصرية (313 مصطلح) وعليها خط الشاوي.
(5) إجازة ابن عمار للمرادي من مخطوطات المكتبة الظاهرية بدمشق. انظر مقالتي (إجازة ابن عمار الجزائري للمرادي الشامي) في مجلة (الثقافة) عدد 45، 1978.
الدمشقي بتأليفه (إضاءة الدجنة) بطلب منه، كما أجازه بغيرها (1).
وبالمقابل، تلقى علماء الجزائر الإجازات من علماء المسلمين في المشرق والمغرب، وهذا هو الكثير الغالب. ولا نريد أن نعدد الإجازات وأصحابها فليس ذلك من هدفنا هنا، ولكننا ننبه إلى أن بعض الإجازات التي سنشير إليها قد تضمنت في الغالب العلوم كلها، كما يقول الورتلاني، ولم تكن خاصة بعلم الحديث وحده، وأحيانا كانت تتناول الفقه والتوحيد والتصوف، وكلها في الواقع علوم مشتركة. وقد كانت إجازات علماء المالكية في مصر والحرمين لعلماء الجزائر كثيرة الورود لاتفاق المذهب. أما علماء المغرب العربي فالمذهب بينهم واحد، لذلك أجاز عدد من علماء المغرب أحمد المقري قبل رحيله إلى المشرق. ومنهم أحمد بن القاضي صاحب (جذوة الاقتباس) وأحمد بن أبي القاسم التادلي ومحمد القصار وأحمد بابا التمبكتي (2). ومن جهة أخرى سجل عبد الرزاق بن حمادوش في رحلته مجموعة من الإجازات التي منحها له بعض علماء المغرب في عهده، وهم أحمد الورززي ومحمد بن عبد السلام البناني وأحمد بن المبارك وأحمد السرايري (3). كما أخذ محمد المنور التلمساني إجازة من الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي (4). وأثناء مرور عبد القادر بن شقرون الفاسي على نواحي بسكرة في طريقه إلى الحج أجاز الفقيه خليفة بن حسن القماري سنة 1192 (أو 1193) بعد أن قرأ أجزاء من نظمه المشهور لخليل. ووصف المجاز بأنه من فرسان البراعة وأنه على خلق حسن (5).
__________
(1) (نفح الطيب) 3/ 181.
(2) ذكر المقري ذلك في كتابه (روض الآس) في تراجم العلماء المنكورين. انظر كذلك فهرس دار الكتب المصرية تيمور، 171، مصطلح الحديث.
(3) ابن حمادوش (الرحلة) مخطوطة. انظر دراستي عنه في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). ج 1، ط. 3 1990.
(4) فهرس دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 181 مجموع.
(5) من نسخة خطية في مكتبة الصادق قطايم بقمار، بوادي سوف. انظر أيضا رسالة =
وقد عرفنا أن الورتلاني قد حصل على إجازات كثيرة من شيوخ مصر أثناء إقامته بالأزهر، بعضهم أجازه بالعلوم وبعضهم أجازه بأوراد الطريقة الشاذلية. فهذا الشيخ البليدي قد أجازه في سائر العلوم، وهذا عبد الوهاب العفيفي قد أجازه إجازة مطلقة في العلوم العقلية والنقلية، وهو الذي لقنه الذكر على الطريقة الشانلية (وقد أخذنا عنه الطريق ورسم الحقيقة وإنه لقننا الأذكار وجددنا عليه العهد في الطريقة الشاذلية المحصنة). أما (سلطان العارفين) الشيخ الحفناوي فقد أجاز الورتلاني في المعقول والمنقول (1). ولوجمعت إجازات الورتلاني من علماء مصر وغيرهم لجاءت ربما في كتاب، لأن بعضهم قد أجازه بخط يده وبعضهم قد أجازه بخطوط تلاميذه، ولكن معظم إجازات الورتلاني كانت عن طريق القراءة والملازمة. وقد حضر معه بعض ذلك معاصره ومواطنه أحمد بن عمار.
وقد نشر إبراهيم اللقاني في القرن الحادي عشر الإجازة بين الجزائريين. ذلك أن كثيرا منهم قد نوهوا به وتلقوا عليه العلم. ويبدو أنه كان ذابئع الصيت متمكنا في الفقه المالكي. ومما يلفت النظر أن إبراهيم اللقاني لم يمنح الإجازة لعالم جزائري بعينه ولكنه منح إجازة لمجموعة من علماء الجزائر، مثل علي بن مبارك القليعي (2) وسعيد قدورة وسحنون (3) رفيق سيدي علي البهلول (4). وقد تضمنت الإجازة غيرهم بالطبع ولكننا للأسف لم
__________
= (إتحاف القاري بسيرة خليفة بن حسن القماري) تأليف محمد الطاهر التليلي القماري. مخطوطة.
(1) الورتلاني (الرحلة) 289.
(2) لا شك أنه من مدينة القليعة القريبة من مدينة الجزائر والمشهورة بأسرة سيدي علي مبارك المشتغلة بالتصوف.
(3) الظاهر أنه هو سحنون الونشرسي شارح (السراج) للأخضري، وسيأتي الحديث عنهفي فصل العلوم من هذا الجزء.
(4) يبدو أنه من أسرة أبهلول التي كانت لها زاوية بنواحي تنس. انظر ترجمة سعيد قدورةفي فصل التعليم من الجزء الأول.
نطلع عليها. وقد قال في آخر الإجازة (أجزت لمن ذكر ولأولادهم ولأهل قطرهم .. جميع ما مر التنبيه عليه وجميع ما يجوز لي وعني روايته من مقروء ومسموع ومجاز ومكاتبه ووجادة ومراسلة وأصول وفرع ومعقول ومنقول) (1) فهي إجازة عامة في نوعها وفي هدفها لأنها لا تتعلق بنوع معين من العلم ولا بعالم واحد في الجزائر.
ولمحمد مرتضى الزبيدي أيضا تأثير على علماء الجزائر بطريق الإجازة. فهو من الذين اشتهروا بالتبحر في العلوم والتأليف فيها ونشر الإجازة بين المعاصرين. وقد سبق أن أشرنا إلى أنه قد أجاز أبا راس وحمودة المقايسي. ولعله قد أجاز أيضا أحمد بن عمار وغيره من علماء الجزائر الذين ترددوا على مصر في النصف الثاني من القرن الثاني عشر. وقد ذكر الكتاني أن للزبيدي إجازة عامة لأهل قسنطينة تقع في مجلد صغير، وله أخرى لأهل الراشدية (2). وكان محمد الأمير (وهو جزائري الأصل) قد أجاز أبا راس وغيره من الجزاريين واشتهر علماء مصريون آخرون بمنح الإجازات للجزائريين مثل: علي بن سالم السنهوري، وعلي الشرملسي وعلي الأجهوري ومحمد البابلي ومحمد الزرقاني وأحمد الجوهري. فقد أخذ محمد بن عبد الكريم الجزائري عن البابلي والزرقاني (3). وأخد محمد بن عبد المؤمن، كما عرفنا، عن الشرملسي (4). وأخذ محمد المنور التلمساني عن أحمد المجيري (5). كما أخذ علي بن الأمين عن أحمد الجوهري (6).
__________
(1) دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 19 م ضمن مجموع. وقد توفي إبراهيم اللقاني سنة 1041.
(2) الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 408.
(3) الجبرتي، 1/ 68. وبناء عليه فقد أخذ محمد بن عبد الكريم أيضا عن مغفتي تعز محمد الحبشي.
(4) ابن زاكور (الرحلة) /23.
(5) دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، مجموع رقم 181، والإجازة بخط المجيز سنة 1168. وقد توفي المجيري الملوي سنة 1181.
(6) ذكر ذلك ابن الأمين نفسه في رسالته المسماة (أما بعد). مخطوط. انظر فصل اللغة =
عيسى الثعالبي
كل المصادر التي ترجمت لعيسى الثعالبي لا تذكر إلا تاريخ وفاته بمكة سنة 1080. فتاريخ ميلاده إذن غير معروف، ولكننا نعرف أنه ولد بالجزائر في موطن أجداده الثعالبة الذين كانت إمارتهم تمتد من نواحي مليانة غربا إلى سهول وادي يسر شرقا. وهو من نسل عبد الرحمن الثعالبي دفين مدينة الجزائر الشهير. وكانت حياته الأولى متقلبة لم تعرف الاستقرار لأنه خالط أثناءها أهل الحكم، ولم يكن الحكم عندئذ مستقرا. ومن حسن حظ الثعالبي أنه نجا برأسه من الحوادث التي عاصرها في بلاده. ولكن الجزء الثاني من حياته الذي قضاه في المشرق كان هادئا انقطع فيه للعلم والدراسة والتدريس والتأليف واقتناء الكتب.
تلقى الثعالبي العلم إذن بمسقط رأسه فترة من الوقت ثم قدم إلى العاصمة لمتابعة دروسه. وكانت العاصمة في بداية القرن الحادي عشر تحتضن عددا من العلماء ذكرنا بعضهم فيما مضى (1). ولم تكن شهرة سعيد قدورة قد وصلت ما وصلت إليه من الذيوع ومع ذلك تتلمذ الثعالبي عليه وروى عنه الحديث بالخصوص. وقد قال المحبي أن الثعالبي قد روى عن قدورة الحديث المسلسل بالأولية والضيافة على الأسودين التمر والماء وتلقين الذكر ولبس الخرقة والمصافحة والمشابكة. ومن ثمة نعرف أن الثعالبي قد بدأ بداية تصوفية كما أنه قد اتصل بعلم الحديث اتصالا قويا وهو ما يزال في شبابه الباكر. وقد نقل الثعالبي مروياته عن قدورة إلى الأجيال اللاحقة فيما سيكتبه من إجازات.
ولكن الذي أثر على عيسى الثعالبي هو علي بن عبد الواحد الأنصاري السجلماسي، وهو، كما عرفنا، معاصر لقدورة. فقد لازمه الثعالبي أكثر من
__________
= والنثر من هذا الجزء. والرسالة محققة ومنشور ة حديثا.
(1) انظر ترجمة سعيد قدورة في فصل التعليم من الجزء الأول.
عشر سنوات ملازمة ظله، ودرس عليه علوما شتى منها صحيح البخاري دراية ورواية، وبعض كتاب الشفاء، وألفية العراقي في مصطلح الحديث. كما درس عليه الفقه وأصوله في الكتب التالية: مختصر خليل والرسالة، وتحفة الحكام لابن عاصم، وجمع الجوامع للسبكي الخ (1). وقد سجل الثعالبي ما قرأه على شيخه الأنصاري وغير. في ثبته المعروف (بكنز الرواة) الذي
سنعرض له. وارتبطت الصلة بين الثعالبي والأنصاري حتى تجاوزت العلم إلى الصلات الاجتماعية والسياسية. فقد زوجه شيخه ابنته وقربه من باشوات الجزائر، ولا سيما يوسف باشا، الذي حظي عنده الثعالبي بمكانة مرموقة، كما حظي عنده الأنصاري، حتى أصبح الثعالبي وكأنه هو كاتب الباشا الخاص (2).
ولكن الأمور قد تطورت في غير صالح الثعالبي فقد طلق زوجه بأمر والدها، كما يقول العياشي (الذي لا شك أنه روى ذلك عن الثعالبي نفسه) ومع ذلك لم تنقطع صلته بأستاذه. ثم توفي الأنصاري بالطاعون سنة 1057 فخسر الثعالبي سندا قويا. ووقعت ثورة ضد الحكم العثماني في شرق البلاد أدت إلى ضعضعة هذا الحكم ولا سيما سمعة يوسف باشا ولي نعمة الثعالبي. وقد أدى ذلك أيضا إلى وضع الباشا في السجن عدة مرات من زملائه المنافسين له والجنود الناقمين عليه لعدم دفع المرتبات لهم. ومن الرسالة التي كتبها الثعالبي لصديقه وأستاذه عالم عنابة علي بن محمد ساسي البوني، ندرك أنه قد رافق يوسف باشا في حملته ضد الثوار (الثورة المعروفة بثورة ابن الصخري) (3). وسواء رافق الثعالبي الباشا في هذه الحملة أو في حملات أخرى سابقة، فإنه قد برهن من خلال الرسالة على أنه قد شارك ضد الثورة. فهو يتحدث بضمير المؤيد للعثمانيين ضد الثوار ويصف المعارك (دون أن يذكر تاريخا) وكأنه حاضر لها ومشارك فيها. وقد كتب رسالته من نقاوس، ولكنه ذكر أيضا
__________
(1) المحبي (خلاصة الأثر) 3/ 240.
(2) العياشي (الرحلة) 2/ 128. انظر أيضا ترجمة علي بن عبد الواحد الأنصاري في فصل التعليم من الجزء الأول.
(3) انظر فقرة الثورات ضد العثمانيين في الفصل الثاني من الجزء الأول.
قسنطينة (التي بقي فيها يوسف باشا حوالي سنة) وذكر قجال التي جرت فيها معركة كبيره بين جيش اشبن الصخري وجيش العثمانيين، كما ذكر نواحي الزاب التي زارها أيضا يوسف باشا متتبعا آثار ابن الصخري (1).
كان الثعالبي إذن في غمرة الأحداث التي جرت بالجزائر حوالي منتصف القرن الحادي عشر (17 م) وقد وجد نفسه أخيرا بدون سند. فبعد وفاة شيخه الأنصاري ووفاة ولي نعمته يوسف باشا، أصبح خائفا على نفسه. فهو لم يعد إلى مدينة الجزائر التي استولى فيها على الحكم خصوم يوسف باشا. ويبدو أنه لم يطل الإقامة في قسنطينة أيضا لأنها كانت تشهد هي أيضا موجة من العنف والاضطراب. ولا شك أنه قد اتصل فيها بشيخ الإسلام عندئذ، عبد الكريم الفكون وروى عنه الحديث ونحوه (2). ولكنه لم يلبث أن غادر قسنطينة إلى حيث يكون بعيدا عن العيون، وقد أورد العياشي أن الثعالبي ظل يتنقل بين زواوة وقسطينة وبسكرة، وأنه في الأخيرة قد أقام عند الشيخ أحمد بن المبارك التواتي، كبير أولاد سيدي ناجي عندئذ، وعندما توفي الشيخ التواتي حوالي سنة 1060 لم يبق للثعالبي إلا أن يغادر الجزائر مغادرة نهائية حيث وجد نفسه، كما يقول العياشي، (الذي لا شك أنه كان ينقل عن الثعالبي نفسه) بدون أهل وإخوان.
غادر الثعالبي الجزائر سنة 1061 قاصدا الحج. وكثيرا ما كان قصد الحج وسيلة للخروج أو الهروب من الجزائر. ومهما كان الأمر فقد يكون الثعالبي مر بعنابة ومكث عند أسرة البوني التي كانت تتمتع بسمعة هائلة في عنابة ونواحيها. ولكننا لا نملك الوثائق على ذلك (3). ومن المؤكد أن الثعالبي قد مر بتونس ولعله أقام فيها بعض الوقت والتقى ببعض علمائها.
__________
(1) أورد الرسالة مترجمة إلى الفرنسية السيد فايسات (روكاي)، 1867، 339.
(2) كان الفكون من أنصار العثمانيين أيضا مثل الثعالبي، وقد ترجم له الثعالبي في ثبته (كنز الرواة). فالفكون إذن كان من شيوخ الثعالبي.
(3) كانت أسرة البوني (وهي من العلماء والمرابطين) تؤيد العثمانيين أيضا. انظر مراسلاتها مع يوسف باشا وغيره. مخطوط باريس 6724.
ولا نعرف بأي طريق حج الثعالبي بحرا أو برا، ولكنه على كل حال أدى الفريضة وجاور بمكة سنتي 1062 - 1063، وأخذ العلم عن مشائخ الحرم، ثم قصد مصر فمكث بها سنتي 1064 - 1065، وأخذ عن علمائها، وخصوصا علي الأجهوري ومحمد البابلي والخفاجي، وأخذ الطريقة أيضا عن أبي الحسن علي المصري ودرس عليه. وكان يلتقي بالمغاربة ويساعدهم على شق طريقهم، كما فعل مع العياشي في حجته الأولى سنة 1064 (1). وفي السنة الموالية (1065) عاد الثعالبي إلى مكة واستوطنها وهناك أخذ يدرس للناس الحديث وغيره متسلحا بعلوم متعددة وأساليب متنوعة ساعدته على جلب الناس إليه. وبعد أن مكث سنوات عزبا تزوج من جارية اشتراها، كما يقول المحبي، وأنجب منها أولادا. وذكر العياشي أنه هنأه بواحد منهم أثناء حجته الثانية سنة 1073 (2).
أخذ الثعالبي الحديث وبعض الطرق الصوفية على عادة معظم العلماء في وقته. فعندما كان بالجزائر أخذ عن شيخه سعيد قدورة، كما عرفنا، الأحاديث المسلسلة ولبس الخرقة والمصافحة والمشابكة ونحوها من مظاهر الصوفية. ولا ندري إن كان قد أخذ، وهو في الجزائر أيضا، بعض الطقوس والأوراد. غير أنه لما كان بمصر سنة 1065 قصد الصعيد لأخذ الطريقة على الشيخ أبي الحسن علي المصري. ولا ريب أن هذه كانت هي الطريقة الشاذلية. وفي الحجاز أخذ الثعالبي الطريقة النقشبندية على الشيخ صفي الدين القشاشي المدني. فقد ذكر العياشي أنه قد تلقى من الثعالبي بطريق الإجازة مبادئ هذه الطريقة، وأنه ألبسه الخرق الثماني المنصوص عليها عند أصحابها. وهي الخرق التي لبسها الثعالبي بدوره على يد الشيخ القشاشي المذكور. ولكن الثعالبي، كما لاحظ العياشي، لم يكن متنطعا ولا متصلبا في تصوفه، فلم يكن ضد التصوف بالمرة كما كان بعض الفقهاء، ولم
__________
(1) في هذه الحجة التقى العياشي أيضا بعبد الكريم الفكون، فهل التقى الثلاثة (الفكون والثعالبي والعياشي) في مصر؟
(2) المحبي (خلاصة الأثر) 3/ 240. والعياشي (الرحلة) 2/ 138.
يكن متدروشا تماما كما كان كثير من المتصوفة، بل كان بين بين. فقد جمع العلم إلى الزهد في حالة تذكرنا بنسيبه عبد الرحمن الثعالبي. ولذلك كان مقبولا عند أهل الظاهر والباطن. ورغم أنه كان فقيرا في معظم أوقاته فإنه كان في المشرق لا يسأل الناس شيئا ولا يغشى أبواب الأمراء، كما كان يفعل أحمد المقري ويحيى الشاوي. ومع ذلك لم يعش كل حياته محروما فقيرا. فقد أقبلت عليه الدنيا بعض الإقبال، ونال بسطة في الرزق، غير أن ذلك، فيما يبدو، كان في أخريات أيامه.
وصف الثعالبي مترجموه بأنه كان ذا ملكة واسعة في علم الحديث، وأنه كان مسند الدنيا في وقته، كما وصفوه بالذكاء الحاد وقوة الهيبة في التدريس والتمكن من الفقه المالكي. ومن الذين عاصروه وترجموا له العياشي المغربي والمحبي الشامي. وكلاهما أعجب به أشد الإعجاب. وإذا كان المحبي قد سمع به فقط فإن العياشي قد التقى به في حجتيه وأخذ عنه وشاهد مجلسه ولاحظ تمكنه في العلوم المذكورة. كما خالطه اجتماعيا. لذلك يمكن أن نعتبر ما أورده عنه نوعا من الترجمة الشخصية له أثناء حياته، وبعض ذلك كان من إملاء أو من وحي الثعالبي نفسه. كما أن إجازات الثعالبي لغيره تعتبر من المصادر الأولى عنه. ومن ذلك إجازته للشيخ أحمد بن سعيد الدلائي سنة 1068 بمكة، وهي الإجازة التي عدد فيها أساتذته الذين أخذ عنهم الحديث (الكتب الستة) في مصر، وخصوصا علماء الأزهر المالكية أمثال علي الأجهوري ويوسف الفيشي (1). وبالإضافة إلى إجازته للعياشي والمحبي والدلائي، أجاز الثعالبي أيضا محمد بن محمد العيثاوي الدمشقي الذي توفي مثله سنة 1080. وهي الإجازة التي كتب فيها الثعالبي أنه (لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء) (2)، كما أجاز إبراهيم بن
__________
(1) توجد هذه الإجازة ضمن مجموع رقم 286 تيمور، دار الكتب المصرية، حديث ص 248 - 254 وهي ناقصة من الوسط.
(2) دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 335، ضمن مجموع، وهي بخط الثعالبي نفسه كتبها سنة 1075.
حامد القاكي بحديث الرحمة المسلسل والصيانة والمصافحة والمشابكة وتلقين الذكر .. وغير ذلك (1). وللثعالبي تلاميذ كثيرون في علم الحديث إما أخذوه عنه مباشرة بالدرس والإجازة وإما بطريقة غير مباشرة.
وإذا كان الثعالبي مشهورا برواية الحديث ووفرة العلوم والذكاء والدرس المهاب فإنه غير مشهور بكثرة التأليف. ويبدو أنه ممن كانوا منقطعين للقراءة والتدريس، ومع ذلك فقد ترك بعض الأعمال ذات القيمة الكبيرة في موضوعها. من ذلك فهرسته أو ثبته المعروف (بكنز الرواة) الذي ترجم فيه لشيوخه من المغاربة والمشارقة. كما ينسب إليه (رجز في مصاعفة ثواب هذه الأمة) (2).
ويعتبر (كنز الرواة) العمل الرئيسي الذي كتبه الثعالبي. فقد تتبع من أجله خزائن الكتب الكبيرة في مصر والحجاز واستخرج منها نوادر التآليف وقيد الكثير منها، ودرس تلك المصنفات والمجاميع والمسانيد والأجزاء بحسب أزمنة مؤلفيها، فكان يختار من كل كتاب أعلى ما فيه، وضبط من الأسماء والأنساب ما قل أن يوجد عند غيره، وأبان عن طرق الرواية التي كانت مخفية عند غيره (فهو نادرة الوقت ومسند الزمان) (3). وقد حصل العياشي على نسخة غير تامة من (كنز الرواة) وأجازه بها الثعالبي. وقد أعجب العياشي بهذا الفهرس أشد الإعجاب فقال إن الثعالبي قد (سلك فيه مسلكا عجيبا ورتبه ترتيبا غريبا جمع فيه من غرائب الفوائد شيئا كثيرا، وهو إلى الآن لم يكمل، وإذا من الله بإكماله يطلع في عدة أجزاء). وقد رتبه الثعالبي على أسماء شيوخه فيعرف بكل منهم ويذكر ما له من المؤلفات والمقروءات والشيوخ، ثم يذكر ما قرأه هو على كل شيخ من العلوم والمؤلفات، ويوضح سند الشيخ في الكتاب الذي يدرسه عليه، كما يترجم
__________
(1) نفس المصدر، رقم (173 طلعت)، مصطلح الحديث.
(2) بروكلمان 2/ 939.
(3) العياشي (الرحلة) 2/ 132. عن الثعالبي انظر أيضا (نشر الشمثاني) للغقادري 2/ 204 (الترجمة الفرنسية).
قليلا لمؤلف الكتاب (فاستوفى بذلك تواريخ غالب الأئمة المؤلفين وأسانيد مؤلفاتهم). ويروي العياشي أيضا أن الثعالبي هو الذي طلب منه كتابة خطبة (كنز الرواة) واقتراح اسم له. وقد كتب العياشي الخطبة وأضاف إليها قصيدة دالية في مدح شيخه الثعالبي. أما الكتاب فقد سماه العياشي (كنز الرواة المجموع في درر المجاز ويواقيت المسموع) (1).
وقد أكمل الثعالبي (كنز الرواة) بعد سفر العياشي، فجاء في مجلدين.
وقد وصفه الكتاني، الذي حصل منه على المجلد الأول المنسوخ سنة 1075، أي خمس سنوات قبل وفاة الثعالبي. بأنه (أعظم الكنوز وأثمنها وأوعاها). وقال الكتاني أيضا إن النسخة التي حصل عليها فيها خطوط للمؤلف نفسه بالمقابلة والتصحيح (2). وهذا دليل آخر على أن (كنز الرواة) لم يكن قد كمل نهائيا أو على الأقل لم يبيض في شكله الأخير. فهل تم ذلك
قبل حياة المؤلف؟ لا نستطيع أن نؤكد ذلك الآن لأننا لم نطلع عليه. والجدير بالذكر هو أن الثعالبي قد ترجم، فيمن ترجم، لشيوخه الجزائريين في (كنز الرواة)، ونعرف إلى الآن أنه قد ترجم فيه لسعيد قدورة وعلي بن عبد الواحد الأنصاري وعبد الكريم الفكون. ولعله قد ترجم لغيرهم الذين التقى أيضا بهم كالشيخ أحمد بن المبارك التواتي وعلي بن محمد ساسي البوني، ولا شك أن هذا الكتاب مصدر هام لأسانيد الحديث والرواة والمشائخ الذين أخذ عنهم ولكن اسم هذا الفهرس ما يزال محيرا، فالعياشي والكتاني (الذي نقل عن العياشي) لم يذكراه إلا بعنوان (كنز الرواة) بل إن العياشي هو الذي اقترح اسمه على الثعالبي، كما سبق, أما المحبي فلم يذكر هذا العنوان إطلاقا بل ذكر بدلا منه عنوانا آخر، وهو (مقاليد الأسانيد)، وهو التأليف الوحيد الذي
__________
(1) العياشي (الرحلة) 2/ 137. ذكر السيد محمد المنوني (مكتبة الراوية الحمزية - المغرب) (مجلة تطوان) 8، إن نسخة من هذا الكتاب بخط مشرقي توجد في المكتبة المذكورة رقم 192 مجموع.
(2) الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 377.
ذكره له، رغم أنه قال إن له (مؤلفات) أخرى (1). ونفس العنوان وهو (مقاليد الأسانيد) قد نسبه إليه أيضا أحمد بن عمار في إجازته لمحمد خليل المرادي سنة 1205، ولم ينسب إليه غيره (2). وتنسب بعض المصادر الأخرى إلى الثعالبي عنوانا جديدا لفهرسه وهو (منتخب الأسانيد في وصل المصنفات والأجزاء والمسانيد) (3) وهو نفس العنوان المنسوب أيضا لفهرس أحمد بن عمار (4). ومن الواضح أن (مقاليد الأسانيد) هو عنوان جديد (لكنز الرواة) أطلقه عليه المؤلف نفسه بعد الفراغ من تأليفه، عوضا عن العنوان الذي اقترحه عليه العياشي. فقد عرفنا أن المحبي وهو معاصر الثعالبي قد أشار إلى (المقاليد) ولم يشر إلى (كنز الرواة) مما يدل على أن فهرس الثعالبي قد أصبح متداولا عندهم بالعنوان الجديد، وقد رأينا أيضا أن ابن عمار، وهو من المطلعين المشهود لهم، قد نقل نفس الشيء. أما (منتخب الأسانيد) الذي لم نطلع عليه، فهو، على ما يبدو، فهرس محمد البابلي، أستاذ الثعالبي. ذلك أن الثعالبي قد قال عند الانتهاء من جمع أسانيد شيخه (وهنا انتهى ما من الله تعالى به على العبد من (منتخب الأسانيد في وصل المصنفات والأجزاء والمسانيد). وقد ذكر فيه الثعالبي، كما قال، ما روى عن شيخه (مقتصرا من طرق الإسناد على أمتنها وأقربها وأعرفها) (5). ولكن يظل (منتخب الأسانيد) المنسوب أيضا إلى ابن عمار يثير الحيرة والشك. فهو إما عنوان مكرر، وكثيرا ما يقع هذا، وإما أن يكون قد نسب إلى ابن عمار خطأ، ويكون ثبته يحمل عنوانا آخر.
بقي أن نشير إلى أن الدرعي قد نسب إلى عيسى الثعالبي تأليفا آخر فيأسانيد الإمام مالك في الفقه. وهو (إتحاف ودود وإسعاف بمقصد محمود).
__________
(1) المحبي (خلاصة الأثر) 3/ 243.
(2) الإجازة منشورة في كتابنا (تجارب في الأدب)، الجزائر 1983.
(3) انظر مثلا تيمور، حديث، دار الكتب المصرية، رقم 286.
(4) الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 82.
(5) دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 79.
فبعد أن أشار الدرعي إلى كونه يروي مرويات الثعالبي قال عنه: (جمع .. سلسلة الفقه على مذهب الإمام مالك جمعا لم يسبق إليه بعد ما حارت فيه فحول الأئمة كما هو معروف. فرفع الأسانيد من طريق شيخه الأنصاري إلى مشاهير أئمة المذهب المتأخرين ثم إلى من فوقهم في الشهرة والزمان على أسلوب غريب إلى أن وصلها إلى الإمام مالك ثم إلى النبي (صلى الله عليه وسلم). ثم ذكر
الدرعي ما جمعه الثعالبي في هذا الباب بلفظه على طوله (إذ هو ما يغتبط به لندارته ونفاسته وعزته وسلامته) (1).
والذي لا شك فيه أن عيسى الثعالبي، بسيرته العلمية ومؤلفاته وتأثيره الروحي على معاصريه، كان عملاقا في القرن الحادي عشر. فقد كان على رأس الأربعة الذين أحرزوا مكانة عالمية (في العالم الإسلامي) في وقتهم، وهم سعيد قدورة، وأحمد المقري، وعبد الكريم الفكون، ويحيى الشاوي. ولاشتغال الثعالبي خصوصا بالحديث وعلومه والسند ورجاله، ولانتمائه إلى حركة الزهد الإيجابي في ذلك الوقت نال رضى أهل الظاهر والباطن، سواء كانوا من علماء الكتاب والسنة أو من رجال التصوف. ولا غرابة بعد ذلك أن نقرأ في (خلاصة الأثر) أن للناس في الثعالبي عقيدة كبيرة وأن له بعض الكرامات. وإذا كانت هذه هي عقائد الناس فيه فهو لم يدع شيئا من ذلك على ما نعلم، فقد كان يملأ وقته بالتدريس والمطالعة في المكتبة الكبيرة التي جمعها وفي التأليف، وكل هذا في الوقت الذي كان فيه أدعياء التصوف في بلاده يستغلون العامة على جهل ويملأون الدنيا دروشة وخرافات. فعيسى الثعالبي، كنسيبه عبد الرحمن، قد جمع بين الزهد والعلم، وهذا غاية الصلاح.
أحمد البوني
وهناك عالم آخر بالحديث ورجاله لم يبلغ مبلغ الثعالبي فيه ولكنه
__________
(1) الدرعي (الرحلة) مخطوط المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 997 1، ورقة 99 - 104. وعن الثعالبي انظر أيضا بروكلمان 2/ 691، والأعلام 5/ 294.
يستحق التنويه والتعريف، وهو أحمد بن قاسم بن محمد ساسي البوني. والبوني ينتسب إلى أسرة عريقة في العلم والتصوف، وهو تميمي النسب، كما كان يضيف ذلك إلى اسمه في المخطوطات التي رأيناها له. والذي يعنينا هنا ليس نسب البوبي ولكن مساهمته في الحياة الثقافية، ولا سيما علم الحديث الذين نحن بصدده. ولما كان البوني قد أخذ الحديث على جده بالدرجة الأولى، ولما كان جده قد جمع بين الفقه والتصوف فقد رأينا أن نسوق كلمة عن جده أيضا.
كان محمد بن إبراهيم ساسي البوني من أبرز مرابطي وعلماء القرنالحادي عشر في عنابة، كما عرفنا (1) فقد كان تلميذا للشيخ طراد، مرابط عنابة ونواحيها، ثم انفرد هو بالفقه والتصوف حتى أصبح، كما يقول معاصره الفكون، مسموع القول عند الخاصة والعامة. وقد أشرنا إلى بعض نفوذه الروحي في المنطقة وسلوكه الصوفي واستعماله الإنشاد والموسيقى والشعر والحضرة الصوفية. ومن الخاصة الذين كان محمد ساسي مسموع الكلمة عندهم يوسف باشا حاكم الجزائر أثناء ثورة ابن الصخري في شرق البلاد. وقد كانت عنابة ونواحيها قد تأثرت بهذه الثورة، فبعث الباشا إلى محمد ساسي يطلب تدخله لدى الأهالي، ويشير عليه باستعمال نفوذه الروحي لديهم، ويعلمه بأنه ما تخلى عن حرب الإسبان في وهران إلا لأن الأحوال في شرق البلاد قد أوجبت ذلك. فكان رد محمد ساسي عليه هو طلب العفو على الأهالي وعدم استعمال القوة ضدهم. وقد استجاب الباشا لطلبه ولكنه أخبره بأنه لم يفعل ذلك إلا مراعاة لقيمته عنده وقيمته لدى السكان ولمكانته الدينية (2).
__________
(1) انظر عنه فصل المرابطين من الجزء الأول. وقد تحدث عنه الفكون في (منشور الهداية).
(2) هذه المراسلات بالمكتبة الوطنية - باريس، رقم 6724، وقد ترجم السيد فايسات إلى الفرنسية رسالتي الباشا إلى محمد ساسي، انظر (روكاي) 1867، ص 344 - 348، ولكنه لخص فقط رسالة محمد ساسي إلى الباشا. انظر دراستي لهذه المراسلات في (الثقافة) عدد 51، 1979.
ورغم أن محمد ساسي قد أثار بعض علماء الوقت ضده لمبالغته في التصوف واستعمال بعض الطرق غير السليمة لجلب المال فإن حفيده أحمد بن قاسم ساسي، قد لاحظ أن الفقه والتصوف قد غلبا على جده (حتى امتزجا فيه). وقد عدد له بعض التآليف التي لا تخرج عن التصوف والتي سنعرض إليها في حينها. أما الفقه فلم يذكر له منه شيئا رغم أنه قال إن له غير ذلك من التآليف، كما أنه لم يذكر له تأليفا في علم الحديث. ومهما كان الأمر فإن علاقة أحمد البوني بعلم التصوف علاقة وطيدة إذا حكمنا من أثر جده فيه. ولعل ما قاله عن جده من أن الفقه والتصوف قد امتزجا فيه يصدق أكثر عليه هو. ذلك أن تآليفه الكثيرة قد جمعت فعلا بين التصوف والفقه وغيرهما من العلوم. فقد ألف أحمد البوني تآليف كثيرة بلغت، كما أخبر بنفسه، أكثر من مائة تأليف، بدون المنظومات والمقطوعات. وهو الذي كتب تأليفا خاصا سماه (التعريف بما للفقير من التواليف.). ومن هذه التآليف ما كمل ومنها ما لم يكمل، ومنها الشعر والنثر، كما أن منها ما يدخل في باب الحديث والسنة وما يتناول غير ذلك. وقد اطلعنا على بعض أعماله فكان منها القصير الذي لا يتجاوز الكراسة ومنها الوسط والطويل.
وقد ولد أحمد البوني سنة 1063 وتوفي سنة 1139. وكان له ولدان أشهرهما أحمد الزروق الذي ذكره هو في الألفية الصغرى وخصه بالإجازة التي سنتعرض إليها، وأشار إليه ابن حمادوش في رحلته، كما أنه هو الذي أجاز الزبيدي سنة 1179 بالمراسلة من عنابة، كما أجاز الورتلاني. فقد كان أحمد الزروق أيضا من مشاهير عصره، ولكنه كان أقل تأليفا من والده.
وتثقف أحمد البوني إذن على والده وجده وأفراد عائلته، وبرع في عدة علوم، منها علم الحديث. وكانت بينه وبين علماء قسنطينة علاقات علمية ولكننا لا نعرف ما إذا كانت قد بلغت مبلغ التلمذة. ومن الذين كان يتصل بهم في قسنطينة بركات بن باديس. وقد ساح البوني طويلا وطلب العلم في
تونس وفي مصر، ولا سيما مدينة رشيد التي التقى بعلمائها وأجاز فيها حسن بن سلامة الطيبي في الحديث (1). وذهب أيضا إلى الحج لأنه كتب رحلة حجازية ما تزال مفقودة سماها (الروضة الشهية في الرحلة الحجازية). وقد ذكر فيها بعض أشياخه. ورجع إلى عنابة وأصبحت له مكانة عالية بين معاصريه الخاصة والعامة. وقد رأينا أن له مراسلات مع الباشا محمد بكداش والباشا حسين خوجة الشريف. كما أن عبد الرحمن الجامعي المغربي قد نزل عنده وأخذ عليه وطلب منه الإجازة، ووصفه بأوصاف تدل على مكانته عندئذ. وقد حضر الجامعي مجلس إقرائه الحديث من الصحيحين مع مشائخ عنابة وبحضور ولديه. ومن الأوصاف التي أطلقها عليه الجامعي قوله: (الشيخ الرباني العالم العرفاني). وترجم له الجامعي في رحلته المسماة (نظم الدرر المديحية). ومن تآليف البوني في الحديث والسنة النبوية عموما ما يلي: (نظم الخصائص النبوية)، و (إظهار نفائس ادخاري المهيآت لختم كتاب البخاري)، و (تنوير السريرة بذكر أعظم سيرة) و (نفح الروانيد بذكر بعض المهم من الأسانيد) وغيرها (2).
تعرض أحمد البوني لشيوخه في علم الحديث في عدة مناسبات. فقد ذكرهم في رحلته الحجازية وعددهم أكثر من عشرين، وهي الرحلة التي نصح ابنه الناس بالاطلاع عليها لأن (فيها طرفا وظرفا) (3). وذكر عددا من شيوخه أيضا في الألفية الصغرى المعروفة باسم (الدرة المصونة في علماء وصلحاء بونة) (4)، ولا سيما شيوخه من عنابة والمغرب وتونس. والمصدر الثالث لشيوخه هو تأليفه (التعريف بما للفقير من التواليف) المشار إليه. أما المصدر
__________
(1) روى ذلك الجبرتي 1/ 266، وقد ذكره الجبرتي أيضا هكذا: أحمد بن قاسم البوني.
(2) الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 170.
(3) تعليق أحمد الزروق على (فتوى في الحضانة) لوالده. مخطوط المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2160.
(4) نشرت كاملة في (التقويم الجزائري) سنة 1913، ص 87 - 128. أما الألفية الكبرى فقد تضمنت ثلاثة آلاف بيت.
الرابع فهو إجازته لولده أحمد الزروق ومحمد بن علي الجعفري مفتي قسنطينة (1). وقد اطلعنا نحن على هذه الإجازة وأخذنا منها. ولذلك نود أن نتوقف قليلا عندها.
فقد كتب أحمد البوني هذه الإجازة في أخريات أيامه. وبعد أن عرف علم الحديث قال إنه أخذه عن والده، محمد ساسي، ويحيى الشاوي وأحمد العيدلي الزواوي الملقب بالصديق، وأبي القاسم بن مالك اليراثني الزواوي أيضا، وهؤلاء جميعا من الجزائريين، كما ذكر غيرهم من التونسيين والمصريين والمغاربة. وقد بلغ الجميع ثلاثة عشر شيخا، واكتفى البوني بذلك منهم (خوف الإطالة) ثم ذكر كتب الحديث التي أخذها عن هؤلاء، وفصل القول فيها. وعدد أيضا بعض تآليفه، ثم أحال القارئ على كتابه (التعريف). والإجازة التي اطلعنا عليها مكتوبة سنة 1140 أي بعد وفاته مباشرة (2) وقد قال الكتاني ان النسخة التي اطلع عليها منها تقع في نحو أربع كراريس (اشتملت على فوائد وغرائب عدد فيها شيوخه وأسانيد الستة وبعض المصنفات المتداولة في العلوم أتمها سنة 1136) (3).
وهكذا يتبين أن أسرة البوني قد جمعت بين العلم والصلاح وسيطرت روحيا على عنابة ونواحيها مدة طويلة بلغت القرنين تقريبا. ومن أبرز أعضائها محمد ساسي وأحمد ساسي وأحمد الزروق. ولكن أكثرهم شهرة وتأليفا وعناية بالحديث هو أحمد البوني. كما أن أسرة البوني كانت على علاقة طيبة مع العثمانيين حفاظا على المصلحة المشتركة التي تعرضنا لها في فصل آخر. وقد ساهمت هذه الأسرة وغيرها من الأسر العلمية الجزائرية في
__________
(1) أشرنا في الإجازات إلى أن الجعفري قد أجاز بدوره تلميذه شعبان بن عباس المعروف بابن عبد الجليل أو جلول. انظرها.
(2) اطلعنا عليها في زاوية طولقة، وطلبنا من الأستاذ عبد القادر العثماني مدير المعهد/ الزاوية نسخة منها، فوعد بذلك. والإجازة من نسخ مبارك بن محمد القلعي القسنطيني، وتقع في حوالي ثلاثين ورقة.
(3) الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 171.
الإنتاج الفقهي أيضا مساهمة واضحة.
الفقه
وعندما نتحدث عن الإنتاج الفقهي في الجزائر فمن الطبيعي أننا سنركز على إنتاج الفقه المالكي. ذلك أن معظم سكان الجزائر يتبعون مذهب الإمام مالك. ولكن منذ مجيء العثمانيين انتشر المذهب الحنفي أيضا، كما عرفنا، وظهر علماء كتبوا ودرسوا وأفتوا على قواعد الإمام أبي حنيفة. وإذا كانت معظم التآليف في أصول وفروع الإمام مالك فإن ذلك لا يعني حينئذ أنه لم يكن لعلماء المذهب الحنفي تآليف وآراء. فأسرة ابن العنابي كانت حنفية وقد تركت بعض التآليف الهامة. وعبد القادر الراشدي كان مفتي الحنفية وألف أيضا في ذلك. والشاعر المفتي ابن علي كان على المذهب الحنفي وقد كان له تأثير في الحياة الأدبية، بالإضافة إلى الفقه، كما سنعرف، لذلك فإننا سنتعرض لإنتاج الفقهاء الجزائريين سواء كانوا على مذهب أبي حنيفة أو مذهب مالك. ومن جهة أخرى فإن بعض علماء الإباضية في الجزائر قد ألفوا أعمالا في الفقه على مذهبهم جديرة بالدرس، وهي جزء لا يتجزأ من التراث الثقافي الجزائري.
ورغم الجو المحافظ الذي كان يسود الجزائر خلال العهد العثماني فإن بعض الفقهاء كانوا (متحررين) في تناولهم للمسائل الفقهية ولقضايا العصر والحياة الاجتماعية بصفة عامة، حقا إن أساس الانطلاق في التفكير الفقهي هو مختصر خليل على الخصوص ثم مختصر ابن الحاجب والرسالة، ولكن بعض الفقهاء كانوا يفسرون هذه المصادر تفسيرا غير جامد إذا ما اعترض طريقهم معترض، ويمكن أن نذكر من هؤلاء (المتحررين) عبد الكريم الفكون، وأحمد المقري ويحيى الشاوي وأحمد بن عمار. أما من الحنفية فنذكر ابن علي وابن العنابي وعبد القادر الراشدي، وقد كان بعض الفقهاء يفتي أيضا بالشاذ كما عرفنا، ووقف آخرون من الدخان والقهوة والموسيقى
والزندقة ونحوها من القضايا موقفا مرنا بينما وقف منها آخرون موقفا صلبا، وقد وجدنا بعض الفقهاء قد غلب عليهم الأدب فقالوا الشعر في الغزل ونحوه كما فعل ابن علي، وهو أستاذ ابن عمار. ولكن بعض الفقهاء قد غلب عليهم التصوف والدروشة فانعزلوا عن المجتمع وعاشوا في تفكيرهم الضيق وأهملوا الدين الصحيح العملي. وقد ذكرنا نماذج من هؤلاء وأولئك في الجزء الأول.
وليس بوسعنا في هذا المجال أن نعرض لكل إنتاج الفقهاء من تآليف مطولة ومختصرة خلال ثلاثة قرون. إن محاولة ذلك تكاد تكون مستحيلة. فالإنتاج غزير ومتعدد المشارب تعدد قضايا الفقه نفسها. ومن جهة أخرى فنحن لم نطلع على كل هذا الإنتاج الذي لا يكاد يخلو منه زمن ولا مكتبة. ثم إن بعض هذا الإنتاج لا يستحق الدراسة لكونه تكرارا أو استنساخا. ويكاد كل من جلس من الفقهاء لتدريس الفقه يملي أو يؤلف لتلاميذه كراسة أو أكثر شرحا أو حاشية على مختصر خليل وما في معناه كالرسالة، حتى كثرت هذه الإملاءات والتأليف كثرة المدرسين أنفسهم. ولكننا لا نكاد نعثر على جديد في ذلك لا في الفكرة ولا في المنهج. فالفقيه كان بالدرجة الأولى يحاول أن يفيد طلابه الحاضرين ولم يكن يؤلف لغيرهم من العلماء أو من الأجيال التالية. وسنرى أن هذه الظاهر تتكرر في النحو أيضا وغيره من المواد ذات الطابع التدرسي. فهذه المواد قد غلب عليها ما يمكن أن نسميه بمرض الشرح والحاشية، وهو في الواقع مرض العلم في العصر كله.
ونود أن ننبه إلى أننا نتناول هنا الفقه بمعناه الواسع الذي يشمل الأصول والفرائض والفتاوى والأحكام وغيرها مما يتصل بالعبادات والمعاملات. وقد جعلنا ذلك كله تحت عنوانين الأول التآليف الفقهية، والثاني الفتاوى والآراء.
الأثار الفقهية:
ومن الملاحظ سيطرة مختصر الشيخ خليل على مختلف الدراسات
الفقهية المالكية في الجزائر. فإذا حكمنا من أنواع الشرح والحواشي التي وضعت حوله كدنا نقول بأنه يأتي في المقام الثالث بعد القرآن الكريم وصحيح البخاري، بل إننا إذا حكمنا من وفرة الإنتاج حوله وجدناه يفوق الأولين عدا. فقد عرفنا أن التآليف المتعلقة بالتفسير والحديث كانت في جملتها قليلة وغير أصيلة. ولم يكن خليل بن إسحاق مصدرا للفقه والتشريع في الجزائر فحسب بل كان مصدرا للتبرك به أيضا. ولعل هذه النظرة الصوفية هي التي جعلت الفقهاء، وقد غلب على أكثرهم التصوف، يخلطون بين خليل الفقيه المشرع وبين خليل الصوفي الدرويش. فهذا ابن مريم، صاحب (البستان)، قد ترجم في القرن الحادي عشر لخليل بن إسحاق المصري في كتاب يتناول علماء وصلحاء تلمسان (تبركا به) (1). وهذا في الواقع يدل على تحول في الدراسات الفقهية نفسها. فيحيى بن موسى المغيلي المازوني صاحب (نوازل مازونة)، الذي عاش في القرن التاسع لم يكد يذكر الشيخ خليل في مؤلفه، على طوله وأهميته، بل كان يستمد آراءه ونوازله من وحي العصر ومن مصادر الفقه الإسلامي الأخرى (2).
أنجبت تلمسان في عهودها الزاهرة أعظم الفقهاء الذين عرفتهم الجزائر تدريسا وتأليفا. وفي بداية العهد العثماني وطيلة القرن العاشر جلبت فاس إليها معظم الباقين في تلمسان ونواحيها. ومن أبرز العائلات العلمية التلمسانية التي اهتمت بالفقه عائلة الونشريسي والمغيلي والمقري والعقباني. ومعظم أفراد هذه العائلات كانوا يترددون بين تلمسان وفاس كما عرفنا. وقد ظلت مازونة أيضا تنافس تلمسان في ميدان الفقه، فأنجبت هي الأخرى بعض رجال هذا العلم، ومن أهم خريجي مدرستها في آخر العهد العثماني أبو راس الناصر.
أما الشرق الجزائري ففقهاؤه المؤلفون قليلون بالقياس إلى غيره.
__________
(1) (البستان)، 96.
(2) جاك بيرك، دراسة عن النوازل في مجلة (أنال) سبتمبر - أكتوبر 1970، 1330.
ورغم شهرة بعضهم في التدريس والتأليف فإنه لا أحد منهم يضاهي مثلا أحمد الونشريسي في مؤلفاته الفقهية. وإذا كانت فاس قد امتصت عددا من علماء الجزائر خلال العهد العثماني فإن تونس لم تفعل ذلك لأن البلدين كانا يخضعان لنفس النظام السياسي. ولكن تونس كانت معبرا يعبره العلماء الجزائريون في رحلتهم إلى الحج أو طلب العلم في المشرق الإسلامي، فعبرها أحمد المقري وأبو راس ومحمد بن العنابي وأحمد البوني وأحمد بن عمار. وقد امتصت عواصم المشرق أيضا عددا من هؤلاء العلماء كما عرفنا.
رغم مكانة بعض علماء مدينة الجزائر العلمية فإن أحدا منهم لم يستطع أن ينافس في الفقهيات زملاءهم علماء غرب الجزائر أو شرقها. فإذا انحدرنا جنوبا وجدنا عبد العزيز الثميني قد جاء بعمل في الفقه الإباضي جدير بأن يقاس بعمل الونشريسي في الفقه المالكي. كما أن خليفة بن حسن بقمار قد تميز بنظمه لخليل ولفت إليه الأنظار بمساهمته في الفقه عموما. ولكن مهما قيل في هذا التوزيع الجغرافي للإنتاج الفقهي فإنه لا يدل إلا على خطوط سريعة قد تظهر الأيام أعمالا أخرى تعدل من هذه الخريطة.
ولنبدأ إذن بمدرسة تلمسان. ويجب أن ننبه هنا إلى أننا لا نعني تلمسان المدينة فقط ولكن تلمسان باعتبارها مدرسة لتخريج المثقفين والمشرعين. وعلى هذا الأساس يقف أحمد الونشريسي وابنه عبد الواحد في طليعة فقهائها. الأول في كتبه التي تعرضنا إليها (1). والثاني في كتبه (النور المقتبس من قواعد مذهب مالك بن أنس) الذي لخص فيه كتاب والده (إيضاح السالك)، وشرحه على مختصر ابن الحاجب الفقهي الذي جعله في أربعة مجلدات، وشرحه المطول على الرسالة. ولكن عبد الواحد لا يمكن أن يقاس بوالده في الفقه، فقد تغلبت عليه روح الأدب أيضا، فكان شاعرا مجيدا (لا يقارعه أحد من أهل عصره) (2). وكانت له أيضا أزجال وموشحات
__________
(1) انظر ذلك في الفصل الأول من الجزء الأول.
(2) (سلوة الأنفاس) 4/ 146. وقد تولى عبد الواحد الونشريسي وظائف علمية عالية في المغرب كالفتوى والخطابة والتدريس.
مما أدى إلى مقتله سنة 995 (1).
وكاد يحدث لمحمد بن عبد الكريم المغيلي ما حدث لعبد الواحد الونشريسي. فقد كان المغيلي أيضا يتدخل في الشؤون السياسية والاجتماعية ليس في المغرب فحسب بل في إفريقية جنوب الصحراء أيضا (2) فنصح أمراء السودان وقاوم نفوذ اليهود ولا سيما في توات، وكان كثير المراسلات مع علماء عصره في القضايا التي كانت تهمه. وهو لهذا كان في حاجة إلى آراء الفقهاء فيما كان بصدده من مشاكل. وقد ألف هو عدة تآليف في الفقه أيضا منها (شرح مختصر خليل) وحاشية عليه أيضا، وشرح آخر على بيوع الآجال من ابن الحاجب. وإذا حكمنا على ما اطلعنا عليه له من تآليف في غير الفقه حكمنا بأن تآليفه صغيرة الحجم ومطبوعة بمزاجه الحاد وحركته الدائبة. ولعل له في الفقه آراء صائبة تتماشى مع مزاجه أيضا في تفسير مختصر خليل بالخصوص.
وقد جعل الشيخ مصطفى الرماصي (حاشية على شرح التتائي لمختصر خليل) (3) وكان من الفقهاء البارزين في وقته، أما الذي خدم مختصر خليل خدمة كبيرة محمد بن عبد الرحمن بن الحاج اليبدري التلمساني صاحب (ياقوتة الحواشي على شرح الإمام الخراشي) التي تقع في أربعة أجزاء كبار.
وقد اطلعنا نحن على نسخة من هذه الحاشية بخط مؤلفها وهو خط جيد وجميل. ومما قاله في آخر القسم الأول (قال كاتبه ومؤلفه كان الفراغ من تبييض هذه الحاشية المباركة في شهر الله جمادي الأولى سنة اثنين وسبعين ومائة وألف على يد كاتبه ومؤلفه محمد بن عبد الرحمن بن الحاج اليبدري وفقه الله). ولكننا وجدنا في آخر الجزء الرابع منه هذه العبارة (هذا ما يسر الله تعالى من هذه الحاشية .. وكان الفراغ من تبييضها 6 شعبان سنة 1179).
__________
(1) انظر عنه أيضا (الإعلام بمن حل بمراكش) 4/ 157.
(2) عن المغيلي انظر الفصل الأول من الجزء الأول.
(3) توجد منه نسخة في مكتبة تطوان رقم 9.
وهذا يدل على أن اليبدري قد بدأ عمله قبل سنة 1172 وانتهى منه تصحيحا وتنقيحا سنة 1179.
وقد أوضح في البداية دافع تأليفه لحاشية طويلة على شرح الخرشي على خليل. فقال إن هذا الشرح رغم شيوعه بين الناس ورغم (كثرة خيراته وخلوه من الحشو) فإنه مفرط في الإيجاز حتى كاد يكون من الألغاز (فلا يهتدي إلى فوائده إلا بتعب وعناية، ولا يستكشف خفيات أسراره إلا بنظر دقيق ودراية). وهناك عامل آخر دفع اليبدري إلى القيام بعمله وهو أن العصر كان عصر مشاغل شغلت العلماء عن البحث وطلب الصعب من المسائل حتى عجزوا عن إدراك خفايا مختصر خليل وشرحه. فالهمم (قد ضعفت .. في هذا الزمان، وكثرت فيه الهموم والأحزان، وقل فيه الساعون من الأخوان، خصوصا بلدنا تلمسان) فقصروا عن فهم أسراره وإدراك عبارته وخفاياه. أما العامل الثالث لتأليفه فهو أن بعض زملائه قد طلبوا منه ذلك فلم يسعه إلا الاستجابة، وقد وصف هؤلاء الزملاء بأنهم طلاب حقيقة فرجوه أن يضع على شرح الخرشي حاشية (تبين ما خفي من معانيه، وتوضح ما أشكل من تراكيب كلامه ومبانيه، وتذلل المعاني الصعاب، وتميز القشر عن اللباب) فأجابهم إلى ذلك رغم انشغاله وقلقه و (كف الناظر) (1).
أما منهجه في هذا الكتاب فقد حاول أن يجعل الحاشية وسطا بين الإيجاز غير المخل والإطناب غير الممل، وخصوصا أنه جرده من الحشو. فقد قال إنه سلك فيه طريقة (الإيجاز غير المخل .. صارفا وجهي عن الإطالة بنقل الفروع .. معرضا عن التعرض لما ليس من مسائل الكتاب). عند شروعه في التحشية اتبع المنهج الذي كان سائدا في عصره أيضا فهو يفسر ألفاظ الشرح ملتزما الخطة التي ذكرها. ولم يقسم الكتاب إلى أبواب أو فصول وإنما اتبع في ذلك خطة الخرشي نفسه في المباحث التي وضعها.
__________
(1) قد تعني هذه العبارة أن المؤلف قد كف بصره، فإذا كان هذا صحيحا فإن العبارة لا تتماشى مع عبارته السابقة قال كاتبه ومؤلفه الخ.
فهناك مبحث في الحج، وآخر في الزكاة، وآخر في النكاح، إلى غير ذلك من المباحث الفقهية المعروفة. وكثيرا ما كان المحشي يتدخل برأيه الخاص في الموضوع، وطريقته في ذلك هي أن يضيف عبارة (قلت) إلى النص (1). ونظن أن عمل اليبدري في حجمه ومنهجه يعتبر آخر تأليف في موضوعه أثناء العهد الذي ندرسه.
رقد أسهم في هذا الباب أيضا محمد الطالب الذي يقول عن نفسه إنه التلمساني منشأ ودارا الجزيري (الجزائري؟) أصلا ونجارا، بوضع شرح كبير على مختصر خليل سماه (فتح الجليل في شرح مختصر خليل). وقد نوه في الديباجة بعلم الفقه والأحكام وذكر أن مختصر خليل من أشهر التآليف في هذا العلم. وبرر لجوءه إلى وضع شرحه كون بعض من تناولوا خليل قد أطنبوا فيه، وبعضهم اختصروه اختصارا شديدا مثل الخرشي في شرحه الصغير. لذلك جاء هو (محمد الطالب) ليضع شرحا بين الإطناب الممل والإيجاز المخل، كما هي العبارة الشائعة عند الشراح. وقد اعتمد محمد الطالب على مصادر معينة ذكرها مثل حاشية البناني (وشيخ شيوخنا محمد المصطفى (الرماصي القلعي) في حاشيته)، وعلى الخرشي والشبرخيتي وعبد الباقي والأجهوري وابن غازي. وقد رمز إلى كل مؤلف من هؤلاء بحرف في صلب الكتاب. ويبدو أن محمد الطاب نفسه قد توسع فيما أراد الاختصار (2). وما دمنا نتحدث عن شروح خليل ودارسيه فلنذكر بأن عبد الرحمن المجاجي، الذي سبق ذكره، قد تناول أيضا أحكام المغارسة التي أهملها الشيخ خليل (3).
__________
(1) اطلعنا على هذا المخطوط في المكتبة الملكية بالرباط، رقم 1811.
(2) اطلعنا على نسخة المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 2048، وهي غير كاملة، ومع ذلك بلغت 655 ورقة، وهي تنتهي بمسائل الحج، وخطه صعب القراءة ولعله هو خط المؤلف، والظاهر أن محمد الطالب من أهل القرن الثاني عشر.
(3) نسخة منه في الخزانة العامة - الرباط رقم (1) 459، ويغلب على الظن أن هذا التأليف مطبوع في فاس طبعة حجرية.
وفي العاصمة اعتنى بعض الفقهاء بالتأليف في خليل أيضا وفي المسائل الفقهية على العموم. ومن هؤلاء سعيد قدورة ومحمد بن عبد المؤمن. ولكننا لم نطلع على عمل لهما في مستوى عمل اليبدري مثلا. فقدورة، الذي كاد يكون له شرح أو حاشية على كل مسألة كان يدرسها للطلاب، قد وضع أيضا شرحا على خطبة المختصر لخليل (1)، كما وضع حاشية على شرح اللقاني لخطبة خليل (2). وقد حاول محمد بن عبد المؤمن، وهو أديب وشاعر أيضا، وضع أرجوزة جمع فيها بين العقائد والفروع الفقهية، وهي تقع في نحو تسعة وسبعين بيتا. وهي أرجوزة سهلة واضحة تدل على تمكن صاحبها من صناعة النظم. وكان قد طلب من ابن زاكور، الذي أجازه بها، أن يشرحها إذا تمكن (3). ولكننا لا ندري ما إذا تمكن ابن زاكور من ذلك، كما أننا لا ندري ما إذا كان الناظم نفسه قد قام بشرحها، وخصوصا الجزء الخاص بالفروع، وهو الذي يهمنا هنا. ولكن مهما بلغت براعة ابن عبد المؤمن في النظم والتمكن من الفقه فإن عمله ليس بذي بال إذا وضع إلى جانب أعمال الونشريسي أو الثميني أو اليبدري.
وقد عرف إقليم قسنطينة مشاركة أيضا في الفقه وفروعه. وكانت مدن قسنطينة وبجاية وعنابة وبسكرة مركز هذا النشاط. فقد وضع يحيى الفكون حاشية على المدونة ضمنها، كما قال حفيده عبد الكريم الفكون، نوازل ووقائع قل أن توجد في المطولات. وقد أكملها لأن حفيده يقول انها مسودة بخطه، أي خط المؤلف نفسه. وكان يحيى الفكون من فقهاء قسنطينة ولكنه التجأ إلى تونس، على كبر سنه، أثناء الاضطرابات التي حدثت في بلاده. وفي تونس تولى الفتوى والإمامة بجامع الزيتونة. بينما كان ابنه قاسم الفكون متوليا إمامة جامع سوق البلاط بتونس أيضا. وقد رجع قاسم الفكون إلى
__________
(1) رقم 370، خزانة ابن يوسف بمراكش.
(2) رقم 275، مكتبة تطوان، ضمن مجموع، وأيضا الخزانة العامة بالرباط، رقم 2758 د.
(3) ابن زاكور، 17 - 21.
قسنطينة وتولى بها القضاء بعد وفاة والده قتيلا بتونس سنة 941 (1). وهناك تعليق صغير كتبه عمر الوزان على قول خليل (وخصصت نية الحالف) (2). وكذلك كتب يحيى بن سليمان المعروف بالأوراسي بعض التقاييد. وكان قد تولى الافتاء. والتدريس بقسنطينة كما عرفنا، غير أن اشتغاله بالتصوف ثم لجوءه الى الثورة ضد العثمانيين قد سبب اضطرابا في حياته العلمية (3).
ومن جهة أخرى قام عبد الرحمن الأخضري بوضع مختصر في فقه العبادات (4)، وهو المختصر الذي شرحه عبد اللطيف المسبح شرحا كان موضع نقد عبد الكريم الفكون (الحفيد) الذي عمد إلى شرح مختصر الأخضري أيضا. وقد سمى الفكون شرحه (الدرر على المختصر) قائلا عنه (نبهنا على فوائد فيه لم توجد في المطولات، ونكت حسان قل أن تلفى في غير، وتنبيهات وفروع. وربما نبهنا على ما طغى به قلم شارحه المذكور (يعني المسبح). أما شرح المسبح على المختصر للاخضري فلا نعرف عنوانه الآن.
وقد اعتنى الشيخ موسىى الفكيرين القسنطيني بالتوضيح لابن الحاجب خصوصا، فكان له إدراك لأبحاثه حتى قيل إنه كان (آخر مدرس في ابن الحاجب في قسنطينة، لم يدرس فيه أحد البتة (بعده) بل كثر الاعتناء بالمختصر الخليلي) (5).
__________
(1) (منشور الهداية) 12 - 15. ضرب أحد الجنود الشيخ يحيى الفكون فقتله وكان ذلك أيام غارة شارلكان على تونس، انظر أيضا ترجمتنا لعبد الكريم الفكون في الفصل 5 من الجزء الأول. وكذلك (منشور الهداية).
(2) نسخة منه في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية (قسم يهودا) رقم 178 مجموع.
(3) (منشور الهداية)، 26 - 28.
(4) مطبوع في كتيب بالجزائر، 1342، ويذكر الجيلالي 2/ 328 أن شرح المسبح على مختصر الأخضري مطبوع بمصر.
(5) الوزير السراج (الحلل السندسية في الأخبار التونسية) 2/ 248. وقد توفي الفكيرين بقسنطينة بالطاعون سنة 1954. انظر عنه أيضا (منشور الهداية).
وقد عرفنا أن معظم مؤلفات البوني في الفقه كانت نظما أو مختصرة.
وبينما كان زملاؤه العلماء يحاولون شرح مختصر خليل وتوضيحه عمد البوني إلى نظم مسائل خليل. ولا شك أنه بذلك قد سهل حفظه على التلاميذ ولكنه لم يساعدهم على فهمه واستيعابه. ومن الذين نظموا مختصر خليل أيضا خليفة بن حسن القماري الآتي ذكره. وهناك رجز في الفقه نظمه أحمد الطيب الرحموني أحد أتباع الطريقة الرحمانية. وقد قيل إن هذا الرجز كان مستعملا بين قضاة جرجرة. وكان الرحموني مدرسا في الزاوية الرحمانية بآيت إسماعيل، وقد نظم رجزه سنة 1212 (1).
عبد العزيز الثميني:
والمؤلف الذي يمكن أن يقاس عمله في الفقه الإباضي بعمل أحمد الونشريسي في الفقه المالكي، هو عبد العزيز بن الحاج بن إبراهيم الثميني. ولا تظهر حياة الثميني الأولى أي شيء غير عادي فيه. فقد ولد في بني يزقن بميزاب سنة 1130 وتعلم، كما يتعلم أمثاله في ذلك الوقت، فحفظ القرآن الكريم وأخذ مبادئ العلوم، وحين بلغ سن النضج دخل التجارة على عادة الميزابيين عموما. وسيكون لهذه المهنة أثرها على آرائه واهتماماته في الفقه، فهو من الفقهاء العمليين. وقد عرفنا أن بعض العلماء كانوا يمارسون التجارة في غير ميزاب أيضا. وهناك عاملان وجها حياة الثميني وجهة جديدة، الأول ما رآه في مجتمعه من الفساد والعصبية وانتشار بعض البدع الضارة فحز كل هذا في نفسه وعزم على تغييره بجميع الوسائل. والثاني ورود الشيخ يحيى بن صالح الأفضلي من جزيرة جربة بعد أن مكث فيها طويلا. وقد تصدر الأفضلي للتدريس وتخريج التلاميذ الذين يحملون رسالته في الإصلاح. وهنا التقت إرادة الشيخ (يحيى بن صالح) وإرادة التلميذ (عبد العزيز الثميني) في وجوب العمل على إصلاح المجتمع في تلك النواحي. وقد وجد الشيخ في تلميذه الرغبة الملحة والذكاء الوقاد والغيرة على الإصلاح فاحتضنه وساعده
__________
(1) ديلفان (المجلة الإفريقية)، 1874، 420، ويملك ديلفان نسخة من هذا الرجز.
________________________________________
على شق طريقه. وصعد الثميني في مجتمعه إلى أن اعترف له بالإمامة العلمية ومشيخة المسجد وأصح رئيسا للمجلس الذي كان يعتبر السلطة العليا في ميزاب كلها.
غير أنه لم يصل إلى هذه الدرجة إلا بعد عناء وجهد وبعد أن ألف. عمله الكبير الذي نحن بصدده وهو كتاب (النيل وشفاء العليل). فقد قيل إنه اعتكف على التأليف في بيته مدة ثمانية عشر عاما. فماذا ألف غير الكتاب المذكور؟ الواقع أنه رغم شهرته بكتاب (النيل) فإنه قد أثرى المكتبة الإسلامية والدراسات الفقهية على الخصوص بمادة غزيرة. فمن مؤلفاته (التكميل لما أخل به كتاب النيل) الذي سنتعرض له في مكان آخر، و (الورد البسام في رياض الأحكام) وهو أيضا في الفقه ومتمم للكتاب الأول. وله مؤلفات أخرى في التوحيد والاجتماع والحديث والمنطق، كما أن له مجموعة من الفتاوى. ويلاحظ على مؤلفاته الأخيرة أنه اتبع فيها طريقة علماء عصره وهي شرح كلام الغير أو التحشية عليه أو اختصاره أو نحو ذلك. فكتابه (التاج) مثلا، الذي قيل إنه في عشرة مجلدات، قد اختصر فيه كتابا. لخميس العماني المسمى (منهاج الطالبين وبلاغ الراغبين). ولكن يلاحظ على مؤلفات الثميني أنها تعالج موضوعات عملية مباشرة مع استقلال في الرأي وحسن اختيار للموضوع. من ذلك معالجته لقضايا المجتمع التي ذكرناها في كتابه (التاج في حقوق الأزواج). ويبدو أن روح التصوف لم تطغ على الشيخ الثميني كما طغت على بعض فقهاء عصره. فتناوله لعلم الكلام في كتابه (النور) وأهمية الصلاة في كتابه (الأسرار النورانية) كان على ما يبدو تناولا علميا لا صوفيا (1).
جمع الثميني مادة كتابه (الذيل) من مصادر الفقه الإباضي الأخرى وجعله مختصرا لمسائلها وأقرب منها إلى فهم المعاصرين. ولذلك انتقد
__________
(1) انظر عنه مقدمة كتاب (النيل)، الجزائر 1967. وبروكلمان 2/ 697، وقد توفي الثميني سنة 1223.
عبارة السلف وقال إن عبارة الخلف أوضح من عبارتهم (فإن عبارة الخلف وإن قصر ذراعها أوضح من عبارة السلف وإن طال باعها). وقد أوضح في المقدمة كيف كان يدور في خلده عمل اختصار في الفقه الإباضي يحتوي على فتاوي مشاهير المذهب، (لا مخلا ولا مملا ولا مانعا). كما روى الظروف الصعبة التي كانت تحيط به في شكوى تذكرنا بشكوى أبي راس، المعاصر له، من الزمان فقال: (اختلست لجمعه من أثناء الأيام فرصا، مع ما أكابد وأتجرع من الزمان غصصا .. في أيام دهش وتموج فتن، على عجل وتتابع محن). وقد سمى كتابه (النيل) (رجاء من الله سبحانه وتعالى أن ينفع به .. كما نفع بالنيل) (1). وبعد الانتهاء منه عرضه على شيخه يحيى بن صالح وصححه عليه.
يقع كتاب (النيل) في ثلاثة أجزاء ويشتمل كل جزء على عدة كتب. ومجموع الكتب في الأجزاء الثلاثة اثنان وعشرون كتابا. وكل كتاب يحمل أحد عناوين أبواب الفقه المعهودة. فهناك كتب الطهارة، والصلاة، والإيجارات، والرهن، والهبة، والشفعة، والنفقات الخ. وكل كتاب يحتوي على خاتمة. و (النيل)، رغم أن مؤلفه رغب في أن يكون عمله غير مخل، قد وجده بعض المختصين معقدا لإيجازه الشديد أحيانا. ولعل ذلك راجع إلى كون الثميني نفسه قد نقحه واختصره مرتين بعد أن أتمه. ومهما كان الأمر فقد عكف بعض علماء الإباضية على شرح كتاب (النيل) أيضا. ومن ذلك الشرح الذي وضعه عليه محمد بن يوسف أطفيش والذي بلغ فيه عشر مجلدات طبعت كلها (2)، كما تناوله آخرون بالحاشية أو بالنظم. فهو رغم اختصاره، أصبح مصدرا لا غنى عنه في الفقه الإباضي، وقد اعتبره بعض
__________
(1) يبدو أن الناشرين هم الذين أطلقوا عليه اسم (النيل وشفاه العليل). أما المؤلف فقد اكتفى بكلمة (النيل)، وقد طبع الكتاب أول مرة في مصر سنة 1305. انظر عنه شرح محمد بن يوسف أطفيش عليه في الأجزاء اللاحقة من الكتاب.
(2) طبعت الأجزاء السبعة الأولى سنة 1306 والثلاثة الباقية سنة 1343، وكلها بمصر. انظر لاحقا.
الإباضيين في مكانة مختصر خليل في المذهب المالكي.
خليفة بن حسن القماري:
ومن أشهر من نظم خليل واعتنى بالفقه المالكي عناية خاصة خليفة بن حسن القماري. وقد ولد هذا الشيخ بقمار إحدى بلدات وادى سوف، وعاش حياته العلمية متنقلا بين مسقط رأسه وبين بسكرة وسيدي عقبة وخنقة سيدي ناجي. ولا ندري إن كان قد رحل إلى تونس وغيرها لطلب العلم أيضا والحج. ورغم عزلته فقد ظل ينهل من مصادر تونس وقسنطينة. وهناك مصادر أخرى لغذائه الروحي وهو ركب الحج المغربي الذي كان يسلك طريق الصحراء في ذهابه وعودته. ودليلنا على ذلك تلك المراسلات التي دارت بين خليفة بن حسن وبين علماء الخنقة وبسكرة من جهة، وملاقاته لبعض علماء المغرب أثناء مرورهم بالزيبان وإجازتهم له. ومن هؤلاء عبد القادر بن أحمد بن شقرون القاسي الذي لقي خليفة بن حسن في بسكرة أثناء توجه الفاسي إلى الحج. فقد سماه (الفقيه الفاضل، الجامع لأشتات الفضائل، المشارك المتقن، والبارع المتفنن، ذا الخلق الحسن، سيدي خليفة بن حسن). وقال الفاسي عن نظم الشيخ خليفة العبارات الآتية التي كتبها على نسخة المؤلف، وهي (وقد أطلعني على نظمه الجليل، لمختصر أبي الدنيا خليل، المكتوب هذا على أول ورقمة منه. فطالعت منه البدء والختام، ومواضع منه أنبأتني على أنه مقدام، من فرسان البراعة وأئمة اليراعة، إذ هو نظم عذب الموارد مهذب المقاصد سلس العبارة رائق الإشارة .. وقد طلب مني .. أن أوقع عليه ما تيسر. فأسعدته إسعاد محب صادق، فرقمت له هذه الحريفات ..). وكان ذلك سنة 1193 بمدينة بسكرة (1)، ويدلنا هذا النص على شيئين الأول قيمة هذا النظم في نظر أحد فقهاء المغرب المعروفين، والثاني الصلة العلمية التي كانت تربط علماء المغرب والجزائر.
وقد كان من عادة علماء القرى والمناطق النائية الخروج لركب الحاج
__________
(1) (إتحاف القاري) تأليف محمد الطاهر التليلي القماري، وهو مخطوط.
المغربي وملاقاة العلماء الذين يرافقونه والأخذ عنهم وربط الصلات العلمية معهم. وقد ذكر العياشي أنه تراسل مع بعض علماء الجزائر أثناء مروره بهذه النواحي أيضا. ويبدو أن سمعة خليفة بن حسن كانت ذائعة في عصره. فهذا الناصري الدرعي صاحب الرحلة الكبرى قد سجل انطباعه أيضا عن ملاقاته بالشيخ خليفة. وقال إنه كان قد سمع به ولم يلقه أثناء ذهاب الركب إلى الحج لأن خليفة بن حسن عندئذ كان في بلاده. أما عند عودة الركب فقد خرج الشيخ خليفة إلى سيدي عقبة للقاء علماء المغرب. وقد حكم الدرعي على منظومة خليفة بن حسن حكما يختلف قليلا عن حكم الفاسي. وهذا نص ما كتبه الدرعي عن هذا اللقاء في رحلته (وكان ممن اجتمعنا به في هذه البلدة المباركة (سيدي عقبة) العالم العلامة المسن البركة، سيدي خليفة بن الحسن السوفي، نسبة إلى سوف، قرى صحراوية على خمس مراحل من بسكرة، وكنا سمعنا به ولم نلقه لمغيبه ببلده (أثناء الذهاب إلى الحج)، وجاء بقصد ملاقات (كذا) الركاب النبوية على عادتهم، وأوقفني على نظمه لأبي المودة خليل، وزاد عليه بعض قيود وتنبيهات. وهو نظم سلس لا بأس به، غير أن صاحبه غير متمكن في الصناعة العروضية، وإنما للنظم عنده سجية، وهو زهاء ثمانية آلاف بيت) (1).
سمى خليفة بن حسن نظمه المذكور (جواهر الإكليل في نظم مختصر الشيخ خليل). وكان قد فرغ من نظمه سنة 1192، عندما أصبح طاعنا في السن. ولم يكن له سوى هذا النظم، الذي امتاز بسلاسته ودقته، بل ألف غير ذلك في الفقه أيضا. فله كتاب يعرف بـ (الكنش) أو الكناش، جمع فيه مسائل فقهية هامة على شاكلة النوازل والفتاوى، وقد قدره من رآه بثلاثمائة صفحة من الحجم الكبير. كما ألف شرحا على السنوسية، ونظم الأجرومية،
__________
(1) الرحلة الكبرى للناصري، مخطوطة مصورة، الخزانة العامة بالرباط، رقم 2651 د، ص 497، أما محمد الطاهر التليلي في (إتحاف القاري) فقد قال إن عدد أبيات النظم (9817) سبعة عشر وثمانمائة وتسعة آلاف بيت. فأبيات الجزء الواحد حوالي خمسة آلاف بيت.
وله قصيدة في معرفة الأثر، وفتاوي وآراء اجتماعية سنعرض لبعضها بعد حين (1)، وما تزال آثار خليفة بن حسن القماري لم تجمع ولم تطبع باستثناء نظمه المذكور، فهو مطبوع.
...
أما في الفقه الحنفي فلا نعرف أن علماء هذا المذهب قد ألفوا فيه أعمالا هامة. ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى أن معظم القضاة الحنفية كانوا في أول الأمر يأتون من المشرق لمدة قصيرة. وحين أصبحوا يعينون من العائلات التي نشأت في الجزائر كانوا يعتمدون غالبا في أحكامهم وفتاواهم على شروح وحواشي المشارقة. ومن المعروف أن عائلة ابن العنابي قد ساهمت في التأليف على مذهب أبي حنيفة. ولنذكر هنا تأليف محمد بن محمود بن العنابي المعروف (بشرح الدر المختار)، وهو العمل الذي قرظه محمد بيرم التونسي الحنفي أيضا، ولكننا لا ندري ما إذا كان ابن العنابي قد أكمل عمله، والغالب أنه فعل لأنه عاش فترة طويلة بعد تقريظ الجزء الذي انتهى منه. وقد تناولنا ذلك في كتابنا عنه (2)، وتحتوي المكتبة الوطنية بالجزائر على بعض النصوص في الفقه الحنفي لبعض العلماء الجزائريين مثل الرسالة التي كتبها علي بن محمد الجزائري بعنوان (رسالة في الصلوات) (3).
النوازل والفتاوى والفرائض
وبالإضافة إلى ما ذكرنا ترك علماء الجزائر تآليف في الفتاوى والوقف والفرائض وغيرها من القضايا التي تمس جوانب الدين المختلفة. ورغم أن الباحثين قد نسبوا إلى محمد بن العنابي فتاوي كثيرة فإنها على كل حال غير
__________
(1) (إتحاف القاري). وقد قال التليلي عن الكنش ان الأيام قد عبثت به، وأن آخر العهد به أنه في حيازة السيد محمد بن السائح الغريبي, وقد قام سليمان الباروني بطبع (جواهل الإكليل) في مصر أوائل هذا القرن.
(2) انظر كتابنا (المفتي الجزائري ابن العنابي)، الجزائر، 1977. ط 2، 1992.
(3) دوحة الناشر (الترجمة الفرنسية)، 219 - 221.
مجموعة في كتاب واحد، وهي متفرقة هنا وهناك، كما أنها لا تشتمل على فتاوى غيره في القضايا التي تناولها على نحو ما فعل الونشريسي مثلا. ويكاد يكون كل عالم بشؤون الدين، والفقه على الخصوص، قد جمع بعض الفتاوى التي تقل أو تكثر حسب مكانته وحسب نظرة الناس إليه وكثرة وتلاميذه. وليس من غرضنا هنا إحصاء هذه الفتاوى. فقد نسبت إلى أحمد بن الحاج البجائي التلمساني مجموعة من الفتاوى، وروى له ابن عسكر فتوى طويلة دليلا على إتقانه لهذا الفن (1)، ونسبت إلى محمد بن أحمد المعروف بالكمال عدة أجوبة على نوازل فقهية مختلفة، ولكننا لا نعرف ما إذا كانت هذه الأجوبة مجموعة ومحفوظة (2) ومن ضمن ما ترك عبد العزيز الثميني مجموعة من الفتاوى، كما عرفنا. وذكر صاحب (نيل الابتهاج) لعمر الوزان فتاوى في الفقه والكلام (أبدع فيهما ما شاء) (3). وهناك بعض الفتاوى ذات الموضوع المحدد كرأي أحد العلماء في قضية معينة عرضت له أو سئل عنها. ولدينا من هذه الفتاوى نماذج كثيرة لا نريد أن نأتي هنا على كل ما عرفناه منها، فقد تناول محمد شقرون الوهراني في عمله المسمى (الجيش الكمين لقتال من كفر عامة المسلمين) (4) قضية إيمان المقلد في العقائد العاجز عن معرفة الله بالبراهين (هل إيمانه صحيح أو هو كافر وإيمانه فاسد)؟ وبعد أن ذكر الوهراني آراء العلماء اللذين كفروا عامة المسلمين لأنهم مؤمنون بالتقليد، وحكموا باستباحة أموالهم وفساد عقود زواجهم وغير ذلك - أجاب هو إجابة انتهى فيها إلى صحة إيمان المقلدين من العامة. وقد أورد أوجه الخلاف الناشب بين العلماء حول هذه القضية ناقلا ذلك عن المشاهير منهم أمثال الماتريدي وأحمد بن زكري والقاضي عياض
__________
(1) دوحة الناشر (الترجمة الفرنسية)، 219 - 221.
(2) (سلوة الأنفاس) 2/ 30 - 31.
(3) أحمد بابا (نيل الابتهاج)، ص 197.
(4) نسخة منه في المكتبة الوطنية بالجزائر، رقم 2301 في 9 ورقات، مجموع، وهو مؤلف سنة 920، وأخرى بالخزانة العامة بالرباط، رقم 2775 د.
وابن رشد. ورغم اعتراف الوهراني بأن المسألة خلافية فإنه انتهى إلى الأخذ برأي أهل السنة، كما يقول، ونبذ آراء المعتزلة ونحوهم. والملاحظ أن الرأي الذي وصل إليه الوهراني قد سانده فيه، بشهادات مكتوبة، أربعة من علماء تلمسان وهم. إبراهيم بن أحمد الوجديجي ومحمد بن عيسى وأحمد بن ملوكة ومحمد بن العباس. والوهراني المذكور هو نفسه صاحب الفتوى المشهورة التي أفتى فيها مسلمي الأندلس بالبقاء تحت الضغط وإخفاء دينهم والتظاهر بالنصرانية. وقد احتلت قضية اليهود مكانا بارزا في تكفير العلماء خلال العهد العثماني.
وكان العلماء بصفة عامة ناقمين على تدخل اليهود الاقتصادي والسياسي في الدولة، ولكن حماية بعض الباشوات والبايات لهم قد جعل العلماء يبلعون نقمتهم. ويظهر ذلك من بعض الفتاوى التي قد تبدو قاسية ضد اليهود. فقد عرفنا موقف عبد الكريم الفكون (الجد) من قضية المسمى المختاري الذي تطاول على الرسول (صلى الله عليه وسلم) والذي أفتى الشيخ بقتله رغم حماية السلطة السياسية في قسنطينة له. وأفتى الشيخ محمد الولي الحفي بإحراق اليهود والنصارى إذا أعلنوا سب الرسول (صلى الله عليه وسلم)، معتمدا في ذلك على مجموعة من الأحاديث والروايات التاريخية. وقد وضع رسالة في ذلك سماها (السيف الممدود في عنق من أعان اليهود) (1)، وأسهم محمد بن أحمد الكماد في هذه الحملة بإصدار جواب ضمن أجوبة علماء فاس بإبطال ما اشتهر به يهودها من عهد منسوب لرسول الله (2).
ولأحمد البوني فتوى في الحضانة كتبها سنة 1113 ونسخها ولده أحمد الزروق سنة 1145. ونحن نسوق بعض هذه الفتوى لا لموضوعهاولكن للأفكار التي وردت فيها والتي تلقي ضوءا على تفكير البوني وبعض
__________
(1) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2198 في خمس ورقات، وهي مكتوبة سنة 1172 بعد حادثة وقعت عندئذ.
(2) انظر مخطوط رقم 2120 د، الخزانة العامة بالرباط، ضمن مجموع. وانظر أيضا عن هذه الفضية (إتحاف أعلام الناس) 1/ 339.
علماء عصره. فقد وردت عليه من قسنطينة رسالة يطلبون فيها منه إبداء رأيه كتابة في قضية حضانة انقسم حولها العلماء، وهي طفل ماتت أمه وألف أباه ألفة كبيرة، وعندما طالبت به جدته لأمه (وهي حاضنته الشرعية) أبى وبكى، فما الحكم؟ فقد أفتى البعض ببقائه مع والده وأفتى آخرون بنقله إلى جدته، وكل فريق أيد رأيه بنقول علمية وشرعية. وقد أجاب البوني بأن الوالد أحق بالطفل في هذه الحالة. وأضاف أنه ليس للجدة حق أصلا وإن كان المشهور أن الحضانة حق لها، واستدل لرأيه بأقوال خليل وشراحه من المتأخرين، كما استدل بالعقل، وبرر البوني أخذه برأي المتأخرين بقول القائل:
قل لمن لا يرى المعاصر شيئا ... ويرى (1) للأوائل التقديما
إن ذاك القديم كان جديدا ... وسيبقى هذا الجديد قديما
واستدل أيضا برأي ابن مالك وبالأمثال التي تذهب إلى أن العلم منحة إلهية يرزق بها الله من يشاء، وهي غير مقصورة على الأولين، ورفض البوني الاعتقاد في القول القائل (ما ترك الأول للآخر شيئا) (2)، ولا شك أن هذا رأي مهم أدلى به البوني قد لا يتناسب مع ما نسب إليه من القول بإسقاط التدبير. وهو يدل على أن روح الاجتهاد والحرية العقلية ما تزال حية حتى عند أمثال البوني الذين جمعوا بين الفقه والتصوف.
وقد عرفنا أن قضية تناول الدخان قد شغلت بعض العلماء فألفوا فيها وأفتوا. ومن الذين أفتوا فيها أحمد المقري الذي توجد أجوبته في ذلك مجموعة مع أجوبة غيره (3)، وألف فيها عبد القادر الراشدي وعبد الكريم الفكون. ولعل الفكون هو أشهر من كتب في هذا الموضوع. فعمله الذي سماه (محدد السنان في نحور إخوان الدخان) يشتمل على عدة كراريس. وقد ضمنه مباحث اجتهادية ونقولا من الفقهاء. وهاجم فيه متناولي الدخان وحكم بتحريمه لأنه، في نظره، يحدث (نشوة وطربا) كالحشيشة. ومن الذين
__________
(1) في الأصل (يرى) مكتوبة بالألف الممدودة.
(2) (فتوى في الحضانة) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2160، وهي بخط جيد.
(3) أجوبة في اجتناب الدخان، المكتبة الملكية بالرباط، رقم 7579 مجموع.
هاجمهم الفكون العلماء المشارقة عموما لتساهلهم في مسائل الدخان ونحوها، وقال إنهم يتناولون الدخان في المساجد وأنهم لا يعظمونها لأنهم ينامون فيها ويحلقون رؤوسهم فيها. وخص الفكون عليا الأجهوري بالهجوم لقوله بأن مسألة التدخين تتعلق بأمزجة الأشخاص، فإن أسكر فهو حرام وإن لم يسكر فهو حلال، ورغم نقد الفكون لأهل التصوف في كتابه (منشور الهداية) فإنه في كتابه (محدد السنان) قد بنى تحريم الدخان على رأي الفقهاء والصوفية. فقال إن (غالب المتورعين من الفقهاء، ومعهم جميع الصوفية أرباب البصائر الصافية يصرحون بالتحريم). وهو يعتقد أن الفقهاء إذا اختلفوا في مسألة وكان معهم الصوفية فالذي يجب الأخذ به هو الرأي الذي معه الصوفية (لأن الله يؤيدهم وهوى النفوس مفقود منهم فلا ينطقون إلا عن حق وصواب) (1)، ومن الواضح أن الفكون هنا يقصد المتصوفين الحقيقيين الذين عقد لهم فصلا خاصا في كتابه (منشور الهداية) وليس المتصوفين الدجالين الذين سماهم هناك أدعياء الولاية.
وألف في نوازل الأرض وعمارتها وما يتصل بذلك عدد من علماء الجزائر أيضا. ومن هؤلاء عبد العزيز الثميني في كتابه (التكميل لبعض ما أخل به كتاب النيل)، وهو عمل في أحكام عمارة الأرض من تشييد المنازل والمدن والقرى وفتح الطرقات وغرس البساتين وتقسيم المياه وأحكام الشركات في العقار والمنقولات وحدود الملكية وتحديد المضرات وأحكامها وأحكام المشاع. وكان الثميني قد اختصر به كتاب (أصول الأرضين)
لأحمد بن محمد بن أبي بكر (2).
__________
(1) العياشي (الرحلة) 2/ 396 - 403 وقد أشار الفكون نفسه عدة مرات إلى (محدد السنان) في كتابه (منشور الهداية). انظر مثلا ترجمة المقري وترجمة محمد وارث الهاروني. وبذلك يكون الفكون قد ألف (محدد السنان) في منتصف عمره تقريبا، أي حوالي سنة 1035. وتوجد نسخة من هذا الكتاب في المكتبة الملكية - الرباط، وقد حصلنا منها على مصورة. انظر كتابنا (شيخ الإسلام)، ط. بيروت، 1906.
(2) مجلة (المنهاج) ج 8، ثعبان 1344، 467، وهذا الكتاب مطبوع مع ترجمة للثميني =
وفي هذا النطاق ألف محمد المصطفى بن زرفة برسم الباي محمد بن عثمان الكبير كتابا سماه (الاكتفاء في حكم جوائز الأمراء والخلفاء) تناول فيه أحكام الأرض المفتوحة عنوة وصلحا، وتجارة الأمراء وهداياهم والديون ونحو ذلك مما كان يشغل بال الباي المذكور ويثير بعض الخلافات بينه وبين علماء وقته. وقد قسم ابن زرفة كتابه، الذي ألفه سنة 1199، إلى أربعة فصول أو أقسام، وتكلم في الفصول الثلاثة على حقوق الأمراء (مثلا - البايات) في مسائل الضرائب والهدايا والتجارة وأوضاع أملاك المدينين وغير ذلك. وأما الفصل الرابع فقد خصصه لموارد بيت المال وطريقة استعمالها، وطريقة توزيع غنائم الحرب، وأحوال الأعراب المغلوبين بقوة السلاح على أرضهم ومصير هذه الأرض إذا كانت مفتوحة عنوة أو صلحا. وأكثر ابن زرفة من النقود على الفقهاء المتقدمين من أهل المشرق والأندلس والمغرب. ولا شك أن ابن زرفة، الذي كان كاتب الباي وقاضيه، قد حاول أن يبرر أعمال الباي وأن يعطيه سلاحا فقهيا. يعتمد عليه في معاملة الثوار وإسكات العلماء ونحو ذلك من الأمور التي كانت تثير الجدل (1).
وهناك مؤلفات أخرى وفتاوي أصدرها أصحابها بعد ممارسات في شؤون الحياة. من ذلك (تقييد) عبد الرحمن الأخضري فيما يجب على المكلف (2)، وفتوى خليفة بن حسن القماري في العمل بمعرفة أثر السارق المتهم، وذلك بعدة مراسلات بينه وبين علماء الخنقة حول هذه النقطة.
__________
= كتبها حفيده محمد الثميني.
(1) ذكر هذا الكتاب وعرف به السيد أرنست ميرسيي في (روكاي) 1898، 312 - 340، وقد حلل بعض أجزائه تحليلا بعيدا عن الحقيقة، واعتمد في ذلك على نسخة هوداس من كتاب (الاكتفاء) وقد أشار إلى وجود هذا الكتاب أحمد بن سحنون مؤلف (الثغر الجماني) ومعاصر ابن زرفة في بلاط الباي محمد الكبير. وقد رأينا كيف تحصل المستشرق هوداس على الرحلة القمرية وكتاب الاكتفاء لابن زرفة.
(2) الخزانة العامة بتطوان، رقم 125 مجموع.
وقد أجابهم الشيخ خليفة بقصيدة أوضح فيها ضرورة العمل فقهيا بما ذكر، فأذعنوا لرأيه (1)، كما ألف مصطفى بن رمضان العنابي كتابا اسمه (الروض البهيج في أحكام العزوبة والتزويج) بعد أن وقعت له أمور في زواجه (2).
ومن علماء هذه الأسرة محمد ابن العنابي الذي أفتى كثيرا في مسائل العصر وجمعت له من ذلك مجموعات ما تزال محفوظة في المكتبات العامة والخاصة، كما أنه ألف كتابا هاما في موضوعه وهو ضرورة منافسة الأوروبيين في تقدمهم الصناعي والتقني والعسكري والأخذ عنهم في ذلك وتجاوزهم فيه، وهو كتاب (السعي المحمود في نظام الجنود). وقد أكثر فيه من نقول العلماء واستعمل فيه القياس في مسائل عديدة، وطالب سلاطين آل عثمان بتجديد الدولة وإصلاح النظم، كما أيدهم في القضاء على الإنكشارية وهاجم الفقهاء المتزمتين. وما دمنا قد تناولنا هذا الكتاب بالتحليل والدرس والنقد في مكان آخر فلنكتف منه هنا بهذا المقدار (3).
ويتصل بعلم الفقه موضوع التركات والأوقاف والفرائض. ولا نعرف أن هناك تأليفا خاصا بقضايا الوقف غير رسالة أحمد بن عمار المسماة (رسالة في مسألة وقف) (4)، وهي جديرة بالقراءة والتأمل لاحتوائها أيضا على آراء اجتهادية هاجم فيها ابن عمار الجمود العقلي في وقته وضعف العارضة عند علماء عصره، وهناك أيضا (رسالة في الوقف) كتبها محمد
__________
(1) محمد الطاهر التليلي (إتحاف القاري)، مخطوط، والمقصود بالأثر هنا تتبع أثر رجل السارق على الأرض الرخوة أو الرملية والحكم عليه بمقتضاه.
(2) يوجد بعضه مخطوطا في مكتبة جامع البرواقية. انظر عنه أيضا كتابنا (المفتي الجزائري ابن العنابي).
(3) درسناه وحددنا مواضع نسخه وحياة مؤلفه في كتابنا (المفتي الجزائري ابن العنابي). وقد ألفه سنة 1242 ولذلك تناولناه ضمن إنتاج العهد العثماني.
(4) هذه الرسالة منشورة ضمن (المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية)، تونس 1910.
ابن العنابي (1)، وهي في موضوع واقف نص على أن من مات قبل الاستحقاق يقوم ولده مقامه. أما سعيد بن محمد العقباني التلمساني، الذي كان خطيب وقاضي تلمسان خلال القرن الحادي عشر، فقد وضع شرحا خصصه للإرث ونحوه. وقد قسم الكتاب إلى أبواب تناول فيها الولاء والإقرار والوصايا والمناسخة الخ. كما شرح الألفاظ لغة واصطلاحا، وذكر الأحكام وطرق التوصل إلى حل التركات، ويبدو أن عمله عبارة عن شرح هذه لأحد أعمال القلصادي في الفرائض، فالنسخة التي اطلعنا عليها متآكلة الأطراف وعليها حواشي لبعضهم (2).
ويتصل علم الفرائض اتصالا وثيقا بالفقه والحساب معا. لذلك وجدنا عددا من العلماء المشتغلين به كانوا أيضا مشتغلين بالحساب. وسنشير إلى هذه العلاقة في الفصل الخاص بالعلوم. فقد نظم عبد الرحمن الأخضري متن (الدرة البيضاء) في خمسمائة بيت، وهي في الفرائض والحساب. وقد قسمها إلى ثلاثة أقسام: الحساب، والتركات، والقسمة. وكان الأخصري قد بدأ الشرع ثم سرقت منه النسخة ولكنها أعيدت له بعد مدة. والمعروف أنه أكمل شرح القسم الثاني على الأقل. أما الأول فليس من المؤكد أنه هو الذي شرحه، وكذلك القسم الثالث. وقد نصت طبعة القاهرة سنة 1891 للدرة البيضاء على أن القسم الثاني قد شرحه الأخضري بنفسه وكذلك القسم الثالث ما عدا الفصول الثلاثة الأخيرة. أما القسم الأول فقد نصت على أن الأخضري لم يشرحه، ولكنها لم تذكر من شرحه: فهل هو شرح عبد اللطيف المسبح؟ لقد ذكر الفكون أن عبد اللطيف المسبح المرداسي قد شرح (الدرة البيضاء) أو على الأقل أكمل ما لم يشرحه الأخضري منها (3). وقد اعتنى
__________
(1) نسخة منها في مكتبة جامعة برنستون بأمريكا (قسم يهودا)، رقم 2199.
(2) اطلعنا على نسخة باريس، مخطوطات رقم 5312، وهي في 141 ورقة.
(3) الفكون (منشور الهداية)، 16. انظر أيضا لوسياني (السلم)، الجزائر 1921، 10 - 11. وقد ترجم الفكون لعبد اللطيف المسبح الذي كان معاصرا لجده، وأصل عائلة المسبح من مرداس.
المسبح ببعض أعمال الأخضري الأخرى كشرحه على (مختصر) الأخضري في العبادات وآداب الدين، وهو (أي المختصر) الذي شرحه الفكون أيضا. وقد سمى المسبح شرحه (عمدة البيان في معرفة فروض الأعيان). وكان قد أكمله سنة 985 (1).
ويبدو أن علم الفرائض قد تدهور بمرور الزمن، وكان ذلك نتيجة ضعف العناية بالحساب والرياصيات عموما. وهذا ما جعل الفكون في القرن الحادي عشر يحكم بانقراض علم الفرائض تقريبا. فقد لاحظ وهو يتحدث عن محمد بن نعمون بأنه كان يعتمد على ولديه في الدرس وفي مسائل الوثائق والفرائض، لأن ثلاثتهم (معهم معرفة مبادئ الفرائض قسمة وبعض مسائل وصايا الصحيح ومناسخات دون ما عدى ذلك من أبوابها ومشكلاتها لانقراض العلم في كل الأقطار فيما أعلمه، اللهم إلا ما شذ) (2)، غير أن علم الفرائض قد شهد نهضة قوية على يد عبد الرزاق بن حمادوش في القرن الثاني عشر، لأنه كان منشغلا بالعلوم، كالطب والرياضيات والفلك، وألف عدة تآليف، كما سنعرف في فصل العلوم. ويظهر اهتمامه بعلم الفرائض والوثائق من النماذج والجداول التي ساقها في رحلته. فقد ضرب هناك عدة أمثلة وأظهر كيفية حل المشاكل الفرضية بسهولة ويسر وبطريقة مختصرة، وكان في ذلك معتدا بنفسه وعلمه حتى أنه سخر ممن لا يتقن هذه المعلومات البسيطة في نظره (3)، ومن الذين عاصروا ابن حمادوش وكتبوا في الفرائض أيضا محمد بن عبد الرحمن بن حسين العنابي. فقد وجدت له شرحا في هذا الموضوع طبقا للمذهب الحنفي، ولم نستطع أن نتوصل إلى عنوان هذا الشرح (4).
__________
(1) توجد نسخة من هذا الشرح في مكتبة زاوية طولقة، في حوالي مائة ورقة.
(2) الفكون (منشور الهداية)، 61.
(3) انظر دراستنا عن ابن حمادوش ورحلته في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، أبريل 1975، وكذلك في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).
(4) نسخة منه في مكتبة البرواقية، وقد كتبه المؤلف سنة 1185.
وهكذا يتضح أن مساهمة الجزائريين في العلوم الشرعية مساهمة هامة.
ولو عثر على كل مؤلفاتهم أو جلها، ودرست دراسة متخصصة ونقدية لخرجنا من ذلك بتراث غزير. وعسى أن يتواصل البحث في هذا الموضوع الجليل. ذلك أننا عرفنا أن أساس التفكير الجزائري خلال العهد العثماني كان قائما على العلوم الشرعية. فدراسة هذه العلوم إذن ستكشف أكثر فأكثر عن نوعية هذا التفكير ومكانته.
الفصل الثاني
علم الكلام - التصوف - المنطق
في عصر ساد فيه التصوف كل شيء في الحياة تقريبا، لا يمكن أن يكون إنتاج علمائه إلا مصبوغا بالزهد والموعظة والالتزام بمبادئ المتصوفين والزهاد (1). ولا يضارع إنتاج الجزائريين في التصوف والمواعظ إلا إنتاجهم الأدبي الذي تلون أيضا بلون التصوف، كما سنرى. ويتصل بالتصوف علم الكلام والمنطق. ولذلك تناولناهما في هذا الفصل أيضا. وليس هناك كتب فلسفية بالمعنى الدقيق للكلمة، فإذا وجدنا شيئا من ذلك، كالجدل والمطارحات ونحوها أدرجناها في هذا الفصل أيضا لصلتها بالمنطق والكلام. أما المواعظ والأذكار ونحوها فقد أضفناها إلى التصوف. ونظرا لأهمية يحيى الشاوي في علم الكلام والردود أفردنا له ترجمة في هذا الفصل.
علم الكلام
شاع لدى الجزائريين استعمال تعبير علم الكلام وعلم التوحيد على حد سواء. وكانوا يعتبرون هذا العلم من أهم العلوم بل هو أهمها. فقد عرفه مصطفى الرماصي في القرن الثاني عشر بما يلي: (علم الكلام أوثق العلوم دليلا، وأوضحها سبيلا، وأشرفها فوائد، وأنجحها مقاصد، إذ به تعرف ذات الحق وصفاته، ويصرف عنه ما لا يليق به ولا تقبله ذاته) (2). ورغم هذا
__________
(1) انظر الفصل السادس من الجزء الأول.
(2) الرماصي (حاشية على أم البراهين للسنوسي) ك 2499 الخزانة العامة بالرباط، ضمن مجموع، في حوالي 300 صفحة، قارن هذه المقالة بمقالة محمد السنوسي أيضا عن علم الكلام في الفصل الأول من الجزء الأول.
الإلحاح من الرماصي على ضرورة تعلم علم الكلام فإن الورتلاني، الذي عاش في نفس العصر، قد روى أن علماء الخنقة كانوا لا يتعلمون علم الكلام لأنه في نظرهم لا يحتاج إلى دليل. ولعل بعض العلماء كان يهرب من التعمق في علم الكلام لأن ذلك يؤدي في نظرهم إلى الكفر أو الخروج عن الدين. وليست الخلافات المذهبية والفلسفية إلا نتيجة لمدارسة علم الكلام والتعمق فيه والتمادي في الاستباط والبحث عن الأدلة.
والعقائد السائدة لدى الجزائريين هي عقائد الأشعري، وهي عقائد جمهور أهل السنة (1). وكانت مؤلفات محمد بن يوسف السنوسي في العقائد هي المصدر المحلي لدراسة علم الكلام. وقد اصطبغت هذه المؤلفات بالصبغة الصوفية. ورغم أن السنوسي كان يجمع بين علمي الظاهر والباطن فإن شارحيه ومحشيه ودارسي مؤلفاته قد مالوا، تبعا لروح العصر، إلى علوم الباطن. وقد أصبح كل من خالف هذا التيار يتهم بالتجسيم والاعتزال والإيمان بظواهر النصوص، ومن ثمة يحكم عليه بالكفر والزندقة. حدث هذا لعبد القادر الراشدي مفتي قسنطينة في القرن الثامن عشر الميلادي (2)، فقد اتهمه علماء بلده بالكفر والإلحاد لقوله بالتجسيم. وقد انتصر محمد بن الترجمان للأشعري ضد الماتريدي في رسالته (الدر الثمين) التي سنتحدث عنها. وفي إجابته عن قضية تتعلق برؤية الله في الدنيا والآخرة، صرف ابن العنابي الرأي القائل بالمشاهدة الحسية في الدنيا إلى أنه رأى المعتزلة وأنه لا يقول هو به بل يتبع رأي أهل السنة (لوضوح أدلتهم) (3).
__________
(1) من المفيد أن يطالع المرء المناقشة التي دارت في المغرب بين ابن حمادوش الجزائري وأحمد الورززي المغربي حول الاستدلال على أفضلية الأنبياء على الملائكة أو العكس وحول مذهب الأشاعرة وغيرهم، وقد كان الورززي متهما بالأخذ برأي المعتزلة، ابن حمادوش (الرحلة) مخطوطة.
(2) (تعريف الخلف برجال السلف) 2/ 219.
(3) ابن العنابي (مسألة في التوحيد) جواب له على سؤال في هذا الموضوع، ك 1089 الخزانة العامة - الرباط، مجموع.
وتبعا لانتشار المذاهب الإسلامية والمبالغة في التصوف شاعت في الجزائر أيضا تفسيرات كثيرة تتخذ علم الكلام منطلقا لها. فبالإضافة إلى ذات الله وصفاته درس علماء الكلام إيمان العالم وإيمان المقلد، واختلفوا حول ذلك، كما اختلفوا حول تعلق قدرة الله تعالى بالحيز أو لا. فهذا محمد البوزيدي، أحد علماء قسنطينة في القرن الحادي عشر (17 م) كان، كما يقول الفكون، صاحب دعوة كبيرة في علم الكلام. فكان يدرس عقائد السنوسي ومختصر ابن الحاجب الفقهي. وكان يقول بأن (المقلد غير مؤمن وأن العامة مختلف في إيمانها) كما كان يقول إن (قدرة الله لا تتعلق بتحيز الجوهر). ويبدو أن البوزيدي لم يكن وحده في هذا التفسير، فقد أكد الفكون أن (هذا مذهب سرى في جل أهل المغرب سريان النار في الهشيم) (1). ولا ندري من أين جاء هذا المذهب إلى أهل المغرب، ولكن من المؤكد أنه ليس مذهبا جديدا.
سيطرت إذن مؤلفات محمد السنوسي في التوحيد سيطرة تامة على الدارسين لهذا العلم طيلة العهد العثماني. ولم يكن ذلك مقصورا على الجزائر وحدها بل تجاوزها إلى معظم الأقطار العربية والإسلامية، غير أن الذي يهمنا هنا هو سيطرة هذه المؤلفات على الدارسين في الجزائر. وأهم مؤلفات السنوسي المشار إليها هي ما يعرف بالعقائد السنوسية، وهي العقيدة الصغرى والعقيدة الوسطى والعقيدة الكبرى، ولكن أهم الجميع هي الأولى لوضوحها واختصارها، وهي المعروفة أحيانا باسم (أم البراهين). وليس معنى هذا أن العقيدتين الأخريين لم يهتم بهما الدارسون، ولكن معناه أن جهودهم قد تركزت في التدريس والشرح حول العقيدة الصغرى، ويليها العقيدة الوسطى فالكبرى. فأنت لا تكاد تجد عالما خلال هذا العهد لم يدرس لطلابه (صغرى السنوسي)، كما كانت تسمى، أو يتناولها بالشرح والتحشية وأحيانا بشرح المشروح وتحشية المحشى. وقد كثرت هذه الشروح
__________
(1) (منشور الهداية)، كلمة (هشيم) مكتوبة في الأصل (العجم) وذلك سبق قلم، كما يقولون.
والحواشي على صغرى السنوسي حتى أصبحت بشكل ظاهرة في حد ذاتها، وكأن الفكر الفلسفي والديني قد تجمد عندها فلم يعد قادرا على الخوض في مسائل التوحيد إلا من خلال عمل السنوسي.
وقبل أن ننتقل إلى الحديث عن شروح عقائد السنوسي نشير إلى عمل آخر في التوحيد كان أيضا قد شغل العلماء في العهد المذكور، ونعني به منظومة أحمد بن عبد الله الجزائري، المعروفة باسم (المنظومة الجزائرية). وكان الجزائري معاصرا للسنوسي، كما عرفنا، وقد نظمها وهو ما يزال شابا (1)، وأرسل بها إلى محمد السنوسي بتلمسان لشرحها فقام هذا بشرح المنظومة شرحا ظل هو أيضا مصدرا آخر هاما للتقليد بين العلماء في هذا الميدان (2). ورغم سهولة (المنظومة الجزائرية) وقربها من عقول الدارسين الشادين، فإن شرح السنوسي عليها هو الذي حببها للعلماء والطلاب على حد سواء، وقد أخذت، هي الأخرى، شهرة واسعة ليس في الجزائر فحسب بل في العالم الإسلامي أيضا، إذ لا تكاد تخلو مكتبة قديمة من مخطوطة منها. ويمكن القول، بدون مبالغة، إن دراسة التوحيد في الجزائر خلال العهد العثماني كانت تقوم على إنتاج السنوسي والجزائري، بالإضافة إلى (إضاءة الدجنة) لأحمد المقري.
وكما شرح السنوسي منظومة الجزائري شرح أيضا أرجوزة محمد بن عبد الرحمن الحوضي المعروفة (بواسطة السلوك) (3). وقد عرف فيها
__________
(1) هذا ما أكده أحمد بن ساسي البوني في إجازته لابنه، وقد تعرضنا إليها. انظر ترجمة البوني في الفصل الأول من هذا الجزء.
(2) هناك نسخ كثيرة لهذا الشرح، منها نسخة المكتبة الوطنية بالجزائر التي تعود إلى سنة 884 (1479)، وهي في 268 ورقة تحت رقم 2178، وعن السنوسي والجزائري انظر الفصل الأول من الجزء الأول.
(3) بروكلمان 2/ 992، وتوجد منها نسخة في المكتبة الوطنية بالجزائر رقم 899، منسوخة بقلم عبد القادر بن عمر الحارثي سنة 938، ولعله كان من تلاميذ الحوضي، انظر عن الحوضي الفصل الأول من الجزء الأول.
الحوضي علم التوحيد أيضا بأنه (أشرف العلوم) وأنه أساس جميع العلوم. وفيها نظم جميع مسائل التوحيد المتعارف عليها، وجعلها سهلة مفهومة التعبير قريبة المعنى (يقرأها الصبيان في المكاتب) وتؤدي إلى إدراك قضايا التوحيد حتى يخرج قارئها من التقليد الأعمى في معرفة الله، كما أنه جعلها في متناول الكبار المنصفين من العلماء لاختصارها لمسائل المطولات. وقد كان الحوضي شاعرا بالسليقة ولذلك كانت أرجوزته سلسة العبارة وجيدة.
ورغم أن أحمد بن زكرى التلمساني، المعاصر للسنوسي أيضا، قد اشتهر، كما عرفنا، بدراسة التوحيد والتأليف فيه، فإن شهرته فيه لم تبلغ شهرة زميله السنوسي. ومع ذلك فقد كانا فرسي رهان في هذا الميدان. فقد ألف أحمد بن زكري رجزا في التوحيد سماه (محصل المقاصد به تعتبر العقائد)، وهو الذي وصفه ابن عسكر بأنه عمل بلا نظير (1)، وهو أيضا الرجز الذي اعتذر السنوسي عن شرحه قائلا إنه لا أحد يقدر على ذلك سوى الناظم نفسه. ورغم صعوبة عمل ابن زكرى فقد قام الورثلاني في القرن الثاني عشر بشرح (محصل المقاصد)، ولكنه أخبر أنه لم يتمه.
فإذا عدنا إلى عقائد السنوسي، وجدنا أن شراحها كثيرون، ومن أوائل من شرح العقيدة الصغرى تلميذه ومترجمه محمد بن عمر الملالي (2)، كما تناولها أحمد بن أغادير الذي كان، كما يقول ابن عسكر، من جبال بني راشد. ونحن لا نعرف عن هذا الشرح أكثر مما ذكره عنه صاحب (دوحة الناشر). فقد قال إن كتب ابن أغادير كانت منبعا للباحثين، ولا سيما في علم التوحيد والشريعة، كما أنه قد نسب إليه (تعاليق) لا ندري موضوعها.
ولكن شهرة ابن أغادير ظلت كشهرة السنوسي وابن زكرى، تقوم على علم
__________
(1) (دوحة الناشر) لابن عسكر (الترجمة الفرنسية)، 205، وعن ابن زكرى انظر الفصل الأول من الجزء الأول.
(2) الخزانة الملكية بالرباط، رقم 9073، مجموع، والشرح في حوالي 26 ورقة.
التوحيد (1). وحوالي نفس الفترة قام الشيخ عمر الوزان في قسنطينة بشرح الصغرى أيضا (2). ومن تلاميذ الوزان عبد الرحمن الأخصري، الذي شرح أيضا صغرى السنوسي، وهو الشرح المذكور ضمن مؤلفاته (3). وقد عرف الأخضري بنظم العلوم المختلفة ومنها مسائل التوحيد، وينسب إليه رجز في ذلك أيضا. ولكن ليس من المعروف ما إذا كان قد شرحه بنفسه.
ومن الذين كتبوا عن العقيدة الصغرى للسنوسي وتناولوها بالتدريس والتعليق، سعيد قدورة. فقد كان من مشاهير المدرسين، كما سبق. وكان لا يكاد يترك علما يدرسه لطلابه إلا ووضع عليه شرحا أو حاشية. ومن ذلك شرحه لعقيدة السنوسي. فقد درسها لطلابه متنا وشرحا، ثم بدا له أن يضيف إلى شرح السنوسي نفسه فوائد كان قدورة يستحسنها وزوائد كان قد قيدها من هنا وهناك، وقرر أن يجعل كل ذلك (حاشية) على الشرح المذكور. وقد اتبع قدورة في حاشيته نفس الأسلوب المتبع عندئذ وهو شرح الألفاظ والمعاني والاستنتاج بالتعاليق الدينية وما يجر إليه الظرف من أحكام (4).
وهناك عالم آخر لم يبلغ شهرة قدورة ولكنه لا يقل عنه ورعا وعلما، وهو مصطفى الرماصي. فقد وضع أيضا حاشية على شرح صغرى السنوسي. وبعد أن أشار إلى أن الصغرى عظيمة الفائدة (لبركة مؤلفها) وأن السنوسي أشهر من ألف في عمل الكلام رغم كثرة المعتزين به، قال إن بعض المعاصرين من إخوانه قد طلبوا منه وضع حاشية عليها فأجابهم إلى طلبهم.
__________
(1) (دوحة الناشر) 222، وبناء عليه فإن ابن أغادير مات في بداية العقد الخامس من القرن العاشر.
(2) (نيل الابتهاج) 197.
(3) انظر لوسياني ترجمة (السلم)، 5 - 6، وقد عد الورثلاني حوالي ثلاثين تأليفا للأخضري. انظر أيضا (العقد الجوهري) لأحمد بن داود، وهو مخطوط خاص، وكذلك الخزانة العامة بالرباط، رقم د 3228.
(4) المكتبة الملكية بالرباط، رقم 4496 مجموع، والمكتبة الوطنية بتونس (ح. ح. عبد الوهاب)، رقم 18713.
ولم يذكر الرماصي المنهج الذي سار عليه في تعليقه بل دخل مباشرة في عمله فبدأ يبين ألفاظ ومعاني كلام السنوسي. فكلامه إذن كلام تقليدي، وإنما أضاف إليه معارفه الخاصة وأسلوبه. وهذه الحاشية تعتبر جهدا ضخما إذا حكمنا من حجمها (1).
وقام الورتلاني بشرح وتحشية عمل السنوسي أيضا. فالورثلاني، كما عرفنا، كان مولعا بعلم التوحيد، وقد ناقش فيه علماء الخنقة وانتصر له وبين أنه ضرورى لمعرفة الله، وأنه ضروري أيضا للمتصوف. وكان السنوسى، الذي يسمونه أحيانا (شيخ الموحدين) قد قال عن علم الكلام (ليس علم من علوم الظاهر يورث معرفته تعالى ومراقبته إلا علم التوحيد وبه يفتح له في فهم العلوم كلها. وعلى قدر معرفته به يزداد خوفه منه تعالى وقربه منه) (2). لذلك وضع الورثلاني شرحا على خطبة أو مقدمة شرح السنوسي على صغراه، كما وضع حاشية على شرح السكتاني المراكشي على صغرى السنوسي أيضا. وقد أخبر الورثلاني في رحلته أنه أطلع الشيخ الحطاب في مصر على هذين العملين فاستحسنهما، وكان ذلك أثناء توجهه إلى الحج (3). ومن هذه الإشارة نفهم أن الورثلاني قد أكمل الشرح والحاشية. والورثلاني من العلماء القلائل الذين وضعوا أيضا شرحا على وسطى السنوسي. وهذا كله يبرهن على عنايته بعلم التوحيد.
ولكن الورثلاني لم يكن وحده في هذه العناية. فقد عرفنا أن معظم العلماء كانوا يدرسون علم التوحيد ويكتبون فيه. ومن هؤلاء ابن مريم. فهو تبعا لمدرسة السنوسي، قد جمع أيضا بين التصوف وعلم الكلام وألف في الاثنين. ومن تآليفه في علم الكلام (كشف اللبس والتعقيد عن عقيدة أهل
__________
(1) الخزانة العامة بالرباط، ك 2499، مجموع، والنسخة التي اطلعنا عليها نسخها يحيى بن عبد القادر بن شهيدة بتلمسان سنة 1236، وقد انتهى الرماصي من حاشيته سنة 1105، وتبلغ حوالي ثلاثمائة صفحة.
(2) روى ذلك ابن مريم في (البستان) 277.
(3) الورتلاني (الرحلة) 284.
التوحيد)، وشرح له على مختصر الصغرى للسنوسي (1). كما قام الشيخ خليفة بن حسن القماري بشرح الصغرى أيضا، والظاهر أنه شرح كبير لأنه قد قسمه إلى خمسة أقسام وجعل كل قسم أجزاء، وهكذا (2). ورغم عناية ابن حمادوش بالفلك والطب فإنه تأثر بتيار العصر فكتب شرحا على العقيدة الكبرى سماه (مباحث الذكرى في شرح العقيدة الكبرى). وقد قال إنه مزج به ألفاظها واستخرج به نضارها (فجاء بحمد الله يرضي الناظرين ويعين القاصرين، مشتملا على خمسة وستين مبحثا)، وأخبر ابن حمادوش أن شرحه قد اشتمل على تسع عشرة كراسة (3). وقد وضع محمد بن عبد المؤمن أرجوزة في العقائد والفروع، كما سبق، وجعل جزأها الأول في العقائد أو علم الكلام وبدأها بقوله:
الله موجود قديم باقي ... مخالف للخلق بالإطلاق
وقائم بنفسه وأحد ... ذاتا وفعلا صفة يعتقد
ثم الوجود صفة نفسية ... والخمسة الأخرى غدت سلبية
وأرجوزة ابن عبد المؤمن، بقسميها، سهلة واضحة، لأن صاحبها أيضا من العلماء الأدباء والأدباء العلماء كما يقول ابن حمادوش. وقد أجاز ابن عبد المؤمن بهذه الأرجوزة الرحالة المغربي ابن زاكور ورخص له في شرحها إذا أراد (4).
وقد أصبحت (إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة) لأحمد المقري تنافس عقيدة السنوسي في الأهمية. فقد عرفنا أن المقري كان من المبرزين في الحديث والتوحيد بالإضافة إلى الأدب والتاريخ، وهو على خلاف معظم علماء عصره لم يكن من المتصوفة. كتب المقري (إضاءة الدجنة) نظما بلغ فيه حوالي خمسمائة بيت تناول فيها أصول الدين وقضايا التوحيد. وقام
__________
(1) ذكر ذلك ضمن كتبه في (البستان) 314.
(2) محمد الطاهر التليلي (إتحاف القاري)، مخطوط خاص.
(3) ابن حمادوش (الرحلة)، وهي الآن مطبوعة.
(4) ابن زاكور (الرحلة) 17.
بتدريسها في مكة ومصر ودمشق، وأجاز بها بعض العلماء الذين كانوا يحضرون درسه فيها، ومنهم أحمد الشاهين بدمشق. وقد لخص المقري كل ذلك في هذه الأبيات:
وإنني كنت نظمت فيه ... لطالب عقيدة تكفيه
سميتها (إضاءة الدجنة) ... وقد رجوت أن تكون جنه
وبعد أن أقرأتها بمصر ... ومكة بعضا من أهل العصر
درستها لما دخلت الشاما ... بجامع في الحسن لا يسامي (1)
ولأهميتها وسلاستها قام عدد من العلماء بشرحها. ولا يعرف أن ناظمها قد شرحها بنفسه اللهم إلا إملاءاته على طلابه حين تدريسها. فقد أخبر المقري أن معاصره عبد الكريم الفكون القسنطيني كان ينوي وضع تقييد على (إضاءة الدجنة) (2). ولا ندري إن كان الفكون قد قام فعلا بذلك، فقد رأيناه شديد النقد للمقري في أخلاقه، كما أن الفكون لم يذكر ذلك في مؤلفاته التي أشار إليها في كتابه (منشور الهداية). والغالب على الظن أنه لم يفعل. ولكن الذي قام بشرحها فعلا وأعجب بصاحبها هو محمد بن المختار بن الأعمش العلوي الشنقيطي. وذكر محمد بن الأعمش دافعه في وضع شرح على (إضاءة الدجنة) وهو كون المقري قد جعلها (في نظم عجيب وأسلوب غريب. ونفخ فيها ما في المطولات بأوجز لفظ وأحسن ترتيب). والملاحظ أن ابن الأعمش قد اعتمد في شرحه على عقائد السنوسي أيضا (3). وهناك شروم أخرى على إضاءة الدجنة (4).
__________
(1) (نفح الطيب) 3/ 101، وهو يشير بـ (فيه) إلى علم الكلام وبالجامع إلى الجامع الأموي بدمشق.
(2) نفس المصدر 3/ 240.
(3) المكتبة الوطنية - باريس، رقم 2443 مجموع، واسم شرح الشنقيطي هو (فتوحات ذي الرحمة والمنة في شرح إضاءة الدجنة).
(4) نفس المصدر، رقم 5432، مجموع.
ولمحمد بن الترجمان رسالة في التوحيد سماها (الدر الثمين في تحقيق القول في صفة التكوين). والنسخة التي اطلعنا عليها منها يبدو أنها بخط المؤلف نفسه، الذي عاش في القرن الثاني عشر للهجرة. ورغم قصرها (خمس ورقات) فقد تناول فيها ابن الترجمان أهم المسائل التي كانت تدور بين الأشعرية والماتريدية. ورتبها على فصول ومقدمة وخاتمة. أما المقدمة فعن مدلول التكوين لغة وما يتعلق به، وأما الفصول الثلاثة فهي كما يلي:
1) في تحقيق مذهب الماتريدي في صفة التكوين.
2) في تحقيق مذهب الأشعري فيه.
3) في مسائل اختلف فيها الأشعرية والماتريدية من علم الكلام. وقد جعل الخاتمة في بيان الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة في صفات الأفعال. ويبدو ابن الترجمان، الذي لا نعرف عن حياته الآن إلا النزر اليسير، متمكنا من المسائل الخلافية وكأنه كان من أعيان رجال الدين والفلسفة في زمانه. وقد جاء في خاتمة الرسالة ما يلي: (قاله وكتبه الفقير إلى رحمة ربه المنان، أسير ذنبه محمد بن الترجمان، الشريف الجزائري) (1). ومن جهة أخرى ذكر ابن سليمان أن لشيخه بلقاسم بن عثمان الدارجي كتابا سماه (كتاب الحقائق) نقل منه ابن سليمان كلام هذا الشيخ في عقائد السنوسي وغيرها (2).
وقد فاخر أبو راس بأنه لم يتفوق عليه في كثرة التأليف إلا السيوطي، ومن تآليفه بالطبع ما يتناول مسائل التوحيد وقضايا الدين عموما. من ذلك (الزهر الأكم في شرح الحكم) في التوحيد، و (رحمة الأمة في اختلاف الأئمة)، و (قاصي الوهاد في مقدمة الاجتهاد) كلاهما في المذاهب. وحين عد أبو راس تأليفه جعل التوحيد أحد أقسامها. وكان ولوعا بمناقشة مسائل
__________
(1) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2187، النسخة التي رأيناها عليها تملك السيد مصطفى ابن الحاج أمحمد خزناج بالشراء سنة 1224. عن ابن الترجمان، انظر سابقا.
(2) ابن سليمان (كعبة الطائفين) 3/ 122.
علم التوحيد مع علماء عصره في حله وترحاله، حتى أنه سجل من ذلك في (عجائب الأسفار) وفي غيره عدة مسائل تناقشها معهم في الجزائر وتونس ومصر والحجاز. كما سجل ملاحظاته على علاقة الوهابية بمذهب الإمام ابن حنبل. ورغم سيطرة التصوف على علماء العصر فإن أبا راس لم يكن من المتصوفة، وكان في حياته العلمية والدنيوية شبيها بأحمد المقري: كثير الحفظ والتأليف، كثير المدح للأمراء والأعيان، غير أن المقري كان أقوى منه أدبا، ولا نستغرب بعد ذلك أن نجد أبا راس قد قام بشرح صغرى السنوسي، فهو لم يكد يترك متنا إلا شرحه، حتى أنه قد شرح بعض الأعمال ثلاث مرات.
وكل من عبد العزيز الثميني ومحمد بن العنابي قد اهتم بالتوحيد أيضا، وكان كلاهما من رجال الدين البارزين في عصرهما. أما الثميني فقد اهتم بقضايا المذهب الإباضي الفقهية والاجتماعية، ولكنه لم يهمل علم الكلام، فقد ذكر له من تآليفه فيه شرح يدعى (النور) وهو على النونية في علم الكلام.
كما أن كتاب (التاج) الذي اختصر فيه (منهاج الطالبين) لخميس العماني يتناول مسائل التوحيد والفقه (1). أما ابن العنابي فقد تناول مسائل كثيرة في التوحيد في فتاويه الكثيرة، ولكن أهم ما سجلناه له هو جوابه على سؤال وجه إليه وكتبه بخط يده في رسالة صغيرة. وقد افتتح الجواب بهذه العبارة (ورد علي سؤال نصه، بعد عنوان، إذا قيل حيث كان أهل الحق مطبقين على أن الحق تعالى يرى في الآخرة بالأبصار وأن الرؤية عبارة عن الإدراك. فأقول، اعلم أن المدركات تنقسم إلى ما يدخل في الخيال كالصور المتخيلة والأجسام المتلونة المتشكلة، وإلى ما لا يدخل في الخيال كالذات العلية وكل ما ليس بجسم كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها ..) وقد قارن ابن العنابي في إجابته بين مذهب أهل السنة ومذهب المعتزلة في هذه المسألة، ولكنه غلب في النهاية مذهب أهل السنة قائلا: (ونحن لا نقول به (يعني مذهب
__________
(1) مقدمة كتاب (النيل) 1/ط الجزائر، 1967.
المعتزلة) لضيق مجاله فنسلمه لأربابه، سالكين مسلك الجمهور من أهل السنة لوضوح أدلتهم ..) (1).
ولا شك أن هناك من علماء الجزائر من ألف في التوحيد أيضا، غير من ذكرنا، ولكن إنتاجهم لم يصل إلينا. ومن هؤلاء عبد القادر بن خدة الراشدي (2)، وأحمد المقري (3)، فقد كانا من رجال الفتوى والقضاء، كما كانا مدرسين ومؤلفين (4). ومن جهة أخرى وضع عبد الرحمن باش تارزي نظما في كلمتي التوحيد ثم شرحه بنفسه وسمي الشرح (غنية المريد في شرح نظم مسائل كلمتي التوحيد) (5). وهو مطبوع متداول. ولأهمية يحيى الشاوي في علم الكلام رأينا أن نفرد له ترجمة في آخر الحديث عن إنتاج الجزائريين في هذا العلم.
يحيى الشاوي
إذا حكمنا على يحيى الشاوي من مؤلفاته فإنه يعد من كبار علماء الظاهر في القرن الحادي عشر (17 م). ذلك أن معظم مؤلفاته لا تكاد تخرج عن التوحيد والنحو والمنطق، وهي جميعا من علوم أهل الظاهر. كما أن سيرته تدل على أنه كان كذلك. فقد طاف في البلاد الإسلامية من الجزائر إلى
__________
(1) الخزانة العامة بالرباط، رقم ك 1089 مجموع، 55 - 58، وكتب ابن العنابي الجواب المذكور سنة 1228 بخط يده، أما النسخة المشار إلها فمنسوخة بخط مغاير لخط المؤلف، انظر كتابنا عنه (المفتي الجزائري ابن العنابي) الجزائر، 1977.
(2) له شرح على عقيدة السنوسي أيضا، الخزانة العامة بالرباط 2421 د مجموع، حوالي ثلاثين صفحة.
(3) للمقري في ذلك (إتحاف المغرم المغري بتكميل شرح الصغرى)، منه نسختان في الخزانة الملكية بالرباط، 5928، 3544.
(4) ينسب للشيخ التواتي (الذي لا نعرف عنه الآن أكثر من اسمه) عمل في التوحيد أيضا عنوانه (غنية الراغب ومنية الطاب)، في 440 صفحة، الخزانة العامة بالرباط، 2372 د.
(5) طبع تونس 1322، 352 صفحة مع قصائد صوفية.
مصر والحجاز ودمشق وإسطانبول واتصل بالوزراء والسلاطين والوجهاء، ونال حظوة عندهم، كما أنه كان من نقاد العصر وأهله. وهذا كله دليل على أنه لم يكن من المتصوفة أو علماء الباطن. وهو في هذا يذكرنا بمكانة معاصريه ومواطنيه عبد الكريم الفكون وأحمد المقري وعيسى الثعالبي، ولكنه، مع ذلك، يظل متميزا عنهم باختصاصه وشخصيته.
ولد يحيى بن محمد بن محمد الشاوي النائلي (1) في مليانة في تاريخ لا نعرفه بالضبط ولكنه لا يخرج عن أوائل القرن الحادي عشر. وقرأ بمسقط رأسه على الطريقة المتبعة عندئذ في الكتاتيب من حفظ القرآن الكريم وحفظ المتون وبدايات العلوم. ولم نكن نعرف أن مليانة عندئذ كانت تعيش حياة علمية مزدهرة أو كان فيها علماء بارزون. غير أننا نعرف أن زاوية أبهلول المجاجي قرب تنس، كانت مشهورة بعلمائها وطلابها. فكان أهل تلك النواحي (ومنهم أهل مليانة) يقصدونها للقراءة الثانوية قبل أن ينتشروا في الأرض بحثا عن المزيد من العلوم في مدينة الجزائر وفي تلمسان، وفي فاس وغيرها. ومن أجل ذلك وجدنا سعيد قدورة قد تتلمذ على شيخ الزاوية محمد بن علي أبهلول كما سبق، قبل أن يتوجه إلى المغرب لمواصلة دراسته. ولعل يحيى الشاوي قد سار على نفس الدرس. فقد عرفنا من سيرته أنه تلقى العلوم على محمد بن محمد أبهلول، وهو نفس الشيخ الذي درس عليه قدورة أيضا بعض الوقت. وبعد أن قضى الشاوي فترة في زاوية أبهلول المجاجي لا ندري كم طولها، توجه إلى تلمسان فأخذ بها العلم على بعض شيوخها الذين لا نعرف منهم الآن سوى سعيد المقري الشهير. فهل توجه الشاوي بعد ذلك إلى فاس؟ ذلك ما لا ندريه الآن، لأننا لم نجد في سيرته أنه زار المغرب الأقصى.
__________
(1) ترجمته في (خلاصة الأثر) 4/ 486 - 488 وفي (الأعلام) 9/ 214، انظر أحمد توفيق المدني، عثمان باشا 82، وفي (نشر المثاني) 2/ 452 (الترجمة الفرنسية)، وقد أضفنا إلى هذه المصادر ما استقيناه من آثاره من مصادر أخرى، انظر عنه رحلة العياشي، وفي رده المسمى (النبل الرقيق) أخبار عن حياته وآرائه.
لكن من المؤكد أن يحيى الشاوي قد قضى فترة من الوقت في مدينة الجزائر تلميذا ومدرسا. فالمعروف عنه أنه تتلمذ فيها على شيخيها البارزين عندئذ، علي بن عبد الواحد الأنصاري، وسعيد قدورة. وقد توفي الأول سنة 1057 وتوفي الثاني سنة 1066. وهذا يعني أن الشاوي كان بمدينة الجزائر قبل 1057. وفي وقت لاحق تتلمذ الشاوي على عيسى الثعالبي قبل مغادرة هذا الجزائر سنة 1061. ويبدو أن يحيى الشاوي قد زار أيضا قسنطينة وعنابة وبجاية لأخذ العلم، ولكننا لا نملك دليلا الآن على ذلك. ولا نعرف أن الشاوي أثناء إقامته بالجزائر، قد تقرب من السلطة الحاكمة، كما فعل أساتذته (قدورة والأنصاري والثعالبي)، ولكن هذا الجو المشحون بالتوتر والطموحات والمنافسات سيؤثر عليه لا محالة بقية حياته، بعد أن سافر إلى المشرق. ومهما كان الأمر فإن منابع العلم في الجزائر، على طولها وعرضها، لم ترو ظمأه فاختار الرحلة إلى المشرق. ولا ندري الآن إن كان وراء رحلته هذه عامل سياسي (1)، كما كان وراء رحلة المقري والثعالبي عوامل سياسية.
لا شك أن الشاوي تلقى في الجزائر العلوم المدروسة عندئذ وهي التفسير والتوحيد والحديث والفقه والنحو والمنطق. وقد اشتهرت زاوية أبهلول المجاجي بالتفسير والحديث كما عرفنا. وقد عرفنا أن الشاوي قد أخذ على الأقل علم المنطق عن عيسى الثعالبي. ذلك أنه اضطر إلى أن يسير مع الثعالبي ثماني مراحل، وهو في طريقه إلى المشرق، لكي يأخذ عنه علم المنطق، إلى أن تمكن من درسه عليه (2). وقد تحدثت مصادر الشاوي أنه
__________
(1) إذا حكمنا من كلام العياشي، الرحلة 2/ 368، فإن الشاوي كان ينوي الرجوع إلى وطنه بعد الحج، ولكن فاته الركب الجزائري في الإسكندرية فأراد ركوب البحر بدل البر، ثم ظهر له أن يعود إلى القاهرة ويتولى التدريس بالأزهر، وقد عبر العياشي عن ذلك تعبيرا غامضا فقال: (وكان ذلك لأمر أراده الله به) أي بالشاوي.
(2) (خلاصة الأثر) 3/ 241. كانت علاقة الشاوي بالعياشي صاحب الرحلة علاقة غير ودية، رغم تتلمذهما على عيسى الثعالبي، فقد عرض العياشي بالشاوي في رحلته =
تصدر للتدريس في الجزائر قبل أن يتوجه إلى المشرق. والغالب على الظن أن ذلك كان بمدينة الجزائر، ولا سيما في الفترة التي أعقبت وفاة قدورة والأنصاري وهجرة الثعالبي، أي بين 1057 و 1074 وهو تاريخ هجرته هو إلى المشرق. ولا ندري الآن أين جلس الشاوي للتدريس ومن سانده في ذلك وهل كان موظفا رسميا أو مدرسا حرا. وعلى كل حال فقد كان الشاوي يتمتع بحافظة قوية وذكاء وقاد، ولعله كان صاحب طموح كبير أيضا فلم يجد في الجزائر ما يشبع نهمه العلمي وطموحه الشخصي فاختار الهجرة.
وتعكس حياة الشاوي في المشرق هذه الشخصية اللامعة ذات الطموح البعيد. فبعد أداء فريضة الحج عاد إلى مصر سنة 1074 واستقر بها فترة، وفي مصر أخذ العلم على عدد من المشائخ منهم البابلي والمزاحي والشرابلي وأجازوه. كما أنه تولى إفتاء المالكية، وجلس للتدريس في الأزهر فأقرأ الفقه على خليل وشرح المرادي على ألفية ابن مالك وشروح عقائد السنوسي، كما أقرأ شرح الجمل للخونجي في المنطق وتولى التدريس في المدارس المعروفة بالأشرطية والسليمانية والصرغتمية , وقد تتلمذ عليه عدد من العلماء وأجازهم أيضا، كما سبق في الفصل الأول من هذا الجزء، ومن هؤلاء عبد الله بن سالم البصري وعلي بن إبراهيم الأبريججي. وفي دمشق كان للشاوي مجلس علمي مهاب في الجامع الأموي يحضره علماء دمشق. وقد شهدوا له ومدحه شعراؤها، وطلب منه علماؤها الإجازة. وفي إسطانبول حضر الدرس الذي كان يحضره السلطان وشارك في المباحث التي كانت تجري فيه فلفت إليه الأنظار واشتهر بالعلم بين الناس حتى قربه المفتي والوزير الأول هناك. وتكررت زيارته لإسطانبول فكان يحظى في كل مرة بالتقدير من أصحاب السلطة. وفي إسطانبول أيضا جلس لتدريس التفسير والنحو والتوحيد. وقد أجاز بهذه العلوم بعض علماء الشام، ومنهم المحبي صاحب (خلاصة الأثر) وهكذا كانت للشاوي حياة علمية خصبة في ميدان
__________
= كما عرض الشاوي بالعياشي في كتابه (النبل الرقيق) الذي سنعرض له.
التدريس وفي ميدان التأليف، كما سنرى.
حياة الشاوي في المشرق تذكر المرء بحياة المقري فيه أيضا. فكلاهما هاجر من بلاده بعد أن جرب فيها التدريس والحياة السياسية (1). وكلاهما اتخذ الحج طريقا للهجرة ثم استقر في مصر أولا ثم منها إلى غيرها من بلاد العرب والإسلام. وكلاهما كان يتمنع بعلم غزير وبحافظة نادرة وذكاء قوي وطموح شخصي كبير واستعداد لركوب سفينة الحياة والخوض بها لجج البحار هادئة وهائجة. وكلاهما أيضا تقرب من أصحاب الجاه والسلطان ونال عندهم حظوة كبيرة مكنته على الأقل من تحقيق بعض أمانيه العلمية، ولم يجد كل منهما هذه الحظوة في بلاده. وقد كانت للمقري شاعرية قوية تفتح له أبواب الأمراء والعلماء، أما الشاوي فيبدو أن الذي كان يساعده على ذلك هو علمه وشخصيته وجرأته. فقد كان كثير الانتقاد لأهل عصره وغيرهم، وكان يقول إذا اعترض عليه في ذلك أنه بانتقاده لهم مثاب (2). وكان، كما يقول المحبي سريع البديهة حسن المحاضرة يجيب بلا تكلف. وفي إجازته لبعض علماء الشام هاجم الفلاسفة لقولهم بنفي الصفات. أقول لكل فلسفي يدينه ... ألا لعنة الرحمن تعلو مزورا
أجبريل فلك عاشر يا عداتنا ... أعادي شرع الله نلتم تحيرا
بأي طريق قلتم عشر عشرة ... ونفى صفات والقديم تحجرا
حكمتم على الرحمن حجرا محجرا ... ومتعكم خلق الحوادث دمرا (3)
ويبدو أن الشاوي كان سليط اللسان أيضا. فقد كتب رسالة رد فيها
__________
(1) كان الشاوي بالجزائر عندما هزتها رياح ثورة ابن الصخري التي أشرنا إليها والتي جعلت العلماء يقفون في أغلب الأحوال مع السلطة العثمانية، ويقول خصوم الشاوي إن أمورا قد حدثت له في بلاده أوجبت إخراجه، انظر التعريف بكتابه (النبل الرقيق) في هذا الفصل.
(2) إجازة أحمد البوني لولده، مكتبة طولقة، وكان البوني من تلاميذ الشاوي.
(3) (خلاصة الأثر) 4/ 487، ويقول العياشي 2/ 368 عن علاقة الشاوي بمعاصريه (وكثر مادحوه وأكثر منهم ذاموه).
على نور الدين إبراهيم بن حسن الكوراني وحكم عليه فيها بالزندقة بل بالكفر، وطالب بقتله. واسم هذه الرسالة يدل على أن الشاوي كان لا يتورع عن الدخول في المهاترات والخوض في المناظرات إلى أقصى الحدود، إذ هو (النبل الرقيق في حلقوم الساب الزنديق). والمهاترات بين العلماء ليست غريبة في حد ذاتها ولكن اتهام الشاوي للكوراني بالزندقة والكفر والمطالبة بقتله لأجلها هو محل الغرابة. ولا نعتقد أن ذلك كان لضيق أفق الشاوي وإنما لحدة مزاجه. والغريب أيضا أن محمد بن رسول البرزنجي قد انتصر للكوراني وكتب رسالة لاذعة في نقد الشاوي يدل عنوانها فقط على هبوط المستوى العلمي عند الجميع، فهو (العقاب الهاوي على الثعلب العاوي، والنشاب الكاوي للأعشى الغاوي، والشهاب الشاوي للأحول الشاوي) (1).
ورغم تقرب الشاوي من السلطة فإننا لم نجده قد استخدم علمه للمدح ونحو ذلك. فقد نال حظوة لدى ولاة مصر وعلمائها ولا سيما بعد رجعته الأولى من إسطانبول، فهم الذين مكنوه من التدريس في المدارس المذكورة، وشملوه برعايتهم. وكذلك كان الحال عند عودته إلى مصر ثانية من إسطانبول أيضا فقد تفرغ هذه المرة للتأليف، وبذلك يكون قد دخل مصر وأقام بها ثلاث مرات على الأقل، الأولى بعد الانتهاء من الحج والثانية والثالثة بعد زيارتين لإسطانبول. أما إسطانبول فقد توجه إليها مرتين وفي كلتيهما كان يحظى بالتقدير والتبجيل. ففي الأولى أكرمه شيخ الإسلام يحيى المنقاري والوزير الأول (الصدر الأعظم)، وحضر درس مجلس السلطان كما عرفنا، بالإضافة إلى إكرام كبار الدولة والأعيان له. وفي الثانية أنزله مصطفى باشا، مصاحب السلطان، في داره معززا مكرما.
لماذا كل هذه الحظوة والتقدير؟ ذلك ما لا تكشف عنه الوثائق. فالمترجمون للشاوي لا يتحدثون عن ذلك، وإنما يوحي كلامهم أن ذلك يدل
__________
(1) لدينا صورة من (العقاب الهاوي) وضمنها فقرات مسوقة من (النبل الرقيق) للشاوي. حصلنا على هذه الصورة من مكتبة جامعة برنستون الأمريكية، وهي برقم 978.
على مكانته العلمية. ولكن هذا لا يكفي في نظرنا. فالشاوي كان من الجزائر وهي كانت تتبع السلطنة العثمانية وكان يعرف الكثير عن أحوال الجزائر والمغرب العربي السياسية والعلمية، فإكرامه والحديث إليه وإنزاله تلك المنزلة ليست لشخصه فقط بل لأمور أخرى وراء ذلك. ولعل الأيام تكشف هذه الأمور. والمعروف أن الشاوي قد أكرم في غير إسطانبول بعد زيارته لها امتدادا للعناية الرسمية به. أما في دمشق فيبدو أن احترامه كان قائما على علمه وأن الذين اتصلوا به واتصل بهم هم العلماء وليس الأمراء. واعترافا من الشاوي بفضل السلطان محمد عليه جعل أحد كتبه في النحو باسم هذا السلطان (1)، وهو التأليف الذي قرظه له أيضا شيخ الإسلام المنقاري وبعض العلماء الآخرين.
حج الشاوي سنة 1074 كما عرفنا، ثم سمي أمير ركب الحجيج المغاربة. وذهب عدة مرات مع قافلة الحجيج إلى مكة (2). وفي إحدى هذه المرات حضره أجله، وهو في سفينة الحجاج، سنة 1096، وكان ذلك في أخريات أيامه كما يقول المحبي. فقد اختار أن يسافر إلى الحج بحرا فأدركته الوفاة وهو في بحر القلزم (البحر الأحمر) ودفن برأس أبي محمد. ثم جاء به ولده، عيسى الشاوي، إلى مصر ودفنه في مقبرة المالكية، وهي المقبرة التي كان يحيى الشاوي نفسه قد جددها (3). والغريب أن الذين ترجموا للشاوي لم يتحدثوا عن أسرته. فهل جاء بها من بلاده؟ أو تزوج بمصر أو غيرها كما فعل زميلاه المقري والثعالبي؟
__________
(1) حكم السلطان محمد بين 1059 و 1099.
(2) القادري (نشر المثاني) 2/ 452 (الترجمة الفرنسية). وفيه أن وفاة الشاوي كانت سنة 1097، ولعله كان يقود الركب المغربي أكثر من مرة، يقول العياشي (وترقت به (يعني الشاوي) الحال إلى أن تولى إمارة ركب الحاج المغربي فحج به مرتين).
(3) (خلاصة الأثر) 4/ 486، وكذلك تعليق لمحمد مرتضى الزبيدي وجدته على إحدى مخطوطات زاوية طولقة، تناول فيه باختصار حياة الشاوي، وجعله (شيخ مشائخه)، ويذكر المحبي أن الوفاة قد أدركت عيسى الشاوي أيضا ستة أشهر فقط بعد أبيه، وأنه دفن مكانه.
ألف الشاوي عدة تآليف في النحو والتوحيد وغيرهما. وها نحن نذكر ما عرفنا له منها:
1 - حاشية على شرح أم البراهين (العقيدة الصغرى) للسنوسي في التوحيد (1).
2 - التحف الربانية في جواب الأسئلة اللمدانية، في العقائد (2).
3 - توكيد العقد فيما أخذه الله علينا من العهد (3) (لعله هو نفسه الحاشية على أم البراهين؟).
4 - فتح المنان في الأجوبة الثمان (4).
5 - قرة العين في جمع البين (5).
6 - نظم لامية في إعراب اسم الجلالة جمع فيه أقوال النحاة وشرحها.
7 - مؤلف صغير في أصول النحو جعله على أسلوب كتاب الاقتراح للسيوطي (وهو الذي جعله الشاوي باسم السلطان وقرظه له شيخ الإسلام).
8 - شرح التسهيل لابن مالك في النحو.
9 - حاشية على شرح المرادي في النحو أيضا (6).
10 - النبل الرقيق في حلقوم الساب الزنديق (ردود ومطارحات).
11 - أجوبة على اعتراضات أبي حيان على ابن عطية والزمخشري (في التفسير).
وهذه المؤلقات توجد في المشرق، ولا سيما إسطانبول، وبعضها في
__________
(1) توجد منها نسخة في الخزانة العامة بالرباط، رقم 2097 د مجموع، 212 - 364.
(2) نفس المصدر، ك 1089 مجموع، 1 - 52.
(3) بروكلمان 2/ 701، وفيه (فيما أهدى إلينا) بدل (فيما أخذه الله علينا). أيضا محمد بن عبد الكريم، (مخطوطات جزائرية) 23. وبناء عليه أنه في 326 صفحة.
(4) مكتبة تطوان، 263 مجموع، ولعله هو نفسه (التحف الربانية).
(5) بروكلمان 2/ 701.
(6) المؤلفات الأربعة الأخيرة أشار إليها صاحب (خلاصة الأثر) 4/ 488.
المغرب الأقصى وفي تونس. فالحاشية على أم البراهين توجد في المغرب وإسطانبول، والتحف وفتح المنان في المغرب، وحاشية المرادي في إسطانبول وتوكيد العقد في تونس وإسطنبول، وقرة العين في تونس، ولعل منها ما هو موجود في مصر أيضا لأنه عاش فيها. وله إجازات متفرقة كما عرفنا.
وقد اطلعنا له من هذه التآليف على أجوبته المعروفة (بالتحف الربانية). ولكون الأجوبة فيها بعض الآراء أكثر من تقرير المسائل تقريرا جامدا، رأينا أن نقدمها هنا. فهي أولا أجوبة على عدة أسئلة وردت عليه من بعضهم في مسائل التوحيد مثل: (هل خلق الله للعالم دفعة واحدة جائز كما هو العقيدة أم مستحيل كما توهمه بعض الطلبة؟) و (ما هو الدليل الجملي الذي يخرج المقلد بمعرفته من الخلاف الواقع، وهل هو حدوث العالم؟).
وقد أوضح الشاوي أن الإلحاح عليه من بعض من حضر دروسه في العقائد هو الذي دفعه إلى هذه الأجوبة كما بين أنه لقي أثناء تجواله وترحاله من (طاعته غنم وإجابته حتم). ومن هذا نفهم نحن أن الذي يكون قد طلب منه الأجوبة هو شيخ الإسلام أو الصدر الأعظم وأمثالهما. وقد بنى الشاوي إجابته على (قاعدة المواهب) معتذرا عن التقصير والنقصان. ورغم إيمانه بأن (بعض مدخرات العلوم قد بقيت للمتأخرين مما عسر فهمه على كثير من المتقدمين) فإنه رفض أن يكون مجتهدا أمام رجال السنة عندما سئل عن قول العلماء (إن المصيب في العقليات واحد مع اختلاف أهل السنة كالأشعري والرازي في الأحوال نفيا وإثباتا). فقد قال الشاوي بهذا الصدد (أما ما طلبتم مني من تعيين المصيب من المخطئ في أئمة أهل السنة فهيهات الدخول بين أنياب الحيات لوجوه: أحدها إني لست من أهل الاجتهاد، حتى أخوض تلك الفيافي والوهاد، وثانيها بتقدير اقتحامي وعظيم احترامي .. أكون كواحد منهم واجتهادي كاجتهادهم). وقد يبدو لنا هذا تناقضا من الشاوي مع نفسه فهو من جهة يؤمن بإمكان عسر مدخرات العلوم على فهم كثير من المتقدمين، ومن جهة أخرى لا يجرؤ على مخالفة أقطاب أهل السنة في
اجتهادهم. كما أن هذا الموقف قد لا ينسجم مع سلاطة اللسان التي ظهر بها الشاوي في ميادين أخرى. ومهما كان الأمر فإنه قد أجاب على هذه الأسئلة الصعبة في ظرف يومين فقط، وجمع المادة الضرورية (من دواوين عدة، في أقرب مدة) فجاءت في حوالي خمسين صفحة.
وهذه الترجمة القصيرة لحياة الشاوي لا تكشف عن جميع جوانب نشاطه العلمي. فقد رأيناه واسع العلم، كثير الترحال، متعدد الاختصاص، مجانبا لعلوم أهل الباطن، حتى اتهمه خصومه بمعاداة أهل التصوف، متبعا طريق أهل السنة، حافظا ومدافعا عن علوم الظاهر في وقت ساد فيه روح التصوف جميع مظاهر الحياة الإسلامية في بلاده وفي المشرق. وقد ساهم هو في إنارة الطريق كزميله وأستاذه الفكون. وإذا كان الفكون قد تراجع في آخر عمره وتصوف، فإن الشاوي قد ظل فيما يبدو على مذهبه الأول. لذلك كان له خصوم وأنصار. وإذا كنا نأسف له على شيء هنا فهو أنه قضى عمره في شرح الشروح وتحشية الحواشي، ولم يعمد إلى طرق أبواب جديدة، كما فعل أحمد المقري. فقد بلغت (حاشية المرادي) حوالي سبعمائة صفحة، وبلغ (توكيد العقد) أكثر من ثلاثمائة صفحة، ولو أنه استعمل علمه الغزير ونقده اللاذع في التأليف في الفلسفة والمنطق ونقد العصر وأهله لكان عمله أجدى للأجيال اللاحقة. ولكن الشاوي، مهما قيل عنه، سيبقى من أبرز علماء عصره لا في الجزائر فحسب ولكن في العالم الإسلامي كله.
التصوف:
بقدر ما سيطرت روح التصوف على الحياة العلمية والاجتماعية في الجزائر خلال العهد العثماني، بقدر ما كثر إنتاج العلماء في هذا الميدان. فنحن نجد الكثير من الكتب والرسائل والتقاييد والمنظومات التي تتناول التصوف من قريب أو من بعيد كالأذكار والأوراد، والردود، والمناقب، والمواعظ، والحكم، والشروح الخاصة بقصائد صوفية، والمداح النبوية
التي تنظر إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) وسيرته نظرة صوفية روحانية. ومن الطبيعي أننا لن نقدر على تنأول كل ذلك هنا، إما لأن الإنتاج ليس كله في متناولنا، وإما لأن حجم الكتاب لا يسع الجميع.
ورغم تقادم الزمن فقد ظلت أعمال ابن صعد (النجم الثاقب) على الخصوص، وأعمال محمد بن يوسف السنوسي، وتأليف أحمد النقاوسي (الأنوار المنبلجة) على قصيدة ابن النحوي، وأعمال الحوضي والجزائري (أحمد بن عبد الله)، وعبد الرحمن الثعالبي ومرائي الفراوسني والمازوني (صلحاء الشلف)، وغيرهم مصدرا هاما للتأليف في علم التصوف وفروعه، فسنرى أن ابن مريم والفكون والورتلاني والبطيوي ومحمد بن سليمان والصباغ القلعي وأضرابهم كانوا يعيشون في الغالب على تراث المذكورين. وقد أصبحت عبارة (الصلحاء) وأصحاب الولاية تتكرر في أعمال المتأخرين وأصبح المؤلفون لا يؤلفون إلا وفي أذهانهم أهل التصوف سواء كانوا معاصرين لهم أو متقدمين عنهم. وكان معظم المؤلفين يقرون الحركات الصوفية والتعمق فيها ولا يتناولون أصحابها بالنقد أو يتهمونهم بخرق قوانين علم التصوف كما شرعه أربابه الأولون، ولا نكاد نجد الاستثناء في هذا الحكم إلا عند الأخضري والفكون في كتابه (منشور الهداية) وبعض الإشارات عند ابن العنابي وابن عمار. فكان صوت الفكون في القرن الحادي عشر شبيها بصوت أبي الحسن الصغير السوسى الذي أمر السنوسي في رسالته (نصرة الفقير) بحرق كتبه، متهما له باتباع علوم أهل الظاهر فقط، بل حكم السنوسي بحرمة النظر في تأليفه (1). وكانت حملة الفكون على (فقراء) عصره وابن العنابي على (دراويش) عصره تشبه حملة أبي الحسن على المتصوفة أيضا. وكان الفكون قد جند بعض طلابه وأنصاره ضدهم أيضا فكتب عبد الرحمن البهلولي شعرا في نقد البدع، وانتشرت الدعوة بين بعض
__________
(1) زاوية طولقة، ضمن مجموع غير مرقم، مخطوط منسوخ سنة 1245 بخط جميل، يقع في اثني عشرة ورقة وكلمة (الفقير) هنا تعني المتصوف، وقد عاش أبو الحسن الصغير بالمغرب في القرن التاسع. انظر أيضا الفصل الأول من الجزء الأول.
المتعلمين لولا أن العصر كان عصر التصوف وليس عصر الفقه والنظر العقلي.
وكان التأليف في التصوف أكثر من تدريسه على عكس بعض العلوم الأخرى. ذلك أن بعضا ممن سنذكرهم من المؤلفين في علم التصوف وفروعه لم يكونوا مدرسين. أما الذين جمعوا بين التدريس والتأليف في التصوف فعددهم قليل أيضا. ومن هؤلاء عمر الوزان الذي سبق الحديث عنه. فقد انقطع للتدريس ورفض منصب القضاء، وجمع بين الفقه والتصوف، وإذا حكمنا من حديث الفكون عنه فإن الوزان كان أولا من أهل التصوف منقطعا لقراءة كتب المتصوفة ومعتنيا بطريقتهم ولا ينفك عن كتب الوعظ والروحانيات، ولكنه بإلهام خارق تحول إلى الحديث الشريف واعتكف على البخاري يحفظه متنا وسندا (1). أما محمد أبهلول المجاجي وتلميذه سعيد قدورة فقد اشتهر كل منهما بتدريس التصوف، ولكننا لا نعرف أنهما قد ألفا فيه.
المناقب الصوفية:
وقبل تناول المناقب نود أن ننبه إلى أننا سنختصر الحديث فيها هنا ونفرد لها في فصل التاريخ والتراجم مكانا خاصا. وحسبنا من المناقب هنا موضوعها، وهو التصوف وحياة المتصوفين وتعداد فضائلهم. ومن أوائل كتب المناقب كتاب (المواهب القدسية في المناقب السنوسية) الذي ألفه محمد بن عمر بن إبراهيم الملالي عن حياة وأعمال محمد بن يوسف السنوسي. وكان الملالي من تلاميذ السنوسي فجمع في كتابه ما سمعه منه ومن أخيه، علي السنوسي، ومن المعاصرين له. ويهمنا هنا أن نلاحظ أن الملالي قد خصص على الأقل فصلين من كتابه للنواحي الصوفية عند السنوسي، وأنه قد خص المقدمة بالحديث عن أحوال الأولياء في الدنيا (لتنشيط النفوس لسماع ما سيأتي) (2).
__________
(1) انظر ترجمة الوزان في فصل التعليم من الجزء الأول.
(2) تناولنا هذا الكتاب في الفصل الأول من الجزء الأول.
ولعل أحمد بن يوسف الملياني هو أكبر شخصية صوفية خصها المؤلفون بالتقاييد والتآليف والأشعار. فأنت لا تكاد تجد عملا في التصوف لا يشير إلى ترجمة الملياني وحياته الروحية. وقبل أن نورد ذلك نذكر أن من بين مؤلفات الملياني نفسه في التصوف (رسالة في الرقص والتصفيق والذكر في الأسواق) (1)، وقد سبق أن عرفنا أن للملياني بعض التآليف الأخرى في التصوف. وإذا كان الملالي من أوائل من عرف بالسنوسي فإن محمد الصباغ القلعي كان من أوائل من عرف بالملياني، حتى أصبح كتابه عنه مصدر كل الدراسات عن أحمد بن يوسف وعن الحياة الصوفية عموما في الجزائر خلال القرن العاشر، ونعني به (بستان الأزهار في مناقب زمزم الأبرار، ومعدن الأنوار، سيدي أحمد بن يوسف الراشدي النسبة والدار). وحياة الصباغ تكاد تكون مجهولة، فهو محمد بن محمد بن أحمد بن علي الصباغ القلعي (نسبة إلى قلعة هوارة) القريبة من تلمسان. فهو إذن من بلد الملياني. وقد ولد الصباغ حوالي سنة 923. فقد ذكر أنه كان ما يزال رضيعا لم تنبت أسنانه عندما انهزم الأتراك أمام جيش أبي حمو الذي كان يسانده الإسبان، وذلك سنة 924 (2)، وكان والد الصباغ، المعروف بابن معزة (بتشديد الزاي)، من أتباع أحمد بن يوسف، وكان يدافع عن شيخه ويلازمه ويغسل ثيابه ويعتقد فيه. وقد مات في المعركة التي سقطت فيها القلعة، ومات فيها إسحاق أخو خير الدين بربروس سنة 924. وكان ابن معزة أيضا من المشتغلين بالعلم والشعر، وكان دفاعه عن شيخه ضد خصومه بالشعر. أما محمد الصباغ القلعي فنعرف أنه تولى بعض الوظائف، ومنها قضاء القلعة، وهي وظيفة
__________
(1) الخزانة العامة بالرباط، رقم 2792 د.
(2) أشار إلى ذلك بودان (المجلة الإفريقية) 1925، 129، من الذين نقلوا كثيرا عن الصباغ القلعي مؤلف (كعبة الطائفين) الذي عاش في القرن الحادي عشر. وقد قال عنه إنه هو (قاضي الجماعة بمجاش (؟) هوارة، محمد الصباغ بن القاضي القلعي.
1/ 295، ووجدناه في شرحه على الأجروبة الآتي ذكره منسوبا إلى هوارة (الهواري) بدلا من (القلعي).
هامة لا يشغلها عادة إلا من كان من الفقهاء، ومهما كان الأمر فإن القلعي كان من تلاميذ الملياني ومن علماء القرن العاشر الذين غلب عليهم الميل إلى التصوف.
ولم يؤلف الصباغ القلعي كتاب (بستان الأزهار) فقط. ذلك أن له شرحا في أسماء الله الحسنى، وشرحا آخر في الأذكار، وله أيضا (شفاء العليل والفؤاد في شرح النظم الشهير بالمراد)، وهو شرح على قصيدة إبراهيم التازي المعروفة بالقصيدة المرادية في التصوف أيضا والتي مطلعها:
مرادي من المولى وغاية آمالي ... دوام الرضى والعفو عن سوء أحوالي
وتنوير قلبي بانسلال سخيمة ... به أخلدتني عن ذوي الخلق العالي
وإسقاط تدبير وحولي وقوتي ... وصدقي في الأحوال والفعل والقال (1)
ولكن شهرة الصباغ، الذي ألف أيضا في النحو، قامت على كتابه (بستان الأزهار) (2)، وهو الكتاب الذي جمع فيه أخبار الملياني من الجيل الذي تلاه، وكان الصباغ فيه لا يكاد يفصل التاريخ والوقائع عن الحكايات والأساطير (3).
وكان (بستان الأزهار) موضع اختصار لبعض المهتمين بحياة الملياني.
ذلك أن الصباغ القلعي قد أكثر في كتابه من الحشو والأخبار المفصلة فعمد بعضهم إلى اختصاره، وأخذ منه ما يتعلق مباشرة بحياة وسيرة الشيخ الملياني. من ذلك (مناقب أبي العباس أحمد بن يوسف الملياني الراشدي) (4) وما ذكره صاحب (الإعلام بمن حل مراكش) (5)، كما قام أحدهم بتلخيصه
__________
(1) عن إبراهيم التازي انظر الفصل الأول من الجزء الأول.
(2) انظر بروكلمان 2/ 362 عن مؤلفات الصباغ وأماكنها.
(3) توجد من (بستان الأزهار) عدة نسخ مخطوطة منها اثنتان بالمكتبة الوطنية بالجزائر. انظر أيضا النسخة المطبوعة منه سنة 1927 بالجزائر بإشراف الشيخ محمد بن محمد بن عبد الله الهاشمي الذي قابلها على أربع نسخ.
(4) الخزانة العامة بالرباط، رقم 1427 د ورقم 1471 د. وهو لمؤلف مجهول.
(5) ج 1/ 185. وهو عباس بن إبراهيم المراكشي.
لمحمد الورتلاني (1)، ومن ذلك رسالة (عقد الجمان في تكملة البستان) التي جمعها الشيخ محمد بن الهاشمي، ونشرها مع النسخة المطبوعة من (بستان الأزهار). ولا بد من الإشارة هنا إلى كتاب الشيخ علي بن موسى الجزائري المسمى (ربح التجارة) والذي تناول فيه حياة أحمد بن يوسف الملياني معتمدا على تأليف الصباغ القلعي.
ويتبين مما ذكرناه مكانة محمد الصباغ القلعي في التصوف، فهو مؤلف وشارح وجامع لأخبار الأولياء والصلحاء، وهو لذلك مصدر هام عن حياة التصوف في القرن العاشر. ومن الغريب أن يجمع هذا الشيخ بين حياة التصوف وبين القضاء الذي يقتضي علما واسعا بالفقه والأحكام وقضايا الناس.
وتعتبر أرجوزة (الفلك الكواكبي) في أولياء منطقة الشلف لأبي عبد الله بن المغوفل، أهم عمل عالج هذا الموضوع بعد (صلحاء وادي الشلف) لموس المازوني (2)، وقد توفي ابن المغوفل سنة 1023، وكان من المرابطين البارزين، ولأهميته حاول العثمانيون الاستفادة من نفوذه الروحي في أول عهدهم. وتذكر المصادر أن ابن المغوفل قد ظهر أمره وهو ما يزال في تونس، وأن المشيخة قد أعطيت له هناك، ثم جاء منطقة الشلف ونزل بومليل حيث ظل يتعبد، ثم انتقل إلى نديلة التي ظل بها إلى وفاته. وكان لابن المغوفل ستة أولاد، اثنان منهم قد رافقا الحملة العثمانية على تلمسان. ويعتبر ابن المغوفل من أصحاب الكرامات، وله قبة بناحية الشلف. وقد قيل إن بعض الناس كانوا يتبركون بأرجوزته فيكتبونها أو ينسخون منها جزءا ويضعونه في خزائنهم للتبرك.
ومهما كانت قيمة الشيخ الروحية فالذي يهمنا منه الآن عمله العلمي، وهو أرجوزته في أولياء وصلحاء الشلف، وقد تحدث فيها على نسب هؤلاء الرجال وعلى مواطنهم، واعتبر ذلك خدمة لأهل الطريقة (القادرية؟) وسلما
__________
(1) المكتبة الوطنية - باريس، رقم 6748.
(2) انظر عنه الفصل الأول من الجزء الأول.
للوصول إلى آداب الطريق وإلى الحقيقة، وكتب ذلك بأسلوب موجز مقربا به ما بعد من المسائل والمعارف قائلا:
وبعد فالقصد بهذا الرجز ... تقريب ما نأى بلفظ موجز
سميته (بالفلك الكواكبي) ... وسلم الراقي إلى المراتب
أعني مراتب السلوك للمريد ... في الابتدا والانتهاء للمزيد
وجمع ابن المغوفل أخبار أولياء الشلف في عدة قرون (من السادس إلى التاسع). فتحدث عن أخبارهم وعن مناقبهم، وسمي يعفهم أهل الغوث وآخرين البدور. وتحدث عن خصائص المريدين والأولياء ودرجات كل منهم وسلوكهم نحو الآخرين. والغرص من ذكرهم، كما قال، هو التبرك بهم لينتبه الغافل ويتوب المذنب. ومن هؤلاء الشيوخ رجال سكنوا قرية (البطحاء) لكن قبورهم قد درست باندراسهم إلا ما ندر كالشيخ أبي عمران موسى الشاذلي الذي (أفاق) وسكن قرية أخرى، وهو من علماء الظاهر والباطن، ومن أشراف هوارة. ومنهم أيضا أبو أيوب، والبزاغتي (1)، وراشد، وعبد الجليل المسيلي، وابن أبي العافية، والسعدي صاحب الكرامات التي أخاف بها الأمير لولا أن هذا قد طلب العفو منه وأرسل إليه الهدية فعفا عنه ورضي، ومنهم أحمدوش الملقب بالأحمد الزاهد الذي كان يتقن تجويد القرآن والذي أصبح معلما للصبيان بأجرة مع لذيذ الطعام. وبالإضافة إلى هؤلاء هناك آخرون بغرب وشرق وجنوب القلعة يدافعون عن البلاد، وهم حراس لها ضد ظلم الحكام ولكن (انعكس الأمر بسوء الحال) فذل العزيز وفقر الغني. وذكر المغوفل بعد ذلك شيوخ شيوخه، وخص بالذكر علي الجوثي (؟) الذي قال إن الأرض قد ازينت به وأنه حمل لواء العلم وكان يجمع بين السنة والتصوف وكان يجيد الحديث والتفسير والمنطق والأدب. (فالزمان لا يأتي بمثله) (2).
__________
(1) عن عائلة البزاغتي انظر لاحقا العلماء الذين تولوا في العهد الفرنسي.
(2) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2259. نسخة نسخها السيد محمد الصادق بن التهامي سنة 1296.
والظاهر أن ابن المغوفل كان بسيط المعرفة وأنه سجل في هذه الأرجوزة ما وسعته ذاكرته أو أخبره به الناس ووجده في بعض المصادر عن حياة صلحاء الشلف. وعمله محشو بالأساطير والخرافات والتقاليد الشعبية أكثر من بعض الأخبار والحقائق العلمية. ولكن عمله، على كل حال، يعكس روح العصر (1).
ومن الذين تأثروا بالصباغ القلعي وبابن صعد وبالملالي، ابن مريم صاحب (البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان). وإذا قارنا بين مؤلفات ابن مريم ومؤلفات الصباغ القلعي وجدنا بعض التشابه. ومن المؤكد أن والد ابن مريم قد عاصر القلعي. فقد توفي هذا الوالد سنة 985 والغالب على الظن أن القلعي قد عاش إلى نحو ذلك التاريخ أيضا. وكان والد ابن مريم معلما للصبيان، وهي مهنة لا تحتاج إلى علم غزير وفقه عميق، وكل ما تحتاجه هو حفظ القرآن الكريم وبعض المتون ومبادئ العلوم، فإذا عرفنا أن ابن مريم قد ورث هذه المهنة على والده أدركنا أيضا أن ابن مريم، كما تدل على ذلك تآليفه، كان في نفس مستوى أبيه تقريبا. فهو لم يبلغ مبلغ علماء أسرة العقباني أو المقري أو العبادي أو ابن زكري في تلسان، وهذا يفسر إعجابه ربما ببعض العلماء ونظرته إليهم نظرة القداسة لأنه لم يصل إلى مستواهم العلمي، لذلك كثر في (البستان) وصف العلماء بالكرامات والخوارق، والخلط بين العلماء والصلحاء، ولعل ناحية التصوف تمثل ابن مريم في كتابه أكثر مما تمثله ناحية الفقه والعلوم العملية. يضاف إلى ذلك أن قائمة الكتب التي ذكرها لنفسه في آخر كتابه تدل على كونه من (أهل الله) أكثر من كونه (من أهل العلم). فقد ألف حوالي اثني عشر كتابا كلها في التصوف وفروعه. أما كتابه (البستان) فسنتناوله في باب التراجم (2).
__________
(1) يعرف المغوفل ببوعبدل أيضا وهو المشهور في مؤلفات الغرب الجزائري القديمة. ومن أولاده محمد بن أفغول الذي كان معاصرا لابن سليمان مؤلف (كعبة الطائفين) وقد ذكر أنه من الصالحين الذين أخذ عنهم 3/ 122.
(2) ألف ابن مريم (البستان) سنة 1011.
ويبدو أن حياة ابن مريم لم تتوفر لمترجميه حتى الآن لذلك كان جل اعتماد من ترجم له على ما ذكره هو في آخر كتابه (البستان) (1). والسبب في ذلك على ما يظهر عدم اطلاع هؤلاء المترجمين على عمل تلميذه عيسى البطيوي، صاحب كتاب (مطلب الفوز والفلاح في آداب طريق أهل الفضل والصلاح). ومن حسن الحظ أننا اطلعنا على هذا العمل وأخذنا منه ترجمة ابن مريم وهي في عدة صفحات، وبناء على البطيوي فإن ابن مريم كان في القرن الحادي عشر، كمحمد بن يوسف السنوسي في القرن التاسع، وهو يسميه (شيخنا المديوني) واعتبره من مصادر كتابه المذكور، بل إنه اعتبره من الشيوخ (المنزهين) عن الخلل، وقد سماه أيضا (شيخنا وبركتنا ووسيلتنا الى ربنا السيد الإمام، الحسن النظام .. محمد بن محمد المكنى بابن مريم). وقال البطيوي في موضع آخر إن الله قد من عليه بملاقاة (الإمام الصوفي الهمام درة أقرانه، وسنوسي زمانه، أبي عبد الله المذكور بيانه، فجمعت النفس والعين من مشاهدته، ومن جميل لقائه، وتزودت منه ما ينفعني الله به دنيا وأخرى) ووصف البطيوي شيخه بأنه لم ير مثله قيام ليل وتلاوة قرآن وحرصا على العلوم ونشرها. وذكر أن ابن مريم كان في الحنايا بالقرب من تلمسان، وأنه كان كثير المطالعة للكتب وأنه كان يقول: (ما أردت كتابا إلا ومكنني الله منه دون تعب). وأنه قد ترك عند وفاته نحو ستمائة كتاب.
والمهم في هذا الصدد أن البطيوي قد أورد أيضا ما وجده بخط ابن مريم عن شيوخه في القراءة والتربية، وما رواه له محمد ابنه (ابن مريم) الذي حدث البطيوي أيضا عن مشائخ وتلاميذ أبيه، وهم كثيرون، ومما ذكره أيضا أن ابن مريم قد أخذ التصوف عن محمد بن يوسف السنوسي (2). أما عن
__________
(1) فعل ذلك بروفنزالي (بل لم يترجم له أصلا)، والحفناوي في (تعريف الخلف) وبارجيس، الخ.
(2) لعل المقصود أنه أخذ التصوف عن تلاميذ السنوسي، لأن ابن مريم قد يكون ولد بعدالسنوسي بأكثر من جيل.
تآليف ابن مريم فقد قال البطيوي إن له نحو ثلاثة عشر تأليفا، منها شرح الرسالة وشرح على مقدمة ابن رشد، وآخر على الرقعي، وآخر على القرطبي، وآخر على حكم ابن عطاء الله، إلى غير ذلك. ومن الملاحظ أن البطيوي، قد جعل كتاب شيخه في المناقب، إذ سماه (البستان في مناقب أولياء تلمسان)، وقال إنه كتاب (في مناقب الصالحين)، وهذا في الواقع أصح، لأن ابن مريم كان في الحقيقة يؤلف في مناقب الصالحين والأولياء. ومهما كان الأمر فسنعود إلى هذا الكتاب أثناء الحديث عن التراجم كما وعدنا. وحسبنا الإشارة إلى أن كتاب البطيوي (مطلب الفوز) يعتبر من المصادر الجديدة لحياة ابن مريم (1)، أما ابن سليمان فقد أفادنا أن محمد نجل ابن مريم قد توفي سنة 1053 ولكنه لم يذكر وفاة ابن مريم نفسه (2). وكما ترجم البطيوي لشيخه ابن مريم ترجم هذا لأحد أفراد عائلة البطيوي، وهو محمد بن محمد بن عيسى البطيوي التلمساني. وكان محمد البطيوى معاصرا لابن مريم ومن أقرباء العالم الشهير سعيد المقرى. وذكر ابن مريم أن لمحمد البطيوي (وهو غير صاحب كتاب مطلب الفوز) تقاييد وأذكارا وأورادا، وقال عنه إنه متصوف وأنه يقرئ العلم ويعظ في أحوال الآخرة، وإنه قد توفي في المدينة المنورة دون ذكر تاريخ وفاته (3).
لم يكن (مطلب الفوز) لعيسى البطيوي من كتب المناقب بالمعنى التقليدي للكلمة، ولكنه (في آداب طريق أهل الفضل والصلاح) كما جاء في عنوانه. ومع ذلك فقد أدرج فيه عددا من المناقب المتعارف عليها كحديثه
__________
(1) المكتبة الملكية - الرباط، 1667، وترجمة حياة ابن مريم تقع في الجزء الثاني منه. لم يذكر البطيوي تاريخ وفاة شيخه، ولعله كان ما يزال حيا عندما ألف البطيوي كتابه.
(2) (كعبة الطائفين) 2/ 222، وقال إنه كانت بينهما مودة ومحبة، ويبدو أن تأليف ابن مريم عن الرقعي كان مشهورا عندهم، فحين أرخ ابن سليمان لوفاة صديقه محمد نجل ابن مريم قال عنه إنه (ولد مؤلف الشيخ الرقعي).
(3) ابن مريم (البستان) 272.
عن ابن مريم وعن أخيه (أخو عيسى البطيوي)، أحمد بن ونيس، وأحمد الولهاصي، وعن محمد بن يوسف السنوسي وغيرهم. وكان البطيوي يتبع في مناقبه الطريقة التقليدية أيضا، فهو يذكر حياة المترجم له وأعماله وكراماته وميزاته الصوفية. وقد قال عن أخيه أحمد بن ونيس انه كان صاحب كرامات ومكاشفات ورؤى، كرؤياه للرسول (صلى الله عليه وسلم) في المنام (1)، وهكذا في كل الرجال الذين ترجم لهم.
ويجدر بنا الآن أن نعرف أكثر عن حياة عيسى البطيوي وعن كتابه (مطلب الفوز)، وتعتبر حياته كحياة معظم العلماء الجزائريين الذين عاشوا خلال القرن الحادي عشر، أمثال سعيد المقري وسعيد قدورة والفكون، ولكن البطيوي، رغم أهمية كتابه، لم يكن من علماء التدريس، أي لم يكن من الفقهاء العاملين في الفتوى والرأي، ولكنه كان من العلماء المنكبين على دراسات التصوف والزهد، أولئك المحرومين من الوظائف العامة، أمثال شيخه ابن مريم وصاحب قصيدة (حزب العارفين) موسى بن علي اللالتي. وقد ذكر البطيوي أن اسمه: عيسى بن محمد اليحوي الراسي البطوي (كذا). ولعل كتابة النسبة الأخيرة من تحريف النساخ (2).
والبطيوي من مواليد أواخر القرن العاشر، فقد ذكر أنه قرأ القرآن على الشيخ أحمد بن أبي بكر السوسي، عندما مر عليهم قاصدا الحج، حوالي تمام المائة العاشرة بنحو العامين، وذكر أنه قرأ القرآن أيضا على ابن عمته وارث العساسي (الغساني؟) الذي عده من (الأدباء المجاهدين) وقد توفي
__________
(1) خصص لأخيه صفحات من الجزء الثاني من (مطلب الفوز)، ولعيسى البطيوي عمل آخر في التصوف عنوانه (شرح كتاب في التصوف) لم نطبع عليه. انظر الخزانة العامة بالرباط، رقم ك 2613.
(2) هناك (بطيوة) الجزائرية التي ينسب إليها مؤلف (مطلب الفوز) وهناك (بطيوة) المغربية التي ينسب إليها محمد بن علي المعروف بابن أبي مقرع صاحب الأرجوزة المعروفة في الفلك، وكثيرا ما يقع الخطأ في النسبة إلى البلدين. انظر بروكلمان 2/ 364.
وارث هذا سنة 1033، وانتقل البطيوي أيضا للدراسة على الشيخ أحمد بن إبراهيم الراسي البطيوي الذي توفي بدوره سنة 1039، وعدد البطيوي شيوخه الكثيرين، وأخبر أنه رحل إلى مدينة فاس سنة 1002 أو سنة 1003، وأخذ العلم بها على عدد من الشيوخ، كما كان يفعل كثير من الجزائريين، ويهمنا أن نلاحظ أن البطيوي قد ذهب أيضا إلى تلمسان وأخذ العلم بها على شيوخ ذكرهم وقدرهم، وهم سعيد المقري، وابن مريم، وأحمد الولهاصي. وقرأ على المقري العقيدة الكبرى للسنوسي، وأشاد كثيرا بشيخه ابن مريم، كما عرفنا، أما علاقته بالولهاصي فقد أضاف إلى الوجه العلمي منها المكاشفات، وأخبر أنه استشار مرة شيخه الولهاصي في امرأة يتزوجها فأشار عليه بعدم الزواج منها، وحلت له امرأة محلها عن طريق الكرامة. وما دام كتاب (مطلب الفوز) غير منته في النسخة التي اطلعنا عليها فلا نستطيع أن نعرف أكثر من هذا عن حياة البطيوي منه، ولا نعرف الآن من ترجم له أو تناول كتابه هذا بالتعريف. فمعلوماتنا عن حياته إذن مستمدة من الجزء المتوفر لدينا من كتابه.
أما الكتاب نفسه فهو موسوعة هامة عن الحياة الدينية والاجتماعية في ذلك العصر، وهو في هذا يذكرنا بكتاب (كعبة الطائفين) لمحمد بن سليمان الذي ألف بعده بقليل، فكلاهما يتخذ التصوف منطلقا، ولكنه يتضمن أخبارا كثيرة عن الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. وكتاب البطيوي يقع في جزئين كبيرين ومكتوب بخط جيد، وقد أخبر أنه ألفه لما رأى شعائر الإسلام قد كثرت والهمم قد قصرت وانحراف الناس عن الدين الصحيح قد أصبح واضحا، وتجنبهم عن الآخرة قد بات واقعا. لذلك تاقت نفسه إلى وضع تأليف يجمع فيه (من الديانات والآداب ما يحتاجه المريد السالك) فالكتاب إذن في آداب الطريق والسلوك الصوفي.
قسم عيسى البطيوي كتابه الى مقدمة وثمانية أبوابا وخاتمة. وجعل كل باب مقسما إلى فصول. فالخطة إذن جيدة تدل على ذوق سليم وروح علمية صحيحة، وقد جعل المقدمة في وجوب تعلم العلم النافع وفي فضائل
العلم والعلماء العاملين. أما الأبواب فهي على النحو التالي:
الباب الأول: في وجوب معرفة قواعد الإيمان.
الباب الثاني: في وجوب معرفة قواعد الإسلام والعمل بها.
الباب الثالث: في آداب المريد مع خالقه.
الباب الرابع: فيما يجب للنبي (صلى الله عليه وسلم) على أمته.
الباب الخامس: في وجوب حفظ جميع الجوارح الظاهرية والباطنية من المخالفة.
الباب السادس: في الترغيب في محبة الله.
الباب السابع: في المشيخة.
الباب الثامن: في حكم الجهاد والرباط وفضائلهما وتمني الموت.
أما الخاتمة فقد جعلها في ذكر وصايا صحيحة مجربة (يستعان بها على صعب هذا الزمان، معتمدا في ذلك كله على أئمة السلف). ولا شك أن الباب الثامن من أهم أبواب الكتاب، لاسيما إذا عرفنا دور المرابطين الاجتماعي والسياسي في القرن العاشر والحادي عشر. وقد كانت النواحي الغربية، كما أشرنا، تعيش في توتر مستمر نتيجة الوجود الإسباني على السواحل، كما أن الباب الثالث والسابع مهمان في دراسة سلوك المتصوفين عندئذ، ومن المهم مقارنة ذلك بما جاء في الكتب المشابهة له في الموضوع والزمان مثل (كعبة الطائفين).
وتظهر منهجية البطيوي أيضا في ذكر مصادره وموقفه منها، فقد ذكر عددا من المصادر التي أخذ منها في كتابه، ومن ذلك (الجواهر الحسان) وهو تفسير عبد الرحمن الثعالبي، وشرح الحكم لابن عباد التلمساني (1)،
__________
(1) هو محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن مالك الغزي المعروف بابن عباد، وكان من أهل التصوف، وكان يتردد بين تلمسان وفاس، وقد توفي سنة 792 (1390 م). وله (الدرة المشيدة في شرح المرشدة) وشرح على حكم ابن عطاء الله، سماه (غيث المواهب العلية) وهذا هو الذي يشير إليه البطيوي. انظر (معجم المؤلفين) 8/ 207، وأبا راس (عجائب الأسفار)، 108، ومخطوطات زاوية طولقة عن (الدرة المشيدة).
والسهروردي في علم التصوف، وابن فرحون، ومحمد بن يوسف السنوسي الذي سماه (حجة الإسلام)، والغزالي الذي سماه (شيخ الإسلام)، و (شيخنا المديوني) وهو يقصد به محمد بن مريم صاحب (الحسان)، كما أن البطيوي قد اعتمد على مصادر أخرى، مكتوبة وشفوية، لإثراء كتابه، وقد نبه إلى أن الخطأ محسوب عليه وحده وليس على مصادره، لأن أولئك الأئمة في نظره (منزهون) عن الخلل (1).
وإذا كانت المناقب هي ذكر الفضائل فإن الفكون لم يخصص كتابه (منشور الهداية) للفضائل وحدها، ومن ثمة لم يكن كل كتابه مناقب، وقد قسم كتابه إلى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، وجعل عنوان الفصل الأول هكذا (في من لقيناه من العلماء والصلحاء المقتدى بهم، ومن قبل زمنهم ممن نقلت إلينا أحوالهم وصفاتهم تواترا، أردنا التنبيه عليهم وذكر ما كانوا عليه وزمانهم وتواريخ وفاتهم). فهذا الفصل إذن يمكن اعتباره في المناقب لأنه ذكر فيه فضائل هذا الصنف من العلماء والصلحاء المقتدى بهم. أما الفصلان الثاني والثالث فقد جعلهما في نقد المتشبهين بالعلماء، والمتشيهين بالصلحاء، ذلك أن عنوان الفصل الثاني هو (في المتشبهين بالعلماء، وهم الذين قصدنا بهذا التقييد إيضاح أحوالهم)، وعنوان الفصل الثالث هو (في المبتدعة الدجاجلة الكذابين على طريق الصوفية المرضية). فهما إذن فصلان بعيدان كل البعد عن المناقب، حتى الخاتمة التي جعلها (في إخوان العصر وما هم عليه) مليئة بالنقد والغمزات اللاذعة لإخوانه المعاصرين له. بل إن عنوان الكتاب نفسه يدل على أن صاحبه لم يقصد به المناقب المتعارف عليها وإنما أراد به نقد أحوال أدعياء العلم والتصوف في وقته، فهو (منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية). وكان الفكون يجمع بين علوم
__________
(1) الجزآن الأول والثاني من (مطلب الفوز) في المكتبة الملكية بالرباط، رقم 1667. ولا يوجد ذكر لناسخه ولا تاريخ نسخه، والجزء الثاني غير كامل كما نبهنا، وجاء في رساله لابن مريم أوردها البطيوي في كتابه أنه: عيسى بن محمد بن يحيى البطيوي، قارن رأيه في (تنزيه) الأئمة السابقين برأي يحيى الشاوي السابق,
الظاهر وعلوم الباطن، فهو من العلماء الفقهاء المؤمنين بالتصوف التأملي المنكرين للبدع والخرافات التي انحطت بقيمة العقل والعلم. وكان في كتابه هذا ثائرا، كما كان في كتابه (محدد السنان في نحور إخوان الدخان)، فهو يهاجم الانحراف والابتداع في الدين والوصولية. وقد تعرض في (منشور الهداية) لحياة أكثر من سبعين شخصا (1). فلا غرابة أن يتعرض إلى النقد بسببه.
فإذا اعتبرنا أن الفصل الأول فقط من كتابه هو الخاص بالمناقب، فإن مقاييسه فيه تختلف كثيرا عن مقاييس ابن مريم والبطيوي والمغوفل وابن سليمان وغيرهم ممن كتبوا في المناقب. فهؤلاء كانوا يبالغون في أوصاف الشيخ ونسبة الكرامات إليه وخوارق العادات، وقد لا يكون له حظ من العلم على الاطلاق، أما الفكون فقد ذكر في هذا الفصل العلماء العاملين الذين لا يكادون يتميزون عن غيرهم إلا بالتأليف والتدريس والمواقف الصلبة ضد المغريات الدنيوية، وقد ذكر من هؤلاء جده عبد الكريم الفكون، وعمر الوزان، ومحمد العطار، وأحمد الغربي شارح (رسالة عمر بن الخطاب في القضاء) (2)، ومحمد الكماد، وعبد اللطيف المسبح، الخ. وحتى هؤلاء وأضرابهم لم يخل حكمه عليهم من غمزات أيضا. فإذا كان مؤلفو المناقب الآخرين يعاملون شخصياتهم معاملة الملائكة أو المنزهين عن الأخطاء، فإن الفكون كان يعامل شخصياته على أنهم بشر يتخاصمون ويتآمرون، فيهم الخير والشر، والصلاح والطلاح. وقد كان بدون شك أكثر قسوة في معاملة شخصياته في الفصلين الثاني والثالث، وحسبنا الآن من كتابه ما ذكرناه له من مناقب (3). أما كتابه كمجموعة من التراجم فسنعود إليه في الفصل الخاص بالتاريخ
__________
(1) ترجمنا للفكون في الفصل الأخير من الجزء الأول.
(2) تحدثنا عنها في الفصل الأول من الجزء الأول.
(3) الغالب أن الفكون قد ألف (منشور الهداية) بعد 1045 وهو تاريخ وفاة والده الذي ذكره، قبل 1047 وهو تاريخ ثورة ابن الصخري الذي لم يذكره ولم يذكرها، رغم تدخله فيها.
والغريب أن كتب المناقب الشاملة لعصر أو منطقة أخذت تضعف بعد عمل الفكون. حقا ان بعض العلماء قد كتب بعد ذلك تراجم كأحمد بن عمار في كتابه (لواء النصر في فضلاء العصر)، ولكن مثل هذا العمل لا يعتبر من باب المناقب الصوفية المعروفة. ويمكن أن يدخل في المناقب (عقد الجمان النفيس) لعبد الرحمن التجاني الذي تناول أشراف إغريس، و (الدرة المصونة) لأحمد البوني الذي تناول علماء وصلحاء عنابة. و (سبيكة العقيان فيمن بمستغانم وأحوازها من الأعيان) لمحمد بن محمد الموفق المعروف بابن حوا الذي تناول صلحاء نواحي الشلف، وكتاب (التعريف بالأحبار المالكين الأخيار) لابن علي الشريف الشلاطي.
وهناك أعمال في المناقب تناولت شخصا بعينه. وهذا ما نحاول الوقوف عنده قليلا. فالشيخ علي البهلولي، الذي كان معاصرا للفكون، قد وضع تقييدا، حسب تعبير الفكون، في الثائر أحمد بن عبد الله الذي توفي عقب الحرب التي دارت بينه وبين ثائر آخر يدعى يحيى السوسي (1)، وقد أوضح البهلولي في تقييده أن أحمد بن عبد الله هو الفاطمي وأنه لم يمت وأنه المهدي المنتظر، وكان للبهلولي عقيدة خاصة راسخة في هذا الشيخ. ولم يكن البهلولي من البسطاء، كما قد يظهر، ذلك أن الفكون، وقد عرفنا موقفه من متصوفة عصره، قد قال عنه انه كان (فطنا لقنا، صاحب شعر كثير وفصاحة وفهم، وله إنشادات شعر كثير) (2)، وكان للبهلولي أيضا أخ يدعى عبد الرحمن، يقف ضد البدع، وقد ألف في ذلك قصيدة أرسلها إلى الفكون لشرحها، وتوفي الأخوان، علي وعبد الرحمن البهلولي، في حياة الفكون. ورغم أننا لا نعرف بالضبط متى كتبت سيرة محمد بن بوزيان، مؤسس
__________
(1) الظاهر أن هذا كان زعيم ثورة تلمسان التي تحدث عنها محمد بن سليمان في (كعبة الطائفين) والتي قاد ضدها القائد محمد بن سوري حملة من الجزائر. انظر كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، وحسب (كعبة الطائفين) فإن الثائر يدعى محمد بن أحمد السوسي وأنه قتل أثناء الثورة 3/ 12.
(2) الفكون (منشور الهداية) مخطوط.
الطريقة الزيانية، فإن الظاهر أن مصطفى بن الحاج البشير قد ألف كتابه (طهارة الأنفاس والأرواح الجسمانية في الطريقة الزيانية الشاذلية) بعد وفاة شيخه بزمن قليل، ونفس الشيء يقال عن كتاب (فتح المنان في سيرة الشيخ سيدي الحاج محمد بن أبي زيان)، الذي لا نعرف الآن مؤلفه، وإذا كان (فتح المنان) واضحا أنه في مناقب أبي زيان فإن (طهارة الأنفاس) قد جمع بين مناقب الشيخ ومنهاج الطريقة الزيانية في سلوكها وأورادها وتاريخها (1)، ونحن نغامر بذكر هذين المصدرين عن أبي زيان وطريقته في انتظار الكشف عن زمن تأليفهما، وقد مجد مؤلفا الكتابين مؤسس الطريقة الزيانية وبينا فضائله ومزاياه وكراماته ومناقبه.
وقام بعض الأتباع المتحمسين للطريقة الدرقاوية بوضع تأليف تناول حياة شيخ الطريقة وأوضح مبادئها ودافع عنها، ومن هؤلاء محمد بوزيان بن أحمد المعسكري الغريسي الذي سمى كتابه (كنز الأسرار، في مناقب مولانا العربي الدرقاوي وبعض أصحابه الأخيار)، ومحمد الغريسي كان من أتباع الطريقة الدرقاوية التي حارب أصحابها العثمانيين أوائل القرن الثالث عشر، وقد توفي سنة 1271 (1854) قبل إتمام عمله الذي وصل فيه إلى أربع كراريس، ويوجد كتابه تحت الاسم الذي ذكرناه، كما يوجد تحت اسم (في مناقب الشيخ أبي حامد العربي بن أحمد الدرقاوي الحسني وتلامذته). ويبدو أن الاسمين ليس من وضع المؤلف نفسه، وأن بعض النساخ فقط هم الذين أضافوا الاسم هنا وهناك على بعض النسخ (2)، وهو، كما عرفنا، في مناقب الشيخ الدرقاوي المغربي، وفي بعض أصحابه الذين عضدوه في الجزائر مثل عبد القادر بن الشريف، ويبدو من الخطة أن محمد الغريسي كان ينوي أن
__________
(1) ذكر هذين الكتابين السيد كور الفرنسي في ترجمة الشيخ أبي زيان وطريقته، انظر (مجلة العالم الإسلامي) 910، م 12، 359 - 360. ولكنه لم يذكر تاريخ تأليف الكتابين. عنهما انظر لاحقا في أجزاء العهد الفرنسي.
(2) الخزانة العامة بالرباط، رقم 2339 د، و (دليل مؤرخ المغرب) 1/ 305 انظر أيضا (سلوة الأنفاس) 2/ 362، وتقع نسخة الخزنة العامة التي اطلعنا عليها في 53 ورقة.
يوسع كتابه ليشمل عددا كبيرا من زعماء الطريقة الدرقاوية ونشاطهم.
شروح في التصوف:
رغم وفرة الشروح الفقهية والنحوية وغيرها فإن شرح الأعمال الصوفية قليل نسبيا. وتوجد لدينا أراجيز وقصائد ومتون نثرية تتناول التصوف، عمد بعض الجزائريين إلى شرحها، وهذا يشمل الأصول التي كتبها جزائريون أيضا أو كتبها غيرهم. وأهم عمل اطلعنا عليه في هذا الميدان شرح (عقد الجمان النفيس) وشرح (قصيدة حزب العارفين).
لقد شغلت القصيدة السينية المعروفة بسينية ابن باديس أو (النفحات القدسية) لأبي الحسن علي بن باديس كثيرا من الشراح والمعلقين، وموضوعها هو الإشادة بعبد القادر الجيلاني، ومطلعها (1).
ألا صل إلى بغداد فهي منى النفس ... وحدث بها عمن ثوى باطن الرمس
وما دام الأمر يتعلق بشخصية يجلها الصوفيون ويتبركون بها فإن أحمد بن محمد الحاج البجائي التلمساني قد عمد إلى شرح القصيدة المذكورة في عمل سماه (أنس الجليس في جلو الحناديس عن سينية ابن باديس). وقد كان ابن الحاج من قضاة بجاية وله مؤلفات أخرى في السيرة النبوية تتمثل في شرحه للقصيدة الشقراطسية (2). ولاحظ ابن الحاج أنه لا يعرف أحدا قبله وضع شرحا على القصيدة. وقد جمع في شرحه بين التحليل الأدبي والصوفي. واعتذر بقوله: (اعلم أن هذه القصيدة ليست لي فيها رواية، ولا شاركت فيها من له بها دراية، ولا وقفت على نسخة منها عتيقة، تكون النفس بصحبتها وثيقة، ولا عثرت على شرح لها أمامي، أجعله إمامي، ولكني أتحرا (كذا) من ألفاظ نسخها ما أراه يليق بمقصدها، ومن معانيها ما
__________
(1) انظر الفصل الأول من الجزء الأول.
(2) توجد نسخة من شرحه في المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2104، وأخرى في الخزانة العامة بالرباط، رقم 2100 د انظر ترجمة أحمد بن الحاج في (دوحة الناشر 219 - 221، ونسخة الرباط موضوعة في باب (المناقب والتراجم). ولم يذكر ابن عسكر تاريخ وفاته وإنما حدده باوائل القرن العاشر.
يغلب على ظني أنه مراد مقصدها ...) (1) ومن جهة أخرى عرف القرن العاشر أيضا شرح محمد الصباغ القلعي لقصيدة إبراهيم التازي في التصوف. وقد سمي القلعي شرحه، كما عرفنا، (شفاء الغليل).
وحوالي القرن الحادي عشر ألف عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد التجاني رسالة في صلحاء ناحية غريس قرب معسكر سماها (عقد الجمان النفيس في ذكر الأعيان من أشراف غريس) (2). وقد تناول هذه الرسالة بالشرح عدد من المعاصرين لها والمتأخرين، منهم أبو راس الناصر، الذي عاش في نفس المنطقة. واطلعنا على شرح لهذه الرسالة قام به محمد الجوزي بن محمد الراشدي المزيلي سماه (فتح الرحمن في شرح عقد الجمان). وقد أخبر المزيلي أنه لقي مؤلف العقد فسلمه نسخة منه وكلفه بشرحه بعد تردد. ويبدو أن العلاقة بين الرجلين كانت علاقة الشيخ بتلميذه، فقد جرت العادة أن لا يشرح الند لنده، إلا إذا كانا متفاوتين سنا، ومع ذلك فإن المزيلي لم يخبر أنه كان تلميذا للتجاني ولا يذكره بألفاظ توحي بذلك، وإنما أخبر أن (عقد الجمان) قد أعجبه وشعر بأهميته فتاقت نفسه إلى شرحه.
ومهما كان الأمر فإن محمد المزيلي قد أوضح خطته في شرحه منذ البداية فقال إنه وشحه بأحاديث رائقة، وقصص لائقة، وأخبار فائقة، وختمه بتكميل ذكر فيه الخلفاء الأبرار، والملوك والثوار، في كل النواحي والأقطار. وهذه الخطة تعني أنه لم يقسم عمله إلى فصول أو أبواب، ولم يقتصر فيه على (أعيان غريس) كما جاء في الرسالة المشروحة بل جمح به القلم والفكر إلى عوالم أخرى، فراح يطوف هنا وهناك، وكاد يتخلى تماما عن موضوعه
__________
(1) أخذنا هذه المعلومات من نسخة عند السيد ماضوي. وتبلغ 65 ورقة، وهي كاملة وخطها جيد، لعله خط المؤلف نفسه، وفيها العنوان (أنيس الجليس) وليس (أنس الجليس)، وفيها اختلاف في المطلع.
(2) ترجم هذا العمل إلى الفرنسية السيد قان، ونشره في (المجلة الإفريقية)، 1891، 241 - 280.
الأصلي. لذلك جاء الكتاب مليئا بالحشو والاستطرادات التي لا تمت بأية صلة إلى الموضوع. فكأن المزيلي كان يستعرض معلوماته ليبرهن على سعة اطلاعه ومعارفه في التاريخ واللغة والأدب والأخبار، وقد وقع في هذا أيضا غيره من الشراح الذين كانوا يعمدون إلى التخفيف عن القارئ، في نظرهم، من السآمة والملل. لذلك تضخم الكتاب (أي فتح الرحمن) حتى كاد يصل إلى ألف ورقة (1). ومع ذلك فإن فيه، بالإضافة إلى الموضع الأصلي، أخبارا هامة عن المجتمع مبثوثة هنا وهناك، من ذلك أنه أخبر عن حالة غريس في وقته (وقد كانت تحت السلطة العثمانية وقريبة من عاصمة الإقليم) وهي حالة لا تسر. فقد قال إن في غريس (عصابة من ذوي الضلال، شأنهم سفك الدماء وهتك الحرام وأخذ الأموال). كما شكا حاله وحال الناس هناك من الظلم والتعدي والحاجة. ومما يذكر أنه ألف الكتاب في غريس نفسها.
وقد اشتهر محمد بن أحمد الشريف الجزائري بشروحه الكثيرة على أعمال غيره وعلى بعض الأحاديث النبوية. من ذلك شرحه لقصيدة الدمياطي (شمس الدين محمد الدروطي الدمياطي) اللامية في التصوف.
وقد سمي الجزائري شرحه عليها (القول المتواطي في شرح قصيدة الدمياطي) (2). أما الورتلاني صاحب الرحلة فقد خص بالشرح قصيدة نادرة لعبد الرحمن الأخصري في التصوف تعرف بـ (القدسية)، وهي قصيدة في آداب السلوك ونكران البدع لا يعرف أن الأخضري قد شرحها، رغم شهرته بشرح منظوماته بنفسه. وقد اطلعت على نسخة من شرح الورتلاني الذي سماه (الكواكب العرفانية والشوارق الأنسية في شرح ألفاظ القدسية) وبرر الورتلاني قيامه بهذا العمل كون بعضهم قد ألح عليه في شرح هذه القصيدة
لعدم وجود شرح عليها، وهو ينقل كثيرا عن غيره مثل القشيري وأحمد
__________
(1) اطلعنا منه على نسخة في مكتبة زاوية طولقة، وهي غير مرقمة، وخطها جيد.
(2) نسخة منها في المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2152. انظر أيضا تيمور 462 مجاميع، و (هدية العارفين) 2/ 319. وتوفي الدمياطي سنة 921/ 1515.
زروق، معترفا بأنه قد اعتمد في عمله على (نقول ذوي التحقيق) (1) ولا غرابة في ذلك فقد عرفنا أن الورتلاني كان من أقطاب التصوف في القرن الثاني عشر.
ومن أهم الأعمال الصوفية التي اطلعنا عليها شرح محمد بن سليمان بن الصائم، المسمى (كعبة الطائفين وبهجة العاكفين في الكلام على قصيدة حزب العارفين). وقصيدة (حزب العارفين) نظمها موسى بن علي اللالتي التلمساني، واشتهرت في وقتها (القرن الحادي عشر) وتناولها أكثر من واحد بالشرح والتعليق والتبرك. وهي قصيدة في أهل التصوف وفي أحوال العصر، ومكتوبة باللغة العامية الواضحة. وكان الناظم شيخا للشارح وهو الذي طلب من تلميذه شرح القصيدة وأوصاه أن لا يشرح بعض أجزائها في حياته، وهي الأجزاء التي تتناول أهل الطلاح. والشرح الذي اطلعنا عليه ضخم جدا بلغ أكثر من مائة وست وأربعين ورقة بالخط الرقيق، ومع ذلك فالنسخة غير كاملة. وجال محمد بن سليمان في (كعبة الطائفين) جولات واسعة وأطلق عنان القلم ليكرع من جميع الأنهار. وكثيرا ما كان يستمد معلوماته من العصر وأهله وأحوال بلاده في القديم والحاضر. وقد درسنا النسخة التي اطلعنا عليها دراسة مستفيضة واستخرجنا منها ما يتعلق بالحياة الاجتماعية والسياسية وبحياة العلماء ورجال التصوف في القرن الحادي عشر. أما الجزء الخاص بالتصوف المحض، وهو أساس الكتاب فقد اكتفينا بالإشارة إليه والتنويه بأهميته.
__________
(1) النسخة التي اطلعنا عليها من الشرح توجد في مكتبة زاوية طولقة، وتوجد نسخة من القصيدة (القدسية) في المكتبة السليمانية بإسطانبول، انظر محمد بن عبد الكريم (مخطوطات) 59 وقد سلمني نسخة منها الشيخ محمد الطاهر التليلي القماري، أما شرحها للورتلاني فقد أخبرني الأستاذ محمد الطاهر فضلاء أنه يملك نسخة منه. كما توجد نسخة منه في الخزانة العامة بالرباط، ك 1165 مجموع. ومن الذين نوهوا بالقدسية واقتبسوا منها، أحمد بن طوير الجنة الوداني (موريتانيا). انظر مخطوط كتابه (فيض المنان)، المكتبة الملكية بالرباط، رقم 406. وتنسب إلى الأخضري أرجوزة في طبيعة النفس كتبها سنة 944، وهي توجد في المتحف البريطاني ومكتبة ميونخ.
وتبعا للناظم تحدث محمد بن سليمان عن عدد من رجال التصوف الجزائريين والمسلمين عموما. والقائمة تشمل تقريبا كل الأسماء التي تعرضنا إليها حتى الآن (التازي، السنوسي، الثعالبي، الهواري ...) والقصيدة وشرحها من هذه الزاوية يعتبران من أعمال المناقب. وقد شكا كل من الناظم والشارح من أحوال العصر ومن ظلم الحكام والفوضى ومن اللامبالاة تجاه العلماء ورجال الصلاح. وها هو محمد بن سليمان يلخص ذلك في قوله (لم نجد نحن في هذا الأخير من القرن الحادي عشر. إلا العقارب واللفاع، والشقاق والنزاع، وظهور الهمج الرعاع، المؤثرين سبل الشر والابتدع، وما لنا عن دفع ما نزل بنا من قدرة ولا حول، ولا قوة لنا على التحول عن أهل هذا الحال ولا طول ..) (1) أما علماء التصوف من المسلمين فقد ذكر منهم الغزالي وابن الفارض والجيلاني. وحسبنا الآن من هذا الكتاب التنويه بأهميته في التصوف في عصر المؤلف، سيما في غرب البلاد، فهو يعتبر استمرارا لعمل ابن مريم وعيسى البطيوي، كما يعتبر مكملا لعمل عبد الكريم الفكون عن التصوف في شرق البلاد. أما الذي يرغب في معرفة تفاصيل أكثر عنه فعليه بالرجوع إلى دراستنا المشار إليها (2).
وقبل أن نختم هذه النقطة نشير إلى أن عبد القادر المشرفي قد وضع نظما سماه (عقد الجمان الملتقط من قعر قاموس الحقيقة الوسط)، وهو في
__________
(1) دراستنا لهذا الكتاب ظهرت في (المجلة التاريخية المغربية) تونس، عدد 7 و 8 (يناير 1977) 61 - 68 وقد اعتمدنا على نسخة القاهرة، دار الكتب المصرية 15 مجاميع، وبعد ذلك اطلعنا على نسخة منه بباريس في ثلاثة أجزاء، وهي كاملة، رقم 460، بروكلمان 2/ 1009، كما توجد منه نسخة بالخزانة العامة بالرباط، رقم د 1921 مجموع من 1 - 447 ولم نطلع عليها.
(2) ظهرت هذه الدراسة أيضا في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، الجزائر 1978 ط. 3، 1990، وقد استفدنا من نسخة باريس، أن الشارح هو محمد بن سليمان بن الصائم التلمساني المعروف بالجزولي، وأنه كان يشغل وظيفة إمام أحد المساجد في تلمسان، وأنه بعد أن انتهى من (كعبة الطائفين) بحوالي عشر سنوات ألف كتابا آخر في التصوف سماه (حياة القلوب) وهو في الأوراد، ألفه سنة 1066.
الواقع نظم لرسالة منسوبة إلى محمد بن علي الخروبي، واسمها (الدرة الشريقة في الكلام على أصول الطريقة). ورغم أن عمل المشرفي هو نظم لنثر فقد قام ابنه، محمد الطاهر المشرفي، بشرح نظم والده، ولا نعرف الآن العنوان الذي أطلقه المشرفي الابن على شرحه، غير أننا نعرف أن هذا الشرح قد حظي بتقريظين أحدهما من أبي راس (وهو تلميذ المشرفي الأب) والثاني من قاضي مدينة الجزائر في وقته وهو محمد بن مالك (1).
المواعظ والردود:
سنتناول في هذا القسم المؤلفات والمنظومات والمناقشات المتعلقة بالتصوف والفلسفة ونحوهما. ويشمل ذلك الأذكار والأدعية والأوراد وغيرها من المواد الصوفية. ولا يمكن إحصاء ذلك لكثرته وعدم توفره كله بين أيدينا. ذلك أن أبسط ما يبدأ به بعض الزهاد والمتصوفة كتابة الأذكار والأدعية. بما في ذلك المدائح النبوية التي تأخذ طابع التوسل لا طابع السيرة. ولا شك أن بعض العلماء قد اشتهر بالإنتاج في هذا الميدان أكثر من بعض، فقد عرف محمد الخروبي في القرن العاشر وأحمد البوني في القرن الثاني عشر بوفرة الإنتاج في هذا الباب.
وقد عرفنا أن من كتاب الأذكار والأدعية في أوائل القرن العاشر أحمد بن يوسف الملياني ومحمد (بوعبدل) المغوفل. وذكر أبو راس أن المغوفل كان (أحد أعجوبات الدهر في علمه وورعه وكراماته يشهد لعلمه قصيدة مدح بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فيها سبعون بيتا، وليس فيها حرف يستحق النقط، بل كلها عواطل من النقط. وكفى به حجة) (2)، وينسب إلى المغوفل كثير من الأشعار الدينية والصوفية، ومنها رجزه الذي أتينا عليه في مناقب أهل الشلف. وإذا عدنا إلى (دوحة الناشر) لابن عسكر وجدنا عددا من المترجم لهم قد خاضوا ميدان التصوف، ومنهم عبد العزيز بن خليفة
__________
(1) المنوني، مكتبة الزاوية الحمزية (مجلة تطوان) رقم 8، ورقم الشرح في المكتبة هو 203، وتاريخ التقريظ الأول سنة 1228 والثاني سنة 1227.
(2) (عجائب الأسفار)، ورقة 26 نسخة الجزائر.
القسنطيني الذي كتب (رسائل صوفية)، وكان يعتقد فيه أنه صعد إلى مرتبة الغوث والقطب، وكان له تلاميذ كثيرون، وهم الذين كتب إليهم الرسائل المذكورة والتي ما زالت، لحسن الحظ، محفوظة، وكان القسنطيني في وقته من أصحاب الخوارق والكرامات (1).
أما محمد بن علي الخروبي فقد ترك عدة أعمال في التصوف أشرنا إلى بعضها، كما أشرنا إلى تأثيره الديني على معاصريه، ولا شك أن أهم أعماله الصوفية هو شرح الصلاة المشيشية، وأصول طريقة الشيخ زروق، وشرح الحكم لابن عطاء الله، يضاف إلى ذلك رسالته في الطرق الصوفية، ورسالته في الرد على أبي عمرو القسطلي المغربي والتي سماها (ذات الإفلاس إلى خواص أهل مدينة فاس).
وعلى ذكر الردود نذكر أن الشيخ أبا القاسم بن سلطان القسنطيني قد ألف، وهو بتطوان، كتابا في مجلدين رد فيه على طائفة العكازين (وهي الطائفة الملعونة التي لا زالت لها بقية في بلاد المغرب بقبيلة بني حسن .... أبدع النقل فيهم مزيفا أقوالهم الفاسدة) (2). وقد ترجم لأبي القاسم القسنطيني صديقه أحمد بن القاضي صاحب (درة الحجال) فوصفه بالورع والتبحر في الفقه وقوة العارضة في الخطابة بقصبة تطوان. ومن ثمة ندرك أن القسنطيني لم يكن مجرد رحالة وإنما أطال الإقامة بتطوان وتولى بها الوظيفة المذكورة. كما وصفه ابن القاضي بأنه كان من العلماء المعقوليين. ومدح ابن القاضي كتاب القسنطيني في الرد على (الطائفة الأندلسية) وزعيمها محمد الأندلسي، (أجاد فيه كل الإجادة وناضل عن السنة السمحاء)). وقد اطلع ابن القاضي على هذا الكتاب سنة 995 وقال عنه إنه في مجلدين، وأن (من أراد الوقوف على شناعتهم (يعني الطائفة التي يسميها الأندلسية) جملة وتفصيلا، وما قيل في هذه الطائفة الملعونة، فليطالع تأليف الفقيه الإمام أبي القاسم بن سلطان
__________
(1) (دوحة الناشر) 227. انظر أيضا محمد المنوني (الزاوية الحمزية) في (مجلة تطوان) عدد 8، وتوجد منه نسختان.
(2) روى ذلك ابن سودة في (دليل مؤرخ المغرب) 94.
القسنطيني، نزيل تطوان، فقد أبدع فيهم وزيف أقوالهم وبين فسادها). ونحن نعلم من ترجمة ابن القاضي أيضا أن القسنطيني قد أخذ العلم على أحمد المنجور المغربي. أما في المشرق فقد أخذ عن جماعة منهم عبد الرحمن التاجوري وعلي البكري الصديقي، وكان القسنطيني قد حج. وله رحلة لا ندري مكانها. وكان ميلاده بعد سنة 930، أما تاريخ وفاته فمجهول لدينا الآن، ومهما كان الأمر فإنه كان على قيد الحياة سنة 995 (1).
ومن كتب الردود التي اتخذت طابعا فلسفيا (النبل الرقيق) ليحيى الشاوي، وهي الرسالة التي رد بها على رسائل وآراء معاصره نور الدين الكوراني نزيل المدينة في وقته، فقد اتهمه الشاوي باتباع آراء المعتزلة والقول بالاتحاد واستنقاص الرسل. ولذلك حكم بكفره وأوجب قتله. ولم يسلم من هجوم الشاوي، أثناء ردوده، بعض العلماء المغاربة أيضا، ومنهم عبد الله العياشي ومحمد بن سليمان. وكان الشاوي يتحدث على لسان المغاربة عموما ويدافع عن أهل السنة ويغض من شأن المتصوفة وعلماء الباطن. ولكن محمد بن رسول البرزنجي نزيل المدينة أيضا قد تصدى للرد على الشاوي بلسان الكوراني، وسمى رده (العقاب الهاوي (2)). واتهمه عدة اتهامات لا تليق بالعلماء المبجلين. ولكن رد البرزنجي فيه أخبار عن حياة الشاوي بمصر وإسطانبول وعلاقته بالعلماء في وقته ورجال الدولة. حقا إن بعض هذه الأخبار مبالغ فيه، ولكن السياق على العموم صحيح.
ومن هذه الأخبار كون الشاوي قد ارتكب في الجزائر ما أوجب إخراجه منها، وأنه خرج إلى مصر وصار شيخ الركب المغربي عدة مرات، وأنه ذهب إلى إسطانبول مرتين، وأنه لقي هناك بعض الإكرام فاغتر وبطر لأخذ في منازعة الأولياء وتكفيرهم ونفى التصوف عن بعضهم، وطعن في عرض
__________
(1) محمد داود (تاريخ تطوان) القسم الأول، 157، وقد نقل عن أحمد بن القاضي في (درة الحجال) ط. الرباط سنة 1354، م 1/ 167، م 2/ 465، وعلق محمد داود على كتاب القسنطيني بأنه يظهر أنه قد (اضمحل).
(2) عن حياة الشاوي انظر سابقا.
محمد بن سليمان وعبد الله العياشي المغربيين. وإنه أخذ كثيرا من وظائف علماء مصر أثناء إقامته بها. ثم توجه ثانية إلى إسطانبول فنجح بعض الشيء حيث قربه رجال الدولة أول الأمر ثم انقلبوا عليه كما انقلب عليه أهل مصر فرفعوا عنه وظائفه. ولم يعد من إسطانبول هذه المرة سوى بعجوز هي، حسب رأي البرزنجي، أكبر من أمه، كما قيل عنه إنه أهدى كتابا له إلى ابن السلطان، وقدم هدايا إلى رجال الدولة وتوجه إلى أبوابهم. وعادى الصوفية لأجلهم. ومع ذلك رجع صفر اليدين.
ونحن نعرف من سياق الرد والاعتراض أن الكوراني قد كتب رسالة (مسلك السداد إلى مسألة خلق أفعال العباد) فراسله حولها بعض علماء المغرب مستفسرين عما جاء فيها، ومنهم محمد بن عبد القادر الفاسي. فرد الكوراني برسالة أخرى سماها (نبراس الإيناس بأجوبة سؤالات أهل فاس) أجاب بها أيضا من سأله عن مسألة الغرانيق. ثم كتب الكوراني رسالة أخرى سماها (إمداد ذوي الاستعداد لسلوك مسلك السداد). ونتبين من هذه الرسائل أن الكوراني كان يتناول موضوعات جدلية بين المسلمين كمسألة الغرانيق ومسألة الاتحاد ومسألة خلق الأفعال ونحوها. كما نتبين صلته بعلماء المغرب من المراسلات التي كانت بينهم وبينه ومن وصول رسائله إليهم ثم من صلاته بعلمائهم الزائرين والمجاورين بالمدينة أمثال العياشي الذي قال عنه الشاوي إنه هو الذي شهر الكوراني في المغرب. ونحن نعرف من هذا الرد أن الشاوي أيضا قد زار الكوراني في المدينة وجلس إليه وعرف رسائله.
أما الشاوي فقد بدأ رسالته (النبل الرقيق) بقوله: (أيها الموفقون والعصابة المحققون، إن أهل الدين وخصوصا أهل المغرب (يعني المغرب العربي) لهم غيرة على نفي الاعتفاد في الأولياء والزهاد)، ولكن همة أهل المغرب قد تقاصرت عن ذلك بفعلة عبد الله العياشي (وهو يسميه الشيطان) الذي سكن المدينة أياما وكان جاهلا بعلم المعقول غير عالم برتبة الرسول. وأن العياشي قد تعرف على الكوراني الذي كان يظهر التصوف والتقشف وأنه قد أظهر للعياشي شيئا من علم المنطق فاغتر به ونقل أخباره إلى علماء
المغرب وشهره بينهم، وهذا في نظر الشاوي مفسد لأهل الإسلام ولا سيما المغاربة.
ولقد كتب الكوراني رسالته في أن العبد يخلق أفعاله بنفسه فكان في ذلك، في نظر الشاوي متبعا للمعتزلة في قولهم إن العبد يخلق أفعاله لأنه مستقل في إرادته وقدرته. ثم قال الكوراني أيضاء بالتجسيم حيث قال في (وجاء ربك) جاء هو ولم يؤول فيقول جاء أمر ربك. كما أنه قال بالاتحاد فزعم أن الله موجود في كل جرم. وأخيرا خلص إلى التنقيص من الرسل وذلك في مسألة الغرانيق التي حار في تخريجها العلماء. ولذلك نادى الشاوي بالحرب ضد الكوراني فقال حرفيا: (إن هذا الرجل ساب بلا شبهة في ذلك فيقتل ولا يقبل توبته إن وجد للإسلام ناصرا .. فقد جمع الاعتزال والاتحاد والتجسيم ونسبة الكفر للنبي (صلى الله عليه وسلم)، فالواجب على كل مسلم أن يأخذ بثأر الدين وبثأر النبي (صلى الله عليه وسلم) بالبيان وبالبنان وباللسان وبالسنان، أعادنا الله من بلائه) (1).
وإذا كنا لا نعجب من هذه المهاترات بين علماء الوقت واتهام بعضهم البعض بالزندقة والتقرب للملوك وبيع الضمير العلمي فإننا نعجب حقا من ضيق الأفق الذي كانوا يتمتعون به فيحكمون بالقتل على من لم يوافقهم في الرأي. وكأنهم هم الذين وضعهم الله لتنفيذ أحكامه في الأرض. ولا شك أن من أسباب تخلف المسلمين فكريا عندئذ هذه السيوف المشرعة على رقاب كل من خالف الرأي العام، وهي السيوف التي يزعم أصحابها أنهم يحاربون بها الإلحاد والزندقة والفساد.
ومن الذين ترجم لهم ابن مريم في (البستان) طاهر بن زيان الزواوي
__________
(1) لا ندري متى كتب الشاوي رده على الكوراني، ولكن البرزنجي الذي انتصر للكوراني وساق كلام الشاوي ليرد عليه كتب اعتراضه بمصر سنة 1092 ونمقه وأخرجه في نفس السنة بالمدينة المنورة، وكان ذلك قبل وفاة الشاوي بأربع سنوات (توفي سنة 1090 كما عرفنا)، ولدينا صورة من (العقاب الهاوي) المسوق فيها كلام الشاوي من مكتبة جامعة برنستون الأمريكية رقم 978، وهي في 34 صفحة.
الذي ألف عملين على الأقل في التصوف، الأول (نزهة المريد في معاني كلمة التوحيد) والثاني (رسالة القصد إلى الله). والغالب على الظن أن الزواوي، الذي يعرف أيضا بالقسنطيني، قد توفي بالمدينة، لأن ابن مريم عندما ترجم له قال عنه: (نزيل المدينة المنورة) (1).
وبالإضافة إلى ذلك ألف بركات بن باديس رسالة سماها (مفتاح البشارة في فضائل الزيارة). أظهر فيها نبوة خالد بن سنان العبسي، تمشيا مع ما ذهب إليه عبد الرحمن الأخضري قبله في قصيدته الشهيرة.
سر يا خليلي إلى رسم شغفت به ... طوبى لزائر ذاك الرسم والطلل
وقد نقل ابن باديس في رسالته عدة نقول في الموضوع، من مثل (الجمان في مختصر أخبار الزمان) للشطيبي، وقصيدة الأخصري وغيره، وأخبار خالد بن سنان من كتب المتقدمين (2). وفي نفس الموضوع ألف الشيخ علي بن مسعود الونيسي، أحد قضاة قسنطينة، رسالة جمع فيها أيضا آراء علماء المسلمين في نبوة خالد بن سنان العبسي. ومن الذين نقل آراءهم مصطفى الرماصي القلعي، وعبد الرحمن الأخضري، وعبد الله العياشي وأحمد بن ناصر الدرعي (3)، ومن جهة أخرى ألف محمد ساسي البوني عملا في الوعظ سماه (النور الوضاح الهادي إلى الفلاح) وعملا آخر في فضائل
__________
(1) (البستان) 116. توجد نسخة من رسالته باسم (رسالة الدعاء إلى الله) في المكتبة الملكية - الرباط، رقم 7426 وقد توفي طاهر بن زيان بعد 940 حسب رواية ابن مريم، وكان طاهر بن زيان من تلاميذ أحمد زروق.
(2) عثرنا على هذه المعلومات في مخطوط باريس رقم 4625، وله في التصوف أيضا قصيدة (شفاء الأسقام والتوسل ببدر التمام) و (بضاعة الفقير في البسملة والصلاة على البشير النذير). وقد توفي بركات بن باديس في بداية القرن الثاني عشر الهجري، وتوجد معلومات عنه في رحلة ابن حمادوش، كما ذكره صاحب (ذيل بشائر أهل الإيمان) حسين خوجة، وله تآليف أخرى سنذكرها.
(3) نسخة من هذه الرسالة توجد في مكتبة زاوية طولقة، حسبما أخبر به لوسياني في ترجمته للسلم، الجزائر 1921، 22 - 23، وقد توفي الونيسي سنة 1222. انظر عنه أيضا تعريف الخلف 2/ 286، والزياني (الترجمانة الكبرى) 153.
الزيارة، لا ندري موضوعه، ولعله يعني زيارة الأضرحة عامة أو زيارة قبر الرسول خصوصا.
...
أما المواعظ والأذكار فقد ألف فيها محمد بن سليمان بن الصائم، كتابا سماه (حياة القلوب وقوت الأرواح في عمارة الملوين وأوراد المساء والصباح). ألفه، كما قال، بعد أن فرغ من كتابه الآخر (كعبة الطائفين)
بحوالي عشر سنوات، في جبل بني يزناسن، سنة 1066، ويبدو أنه كان عندئذ في حالة صوفية غير عادية، لأنه قال إن الله قد فتح عليه فجمع الثمار (التي أنشأت (كذا) عن غرس هذه الأشجار)، وليس (حياة القلوب) شرحا لإحدى القصائد الوعظية، ولكنه فيما يبدو مجموعة من الفتوحات والنقول التي جادت بها قريحة ابن سليمان وهو في حالة خاصة (1)، وفي موضع مشابه نظم الشاعر الصوفي محمد بن محمد الموفق المعروف بابن حوا قصيدة سماها (الريحانة المروحة على القلوب المقترحة) وذلك سنة 1176 (2). أما ابن علي الشريف الشلاطي فقد أخبر أن من بين مؤلفاته كتابا بعنوان (في الوعظ والأذكار وحكايات الصالحين الأبرار). ومن الواضح أنه تأليف في التصوف موجه، فيما يبدو، إلى أتباع الزاوية التي كان المؤلف نفسه رئيسا لها في شلاطة (3).
وفي آداب الدين والآداب عامة ألف عبد اللطيف المسبح كتابا هاما سماه (عمدة البيان في معرفة فروض الأعيان)، وقد شرح فيه تأليفا مختصرا
__________
(1) أخذنا هذه المعلومات من نسخة باريس من كتاب (كعبة الطائفين) وهي تحمل الأرقام الآتية 4601، 4602، 4603، أي أن كل جزء له رقم خاص.
(2) انظر مارسيل بودان (مجلة جمعية وهران) 1933، 237، وقد ولد ابن حوا في مستغانم وأقام بها حوالي نصف قرن، وتوفي في أحوازها حوالي سنة 80 11.
(3) ذكر ذلك في مقدمة كتابه (معالم الاستبصار) الذي سنتحدث عنه في فصل العلوم من هذا الجزء.
لعبد الرحمن الأخضري، لأن هذا التأليف (قد اشتمل على المهم من أمور الديانات مخلص من شوائب الاختلافات، ولم نقف على من شرح من الفقهاء ألفاظه). والكتاب في آداب الدين والدنيا كالصلاة والسلام وفروض الكفاية. وكان المسبح من علماء الرياضيات أيضا. وقد فرغ من شرحه المذكور سنة 985 (1).
ولم يؤلف عبد الكريم الفكون (منشور الهداية)، فقط، بل إن له أعمالا أخرى في التصوف أيضا جديرة بالذكر، من ذلك قصيدة له في التوسل بالله سماها (سلاح الذليل في دفع الباغي المستطيل)، أولها:
بأسمائك اللهم أبدي توسلا ... فحقق رجائي يا إلهي تفضلا
ويبدو أنه استعملها كدعاء عند الشدة التي لحقته من بعض البغاة، كما أن أحذ تلاميذه، وهو محمد وارث الهاروني قد نسخها منه واعتمدها ضد عمه الذي بغى عليه واشتكى إلى الفكون منه، ويقول الفكون ان المغاربة أيضا قد استنسخوها منه (فهي شهيرة بينهم) (2). ومن جهة أخرى وضع الفكون تقييدا بعد مرض أصابه وتمكن من قلبه حوالي سنة، فكان بسببه لا ينام ويتصبب عرقا حتى أيس منه الجميع واختل شطره الأيسر. والغالب على الظن أن هذا التقييد (الذي لم يفصح عن محتواه) لا يخرج عن شكر الله والتوسل إليه. وللفكون نظم آخر سماه (شافية الأمراض لمن التجأ إلى الله بلا اعتراض) وهو النظم الذي سماه أيضا (العدة في عقب الفرج بعد الشدة) وأوله:
بك اللهم مبدي الخلق طرا توسلي ... وفي كل أزماتي عليك معولي
وهو من نوع الأول في التوسل إلى الله بالرسول (صلى الله عليه وسلم) وبأصحابه والتابعين والفقهاء والأولياء.
__________
(1) رأينا منه نسخة في مكتبة زاوية طولقة، وهي تقع في حوالي مائة ورقة غير مرقمة، انظر أيضا الفكون (منشور الهداية)، ترجمة عبد اللطيف المسبح، ولعل مختصر الأخضري هذا هو الذي شرحه أيضا الفكون، انظر الفصل السابق، فقرة الفقه.
(2) (منشور الهداية) 241 - 242، لم يذكر الفكون من هم المغاربة الذين أخذوها عنه، والمعروف أن العياشي قد تتلمذ عليه وانتظم في طريقته وحج معه.
ولعل أهم عمل كتبه الفكون في هذا الباب هو ديوانه الذي خصصه لمدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فقد نظم عدة قصائد في هذا المعنى ورتبها على حروف الهجاء، مضمنا كل حرف من الحروف حروفا تقرأ من أول كل بيت في الحرف فإذا جمعت يخرج منها (اللهم اشفني بجاه محمد، آمين) (1)، وهو الديوان الذي رآه العياشي المغربي وأخبر أن الفكون قد كتب عليه ما يمدح به عند الغمة، وساعة الغياهب المدلهمة، والتزم فيه أن يجعل مبدأ كل سطر حرفا من حروف: الهي بحق الممدوح اشفني، آمين، وقال العياشي إن جملة ذلك خمس وعشرون حرفا من كل قصيدة مثلها أبيات، فقافية الهمزة مثلا تذهب هكذا:
أبدرا بدرت في الخافقين سعوده ... ونورا به الأكوان أضحت تلألأ
له في العلى أعلى العلى رتبة وفي ... مراقي ذرى العرفان قدما مبوأ
أضاء وجود الكائنات ببعثه ... وطلعته الغرا من الشمس أضوأ
إلى أن يصل إلى خمسة وعشرين بيتا في حرف الهمزة، ونفس عدد الأبيات في حرف الباء، ومثله في كل حرف من الحروف الهجائية. وقد أخبر العياشي أيضا أن الفكون قد انتهى من هذا الديوان سنة 1031 (2)، أي عندما كان عمره ثلاثا وأربعين سنة. فمساهمة الفكون في باب التصوف إذن مساهمة كبيرة، سواء نظرنا إليه كمنتج أو ناقد لأصحابه.
وحوالي سنة 1040 أكمل أبو الحسن علي بن عبد الرحمن البجائي شرح رسالة في التصوف سماها (محجة القاصدين وحجة الواجدين). شرح به رسالة عبد العزيز المهدوي المسماة (الرسالة المحتويه على إشارات أهل الدلالة). ورتب الشرح على مقدمة جعلها فيما ينبغي أن يكون عليه طالب طريق القوم، وأربعة أقسام، الأول في كلام الشيخ عبد العزيز المهدوي،
__________
(1) (منشور الهداية).
(2) رحلة العياشي 2/ 391. وتوجد نسخة من هذا الديوان في المكتبة الوطنية - تونس. انظر كتابنا (شيخ الإسلام).
والثاني في بيان بعض كلام العارفين. والثالث في شرح بعض الأحاديث النبوية المتصلة بالموضوع، والأخير في شرح بعض الآيات أيضا (1)، وقد أجهد علي البجائي نفسه في هذا العمل حتى وصل في الشرح إلى 179 ورقة، ورغم أننا لا نعرف له أعمالا أخرى في هذا الباب فإنه بهذا العمل قد برهن على اتقان صناعة التأليف في التصوف ومستلزماتها.
أما عبد الله بن عزوز التلمساني المعروف أيضا بالمراكشي السوسي، فقد ألف تقييدا في التصوف بعنوان (تنبيه التلميذ المحتاج) وهو في الجمع بين الشريعة والطريقة والحقيقة (2)، ويبدو من العنوان أن ابن عزوز كان من أنصار الجمع بين التصوف والفقه أو من الذين يجمعون بين علم الظاهر وعلم الباطن، ومما جاء في مقدمته قوله: (وبعد فقد اختلج في صدري أن أصنف هذا الكتاب في الجمع بين الشريعة والطريقة والحقيقة وفي الرد على من أحدث فيها ما ليس منها على مذهب الصوفية .. فإن أعظم العلوم مقاما .. هو العلم الجامع بين الشريعة والطريقة والحقيقة الكفيل بأسرار اللهوت، والكاشف عن أسرار الجبروت ..) وقد جعله في سبعة فصول هي:
1 - في فضائل العلم بالشريعة.
2 - في فضائل العلم بالطريقة.
3 - في فضائل العلم بالحقيقة. .
4 - في الرد عل من بدع في الشريعة ما ليس فيها من أقوال وأفعال وأحوال.
5 - في الرد على من بدع في الطريقة ما ليس فيها.
6 - في الرد على من بدع في الحقيقة ما ليس فيها.
7 - في صفة أخلاق الجامع بين الشريعة والطريقة والحقيقة وأقواله وأفعاله وأحواله (3).
__________
(1) المكتبة الوطنية، تونس.
(2) رأينا ذلك في مكتبة زاوية طولقة، ولم يذكره له بروكلمان.
(3) المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 2146 مجموع فرغ منه مؤلفه سنة 1188، وهو في حوالي 55 ورقة.
ولابن عزوز أيضا مؤلفان آخران حول نفس الموضوع تقريبا أولهما سماه (إظهار البدع وأرهاط المبتدعة)، وقد نادى فيه بنبذ البدع والعودة إلى الكتاب والسنة. وقال: (إن البدع في هذا الزمان لا نهاية لها، لكنهم (كذا) منحصرون في اثنين وسبعين بدعة، وكل بدعة عملت فرقة وافترقت بهذه الأمة على اثنين وسبعين فرقة كلهم ظالمين مضلين يدعون إلى النار، وأصل هذه البدع هم أربعة طوائف: طائفة بعض المؤلفين وطائفة الفقراء المدعون (كذا) الولاية بالوهم وطائفة الملوك المتجبرين، وطائفة القضاة الباغون (كذا)). ثم أوضح ما ابتدعته كل طائفة بالتفصيل وأنكر عليهم أفعالهم جميعا (1).
أما مؤلف ابن عزوز الثاني فهو (نور الحياة فيما يجب للخالق على المخلوقات وفي كيفية النظر والتفكير في خلق الأرض والسماوات). وقد جاء فيه (وبعد فإن أعظم العلوم مقاما .. هو العلم بما يجب لله الخالق البديع على مخلوقاته ومصنوعاته. وقد اختلج في صدري وخطر في روعي أن أصنف هذا الكتاب. وأجعله ثلاثة أبواب وإحدى وعشرين فصلا، في كل باب سبعة فصول). والأبواب الثلاثة هي:
1 - في معرفة الله الخالق البديع.
2 - في عبادة الله التي تجب للخالق.
3 - في كيفية النظر والتفكر في مصنوعات الصانع، وأهم نقاط الكتاب هي: عقائد العامة، وعقائد الخاصة، وعقائد الأولياء، ثم عقائد خاصة الخاصة ثم الشهادتان والصلاة والزكاة والجهاد والتفكر في الروح والنفس، وصورة الإنسان .. الخ (2).
__________
(1) نفس المصدر، وقد فرغ منه سنة 1182، وهو في 35 صفحة وتوجد معه ترجمة بالفرنسية في الهامش.
(2) نفس المصدر، ويقع في 46 ورقة وقد أنهاه صاحبه سنة 1191، وله عمل آخر في نفس المجموع يسمى (المختصر الأزهر في فضل العلم والعمل وما ينفع منهما وما يضر).
وقد عد له بروكلمان ثلاثة مصنفات أخرى في التصوف وهي: (لباب الحكمة) الذي تناول فيه علم الحروف وأسماء الله الحسنى، و (الأجوبة النورانية)، و (أثمد البصائر في معرفة حكم المظاهر). وذكر له بروكلمان أيضا كتابا آخر مرة في باب الطب ومرة في باب التصوف وهو (ذهاب الكسوف ونفي الظلمة في علم الطب والطبائع والحكمة) (1)، ومن هذه الكتب ندرك أن ابن عزوز كان ماهرا في عدة علوم، وليس في التصوف وحده.
وهذا الموضوع (الجمع بين التصوف والطب) قد عالجه أيضا أحمد بن ساسي البوني ومحمد بن أحمد الشريف الجزائري. وليس من سبيل هنا لإحصاء كتب البوني التي تعالج هذا الموضوع، فقد عرفنا أن مؤلفاته تزيد على المائة في مختلف العلوم، وحسبنا الإشارة إلى ما اطلعنا عليه. فقد ألف عملا سماه (إعلام أهل القريحة في الأدوية الصحيحة) وآخر سماه (مبين المسارب في الأكل والطب مع المشارب) وسنعود إلى هذين الكتابين في فصل العلوم، أما ما يعنينا منه هنا فهو كتابه (تلقيح الأفكار بتنقيح الأذكار) ويبدو أن هذا هو جزء فقط من عمل آخر له اسمه (حط الوراد على حب الأوراد) (2). وللبوني أيضا كتاب في التصوف سماه (المجالس) وهو عبارة عن واحد وخمسين مجلسا للوعظ والارشاد، وكل مجلس يبدأ هكذا. (الحمد لله الذي ..) وفي النص تتكرر عبارة (إخواني)، وفيه أشعار يبدو أنها للمؤلف مسوقة للتسلية أيضا والعبرة، والنص مسجع في أغلبه، وفي الكتاب حكايات وأمثال وأدعية، وفيه ينهى المؤلف عن شرب الخمر والدخان ومجالس اللهو واتباع الهوى. وقد عرض فيه بالعثمانيين وميلهم إلى المجون والعبث حيث ذكر أن بعض الشباب قد خرجوا من (دار بعض الأتراك وهم سكارى يتمايلون وقد خلعت عنهم خلع الأستار) (3).
__________
(1) بروكلمان 2/ 704، وأيضا 713.
(2) بروكلمان 2/ 715، والأخير يوجد في ميونيخ رقم 175، أما (تلقيح الأفكار) فتوجد منه نسخة بالخزانة العامة بالرباط، رقم 1860 د مجموع.
(3) المكتبة الوطنية، تونس رقم 918، والكتاب في 198 ورقة من الحجم الصغير، =
أما محمد بن أحمد الشريف الجزائري فقد عالج موضوع الطب والتصوف من خلال الحديث النبوي على الخصوص، فهو الذي ألف (المن والسلوى في تحقيق معنى حديث لا عدوى). ولكن معظم مصنفاته الأخرى تعالج موضوع التصوف والفقه. من ذلك (الدر المعنوي في شرح حزب النووي). وقد اشتمل الحزب على أذكار وأدعية. وقدم محمد الجزائري إلى شرحه بثلاث فوائد الأولى في آداب الذكر والدعاء، والثانية في فضائلهما، والثالثة في التعريف بمؤلف الحزب، ووعد أنه سيجعل نص الحزب في متناول الناس بعدما أصبح غامضا عند البعض. وقد ختم عمله بهذا الدعاء الذي كان يعرض فيه بما كان يجري في وقته، والذي قال إنه مناسب (لدفع ما حدث في هذه الأيام من الكدر). والدعاء هو (اللهم استر عوراتنا، وأمن روعنا، اللهم منزل الكتاب، مجرى السحاب، هازم الأحزاب، اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم .. اللهم إنا نعوذ بك من أن يفرط علينا أحد أو يطغى) (1) الخ، ومن مؤلفات محمد الجزائري في التصوف أيضا (استجلاب المسرات بشرح دلائل الخيرات) و (تعمير الوقوت بسمع ما قيل في دعاء القنوت)، وله في هذا المعنى حوالي عشرة مؤلفات بين مختصر ومطول ذكرها في إجازته التي أتينا عليها (2).
وهناك محمد بن سعيد الهبري الذي كتب (أجوبة ورسائل ونصائح وتفسير بعض كلام الأيمة وتفسير ما أشكل من كلام أهل الحقيقة). وكان
__________
= وليس عليه اسم المؤلف وإنما أضيف له اسم (البوني) فقط، وقد رجحنا كونه لأحمد البوني المتوفى سنة 1139، ولكن ناسخه، وهو عبد الرحمن بن محمد الكومي الشهير بشريط، نسخة سنة 1039 (؟) وهذا يوافق عهد محمد ساسي البوني، جد أحمد البوني.
(1) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2206 مجموع، والشرح في حوالي 9 ورقات.
(2) ذكر محمد بن عبد الكريم (مخطوطات) 48، أن استجلاب المسرات (وسماه سجلات المسرات) يبلغ 368 صفحة، وعن إجازته المذكورة انظر الفصل الأول من هذا الجزء.
الهبري قد ولد بمستغانم ورحل إلى المغرب وتونس وطرابلس بحثا عن صاحب الوقت. وأدركته الوفاة بطرابلس سنة 1093. والظاهر أن الهبري كان يبحث عن ضالته الصوفية خارج الجزائر. وما زلنا لم نطلع على عمله المذكور لنعرف منه مستواه الثقافي وأهدافه العلمية (1).
ولابن الترجمان رسالة في فضل الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم). وهي بدون عنوان ومرتبة على أبواب وفصول مثل باب في الصلاة عليه، وباب في محبته، وباب في حياته الخ. وينقل حمدان بن الترجمان عن مشائخ من المغرب والمشرق. ومن مشائخه الجزائريين بركات بن باديس القسنطيني الذي يسميه (شيخنا) وأحمد بن ساسي البوني، وهو ينقل خصوصا من كتاب شيخه البوني (تلقيح الأفكار)، الذي أشرنا إليه، كما ينقل عن زعيمي مدرسة التصوف والزهد في الجزائر: محمد بن يوسف السنوسي وعبد الرحمن الثعالبي (2)، كما قام أحمد بن مزيان بوضع رسالة في الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) حاز بها، كما يقول الورتلاني (قصب السبق)، كما خمس البردة، وكان صوفيا متمكنا.
وقد حشا الورتلاني رحلته بأحاديث طويلة عن التصوف وأهله، سواء في جولاته بالجزائر أو في تنقلاته في المشرق، وبالإضافة إلى ذلك ألف الورتلاني عدة تآليف تضمنت معلومات طيبة عن التصوف، من ذلك شرحه على القدسية الذي أشرنا إليه في الشروح، وتأليفه المسمى (شوارق الأنوارفي تحرير معاني الأذكار) (3)، وللورتلاني أيضا رسالتان أشار إليهما في
__________
(1) انظر المكتبة الوطنية تونس (حسن ح. عبد الوهاب) رقم 18065 مجموع من ورقة 124 إلى 175. وعن حياة الهبري انظر أحمد التائب الأنصاري (نفحات النسرين والريحان فيمن كان بطرابلس من الأعيان). ط بيروت 1963. ذكره أيضا محمد أبو راس في (فتح الإله).
(2) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2291، والرسالة بخط جيد وعبارة مرسلة وليس لها تاريخ ولا اسم ناسخ.
(3) مكتبة تطوان (المغرب)، مجموع رقم 155.
الرحلة، الأولى في قول بعض الأولياء (وقفت على ساحل وقفت الأنبياء دونه) المنسوب لأبي الحسن الشاذلي والثانية في قول بعض الأولياء أيضا (نسجت برنسا من ماء) المنسوب لأحمد بن يوسف الملياني، ومن جهة أخرى ذكر الورتلاني في الرحلة أنه بينما كان في المدينة المنورة طلب منه الشيخ عبد الكريم السمان كتابة شرح على صلاة وضعها، وقد قام الورتلاني بهذه المهمة (1). يضاف إلى ذلك مدائح الورتلاني النبوية مثل قصيدته الميمية التي بلغ فيها خمسمائة بيت، وتشطيره لبردة البوصيري، وهكذا أسهم الورتلاني في ميدان التصوف تأليفا وسلوكا، وقد عرفنا أنه كان صاحب كلمة مسموعة في قومه وأنه كان يعتبر نفسه من الأشراف الواضحين.
أسهم محمد بن عبد الرحمن الأزهري الجرجري بدوره في إعلاء صرح التصوف في الجزائر، كما أسهم أتباعه في ذلك بالتأليف ونحوه. ومن أعمال الأزهري شرحه على رسالة عبد الله الرفاعي المسماة (قوته قولي) (2). وقد أشرنا إلى رسائل الأزهري عن التصوف التي أرسلها من القاهرة إلى تلاميذه وأتباعه، وهي رسائل عن أهل الدائرة وأهل التصريف والغوث ومراتب القطابة، الخ .. وهذه الرسائل تشتمل أيضا على بعض رسائل أصحابه الموجهة من أسرة أولاد عزوز بتونس وأولاد علي بن عمر بالجزائر (3)، وقد ألف مقدمو الطريقة الرحمانية وزعماؤها أعمالا في التصوف أيضا. من ذلك أرجوزة الشيخ محمد بن عزوز البرجي، التي شرحها بنفسه وسماها (رسالة المريد)، ورسالة الشيخ علي بن عمر الطولقي المعروفة باسم (فاكهة الحلقوم في نبذة قليلة من أحوال القوم) (4). كما أن عبد الرحمن باش تارزي، مقدم
__________
(1) (الرحلة) 530. انظر أيضا الرحلات الجزائرية الحجازية في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).
(2) الخزانة العامة - الرباط، 1669 د مجموع.
(3) هذه الرسائل في الخزانة العامة بالرباط، رقم ك 956. انظر أيضا بروكلمان 2/ 704.
(4) توجد ضمن رسائل محمد بن عبد الرحمن الأزهري، الخزانة العامة - الرباط، رقم =
الطريقة الرحمانية وقاضي قسنطينة، قد نظم قصيدة في التصوف (1)، أوضح فيها مبادئ وقواعد الطريقة الرحمانية، وهذه القصيدة، التي تعرف (بالمنظومة الرحمانية)، هي التي شرحها ابنه مصطفى باش تارزي.
وكثرت الرسائل الصوفية مع أوائل القرن الثالث عشر (19 م) على يد العلماء ورجال الطرق بعد أن غني هذا الاتجاه بانتشار طريقتين جديدتين هما الرحمانية والتجانية، وبعد ثورة الطريقة الدرقاوية، كما أن أتباع الطريقة الحنصالية والزيانية والقادرية قد نشروا قواعدهم وعقائدهم في رسائل وقصائد وكتب صوفية، وليس بوسعنا هنا الإلمام بكل ذلك وضرب الأمثلة عليه، ومن المعروف أن الشيخ محمد بن عبد الله الزجاي قد اعتنق طريقة الجنيد في فاس وأنه ألف عدة كتب في التصوف منها (المرائي المكية في آداب الطريق والأدعية)، وتأليف آخر في شرح أسماء الله الحسنى (2). وتنسب إلى المفتي محمد بن الشاهد قصيدة توسلية (وقد كان شاعرا مجيدا) مطلعها: بأسمائك الحسنى فتحت توسلي ... ومنك رجوت العفو اسمى مطالبي ويمكن أن نضيف إلى هذا الموضوع القصائد التي رثي أو مدح بها أصحابها الأولياء والصلحاء والتوسل بها، وفي هذا الباب نذكر قصيدة محمد بن أحمد بن مالك في رثاء الثعالبي: أيا جيرة حلوا بخير مقام ... لكم قد سما قلبي وطاب مقامي (3)
__________
= ك 956. وقد توفي الشيخ علي بن عمر سنة 1260 أما عن أرجوزة البرجي وشرحها فانظر (تعريف الخلق 2/ 475)، وهي في أصول الطريقة.
(1) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2217 في ورقتين، وهي التي نشرها عبد الحميد بن باديس 1341، وقد توفي الناظم سنة 1221.
(2) (إتمام الوطر في التعريف بمن اشتهر) مخطوط باريس.
(3) بعض هذه القصائد في مخطوط رقم 49 بجامع مدينة البرواقية (الجزائر)، وعن حياة ابن الشاهد انظر بوراس (فتح الإله)، وب، فانسان في (المجلة الآسيوية) ديسمبر، 1839، 503، حيث أورد له قصيدة في بكاء الجزائر بعد سقوطها في يد الفرنسيين، كما توجد أخباره في الأرشيف العثماني الجزائري. انظر دراستنا عنه لاحقا.
ومن الواضح أن إنتاج الجزائريين في التصوف، بجميع فروعه وفنونه، لو جمع ودرس لجاء في مجلدات، ويظهر أن بعض هذا الإنتاج قد تناول قضايا التصوف العامة، كما عرفها العالم الإسلامي على اتساع أطرافه، وبعضه قد تناول قضايا إقليمية خاصة كأصول بعض الطرق وتصرفات بعض المتصوفة، والتأليف في بعض الأولياء والصلحاء، ولكن الجميع يكشف عما وصل إليه الفكر الجزائري الفلسفي والصوفي خلال العهد العثماني، ونود أن نلاحظ من جهة أخرى أن الإنتاج الذي تناول التصوف من الناحية الفلسفية وعلاقته الخاصة بالتشريع والفقه، وبالعلوم الدنيوية، يعتبر إنتاجا قليلا، ومهما كان الأمر فإن علاقة التصوف والتوحيد علاقة وطيدة بالمنطق أيضا، ولذلك يجب أن نعالج هذه النقطة الآن.
المنطق:
إذا حكمنا على إنتاج الجزائريين في علم المنطق مما وجدنا لهم منه فإنه إنتاج قليل بل نادر، فباستثناء عمل علماء القرن التاسع (15 م)، أمثال ابن القنفذ والسنوسي والمغيلي فإن ما بقي منسوبا إلى علماء العهد العثماني يكاد يعد على أصابع اليد الواحدة، وفي نظرنا أن هذا النقص في علم هام كعلم المنطق، يعود إلى سببين رئيسيين الأول صعوبة هذا العلم، لأنه يتطلب الاطلاع الواسع على كتابات الأولين والأجانب والإضافة عليها ونقدها، ولثاني طغيان علم التصوف على الجزائريين، كما رأينا، وهو علم حدا بأصحابه، ولا سيما الذين بالغوا فيه، إلى الاكتفاء بعلوم الباطن واعتبار علم المنطق من علوم الظاهر التي قد تؤدي إلى الكفر والإلحاد والزندقة. حقا ان بعض المدرسين قد اشتغلوا بالمنطق كسعيد قدورة، كما اشتغل به بعض العلماء أمثال ابن حمادوش، ولكن قيمة علم المنطق ظلت مجهولا أو معدومة إلى جانب قيم العلوم الأخرى، والغريب أن بعض العلماء قد غلب عليهم المنطق وادعوا التفوق فيه، كما أخبر بذلك عبد الكريم الفكون عن
الشيخ علي الغربي بقسنطينة في القرن العاشر (16 م)، ومع ذلك فقد كان علي الغربي من المفتين والقضاة وأهل الشورى (1)، وقد سبق القول إن يحيى الشاوي قد اضطر إلى مماشاة شيخه عيسى الثعالبي عدة مراحل حتى يتعلم عليه علم المنطق إلى أن حذقه عليه (2).
ويعتبر عبد الرحمن الأخضري أبرز من ألف في المنطق خلال العهد العثماني، ولم تقتصر شهرة الأخضري على تأليفه هو، نظما وشرحا، ولكن على ما جذب إليه من اهتمام العلماء الآخرين لشرح ودراسة عمله في المنطق، وقد ظلت أعمال الأخضري في هذا الميدان حية ومدروسة إلى هذا القرن، ومن جهة أخرى كان عمل الأخضري في المنطق موضع اهتمام علماء المسلمين في المغرب والمشرق والسودان والهند، كما أنه من الأعمال المطبوعة المتداولة، ومن الواضح أن الأخضري يجيد علم المنطق ولكنه نجح في اختصار قواعده وتوضيحها في متنه المعروف بـ (السلم المرونق)، وفي شرحه الوافي والسهل عليه وهو الشرح الذي أصبح عمدة الأستاذ والتلميذ على حد سواء، وهكذا نجد أنفسنا أمام عمل خالد فرض نفسه على الدراسات المنطقية حوالي أربعة قرون، ومن أواخر من ترجمه ودرسه وقدمه للقراء الأجانب، المستشرق الفرنسي لوسياني في أوائل هذا القرن (3).
نظم الأخضري وشرح (السلم المرونق) وهو ابن إحدى وعشرين سنة فقط، حسب قوله:
ولبني إحدى وعشرين سنة ... معذرة مقبولة مستحسنة
__________
(1) (منشور الهداية) 29.
(2) (خلاصة الأثر) 3/ 241.
(3) لوسياني (السلم)، الجزائر، 1921. وتوجد نسخة من مخطوط السلم في المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2062، انظر أيضا رقم 2144, 2145، أما المطبوع فنذكر شرح الدمنهوري عليه، القاهرة سنة 1896 مع شرح الأخضري وتعاليق لبعضهم، وكذلك شرح محمد البناني، القاهرة 1901، مع شرح قدورة. كما طبع منه شرح الباجوري وشرح الملوي، الخ.
وبلغ الرجز وحده مائة وثلاثة وأربعين بيتا، وأوضح فيه أن دراسة المنطق قد تتناقض في الظاهر مع دراسة الدين، ولكنه دافع عن ذلك وأثبت أن لا تعارض ولا تناقض، رغم أن دراسة غير الحذر قد يؤول به الأمر إلى الشك. وقسم الأخضري المعرفة إلى قسمين معروفين: التصور والتصديق، والفكرة البسيطة المدركة بالبداهة والفكرة المعقدة التي لا تدرك إلا بعد استعمال العقل والنظر، وقد نجح في توضيح أسباب الخطأ في التعليل وغير ذلك من القضايا المتصلة بهذا العلم، ولأهمية السلم قارنه لوسياني (بحديقة الجذور الإغريقية) (Jardin des racines Grecques) لكلود لانسلو، كما قارنه حاجي خليفة بعمل إيساغوجي (1).
وقد تبارى العلماء في شرح السلم والتعليق عليه، من ذلك شروح إبراهيم الباجوري، ومحمد الأنبابي، ومحمد البناني وسعيد قدورة، والذي يهمنا الآن هو الشرح الأخير، ويعتبر بعضهم أن قدورة تتلمذ على الأخضري، وهو بعيد، لأن المشهور أن الأخضري قد توفي سنة 953 عن اثنين وثلابين سنة، بينما توفي قدورة سنة 1066. (ونحن لا نعرف تاريخ ميلاده، ولكنه بدون شك كان أواخر القرن العاشر)، فالأخضري كان، كما يغلب على الظن شيخ شيوخ قدورة، كما أنه كان شيخ شيوخ عبد الكريم الفكون (2).
وعلى كل حال فقد عمد قدورة إلى وضع حاشية على السلم بدأها هكذا (الحمد لله الذي علم الإنسان من حقائق التصورات ما لم يكن يعلم، وأطلعه على دقائق التصديقات الموصلة إلى طريقة الرشد)، وكان قدورة، الذي عرفنا أنه كان من علماء الظاهر والباطن، يمهد بذلك لإقناع من قد
__________
(1) لوسياني، (السلم) 6.
(2) ذهب صاحب (العقد الجوهري)، أحمد بن داود إلى أن قدورة والفكون من تلاميذ الأخضري، وهو خطأ (ولد الفكون سنة 988 وتوفي سنة 1073)، اللهم إلا إذا كان يقصد الفكون الجد، (العقد الجوهري). انظر الشك في تاريخ وفاة الأخضري سابقا.
يعترض على التأليف في علم المنطق، فقد برر عمله بأن الأخضري في شرحه على السلم قد أغفل بعض الأمور التي يجب التنبيه عليها. وبكل تواضع قال قدورة إن عمله لا يعدو أن يكون (مضافا لشرح المصنف (الأخضري) كالتذييل لما أغفله الناظم في شرحه، مظهرا لمقاصده، ومستخرجا، بعض فوائده)، وسار قدورة في شرحه هذا على النهج الذي سلكه في شروحه الأخرى الفقهية وغيرها في تفسير ألفاظ المتن والاستشهاد لذلك بالقرآن والحديث والأشعار، ثم تفسير الألفاظ بلاغيا ونحويا، وأخيرا تفسير المعاني المقصودة من وضع التأليف كله، وهو ينقل في ذلك عن سابقيه أمثال السنوسي والمغيلي وسعيد العقباني (1) وجاء في رحلة ابن زاكور أن أبا عبد الله بن خليفة له شرح أيضا على سلم الأخضري (2).
وبعد حوالي قرن من وفاة قدورة جاء عبد الرزاق بن حمادوش لا ليشرح السلم ولكن ليعود إلى مختصر السنوسي في المنطق ويشرحه، وقد سمي ابن حمادوش عمله بـ (الدرر على المختصر). وهو يقع، كما أخبر بنفسه، في حوالي تسع وسبعين ورقة، (ثماني كراريس). وقد أشاد به واعتبره من أهم تآليفه، وكان ابن حمادوش قد قرأ، عندما كان في المغرب، مختصر السنوسي في المنطق على الشيخ أحمد بن المبارك وأجازه به، كما أنه قد صححه في الجزائر على العالم المغربي أحمد الورززي عند زيارة هذا للجزائر سنة 1159، وقد أعطاه الورززي شهادة بذلك تدل على براعة ابن حمادوش في معالجة هذا الموضوع، وشهد لابن حمادوش على ذلك أيضا عدد من علماء الجزائر منهم عبد الرحمن الشارف وأحمد بن عمار، وكان ابن عمار معروفا بعلمه ومروءته، وعند تقريظه لكتاب (الدرر) أعلن ابن عمار أنه كتاب صغير الحجم كثير الفائدة وأجاز قراءته وشجع عليه، وكان تقريظه له شعرا ونثرا:
__________
(1) النسخة التي اطلعنا عليها من حاشية قدورة على السلم توجد في المكتبة الملكية - الرباط، رقم 6906، وهي متآكلة الأطراف وتقع في 25 ورقة.
(2) (رحلة ابن زاكور)، 31.
هنيئا هنيئا أيا مختصر ... بشرح بديع جموع أغر
وكان ابن حمادوش قد اعتز بهذه الآراء وسجلها في رحلته بشيء من الإعجاب (1).
ومن أواخر من ألف في المنطق في العهد العثماني، أبو راس الناصر، وعبد العزيز الثميني، فقد ذكر أبو راس أن له شرحا على سلم الأخضري سماه (القول المسلم في شرح السلم)، ولعل له غيره في المنطق أيضا. فقد كان عالما بشؤون الدين والدنيا كما عرفنا، وذكر في رحلته (فتح الإله ومنته) تآليفه مبوبة، واطلعنا على ذلك وسجلنا له الكتاب المذكور في المنطق، غير أنه لا يستبعد أن يكون له غيره مما لم نسجله (2). أما الثميني فقد وضع شرحا على (مرج البحرين) لأبي يعقوب يوسف بن إبراهيم الورجلاني. وقد سمي الثميني شرحه (تعاظم الموجين في شرح مرج البحرين) (3)، وقد بدأ شرحه بهذه العبارة الهامة كفاتحة (نحمدك يا من نطقت بآيات وجوب وجوده أجناس الكائنات ..) وقد عرفنا أن كلا من أبي راس والثميني لم يكونا من علماء التصوف، وهذا يتماشى مع اهتمامهما بعلم المنطق.
__________
(1) حققنا رحلة ابن حمادوش، وطبعت في الجزائر، 1983.
(2) أبو راس الناصر (فتح الإله ومنته)، الخزانة العامة - الرباط، رقم ك 2263، ك 2332. وقد طبع هذا الكتاب بعد تحقيقه محمد بن عبد الكريم.
(3) دار الكتب المصرية، رقم 2751، والنسخة في 115 ورقة.
الفصل الثالث
علوم اللغة - النثر الفني
نتناول في هذا الفصل ثلاثة أقسام، الأول علوم اللغة من نحو وصرف وفقه لغة، ثم العروض والبلاغة ونحو ذلك، وفي القسم الثاني منه ندرس فنون النثر الأدبي من رسائل ومقامات وخطب وتآليف أدبية، أما القسم الأخير فسنترجم فيه لأحمد المقري وأحمد بن عمار.
علوم اللغة ونحوها
رغم أن الجزائريين لم يؤلفوا كثيرا في علوم اللغة فإنهم اهتموا بالنحو خصوصا وتركوا لنا إنتاجا طيبا فيه، ومنذ يحيى بن معطي الزواوي تركزت العيون على زواوة باعتبارها مدرسة هامة لعلم النحو (1). ثم جاء أبو جميل زيان بن فائد الزواوي القسنطيني فتقدم بالدراسات النحويه أشواطا عريضة، كما عرفنا (2). وبالإضافة إلى زواوة اشتهرت زاوية خنقة سيدي ناجي بالنحو حتى أن الورتلاني روى في رحلته أن النحو كان يعتني به هناك الكبير والصغير واشتهروا به (اشتهارا بينا) (3)، وقد حاول الورتلاني أن يردهم إلى دراسة التوحيد وينصحهم بعدم التركيز على النحو، ولكنهم ناقشوه وحاجوه في ذلك، وعرف علماء الجزائر بحفظ متون النحو وبعض الشروح وإدراك
__________
(1) انظر عن يحيى بن معطي بغية الوعاة للسيوطي، وابن خلكان، وقد توفي ابن معطي في القاهرة سنة 628. ومن أشهر آثاره (الألفية في علم العربية)، وفي سنة 1972 وضع الطاهر الطاهي المغربي رسالة ماجستير عن ابن معطي مع تحقيق كتابه (الفصول الخمسة) وناقشها في معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة.
(2) انظر عنه الفصل الأول من الجزء الأول.
(3) الورتلاني (الرحلة) 119.
مسائلها عن ظهر قلب حنى أصبحوا لا يعانون في ذلك رهقا ولا مشقة، فهذا ابن مريم يخبر عن محمد الحاج المناوي (ت 955) انه كان يقول (ألفية ابن مالك عندنا كخبر الجلوس) فهي عنده محفوظة معروفة يتحدثون بها في المجالس ويتنادرون، لذلك طلب المناوي من تلاميذه أن يكون اهتمامهم بما هو أرفع من ذلك، لأن المعلومات التي يمنحها لهم في النحو إنما جاءت نتيجة جهود أخرى مضنية ومطالعات مستقصية، فكان يقول لهم (هذا الذي نملي عليكم مطالعة أربعين سنة) (1)، وضرب ابن حمادوش في رحلته مثلا لبعض الطلبة، محاولا إقناعهم بضرورة تعلم الحساب والنحو، بأن أهل تونس وأهل الأندلس كانوا يبدأون أولادهم بتعليم هذين العلمين (ليذوقوا لذة العلم)، فالنحو والحساب عند ابن حمادوش من العلوم التي تفتح شهية التلاميذ لأنها من العلوم العقلية.
وقد اشتهر بعض الجزائريين بالدراسات النحوية، ومن هؤلاء يحيى الشاوي وعبد الكريم الفكون ومحمد بن راشد الزواوي وعاشور الفكيرين القسنطيني (2)، فقد ترك يحيى الشاوي أربعة تآليف على الأقل في النحو، كما سترى، وترك الفكون نحو ذلك، أما ابن راشد والفكيرين فلا نعرف لهما تأليفا فيه ولكنهما اشتهرا بتدريسه، ومن أبرز الأساتذة الواردين على الجزائر من المغرب والذين تركوا بصمات قوية في الاهتمام بعلم النحو. محمد التواتي. فقد حل هذا الشيخ بقسنطينة أوائل القرن الحادي عشر (17 م)، وكان قد تخرج من فاس واشتهر بها في النحو حتى كان يلقب بسيبويه زمانه. وجلس في قسنطينة للتدريس فترة طويلة وورد عليه الطلاب من زواوة وعنابة والزيبان ونقاوس ونحوها، ومن أبرز تلاميذه محمد بن راشد الذي جاء من زواوة ليدرس عليه، فقرأ عليه كتاب (المرادي) حتى أتقنه، وبعد التخرج جلس ابن راشد للتدريس أيضا في قسنطينة فكان يدرس لطلابه كتاب
__________
(1) (البستان) 266.
(2) اشتهر الفكيرين في النحو والصرف والرحلات، وسندرسه في فصل التاريخ والرحلات.
(التوضيح) الذي كان مشهورا في زواوة شهرة واسعة ويعتنون به قراءة وإقراء، كما يقول الفكون، وقد جمع ابن راشد (تقاييد) على الشيخ التواتي من تقريره أثناء الدرس وربما زاد عليها بعض المسائل من ابن بابشاذ وغيره من النحاة، ولكننا لا ندري إن كان ابن راشد قد نسق كل ذلك ووضعه في شكل كتاب. وعاد ابن راشد إلى زواوة وأخذ يدرس هناك النحو على الأجرومية وعلى المكودي (1).
وتظهر أهمية التواتي وابن راشد في تخريج أحد كبار النحاة الجزائريين، وهو عبد الكريم الفكون، فقد درس الفكون أيضا على التواتي علم النحو وتأثر به كثيرا، وهو يظهر إعجابه به عند ترجمته لشيخه، وكان التواتي قد خرج من قسنطينة خائفا من الظلمة، واستقر به المقام في باجة بتونس حيث توفي بالطاعون سنة 1031. ويبدو أن تأثير ابن راشد على الفكون كان قويا أيضا، فقد ذكر الفكون أنه كان حديث العهد وصغير السن عندما بدأ يتعلم النحو على التواتي فرأى إجادة ابن راشد للنحو ومناظرته لتلاميذ التواتي فيه وتفوقه عليهم فانقاد إليه وأصبح من الراغبين في التعمق في هذا العلم، ويحدثنا الفكون عن أن ابن راشد هو الذي شجعه على ذلك وأقرأه وقدمه على التلاميذ الآخرين حين أعطاه في الدرس كتاب (التوضيح) الذي كان يقرئه ليسمعه، وذلك لفصاحة لسانه وحسن صوته. وهناك شخصية أخرى كان لها أثر في تعلق قلب الفكون بعلم النحو، وهو إبراهيم الفلاري التونسي، وإذا كان تأثير ابن راشد والتواتي عن طريق التلمذة والاحترام فإن تأثير الفلاري كان بطريق المنافسة والتعجيز. فقد زار الفلاري قسنطينة ذات مرة، وكان علماؤها يجلونه ويستقبلونه على أنه من كبار النحاة ويعقدون معه المجالس العلمية (مثل نادي يحيى بن محجوبة)، وكان الفكون يتردد على هذا النادي رغم حداثة سنه. وأمام العلماء طرح الفلاري مسألة على الفكون فعجز عنها فحز ذلك في نفسه، وهو ما يزال، كما يقول، في سن الكتاب، وفكر في الأمر بعد عودة الفلاري إلى تونس وتمتعه هناك بصيت كبير في علم
__________
(1) (منشور الهداية) 95 - 101.
النحو فإن (الحرب كانت سجالا) بينه وبين الفكوبة (1).
ألف الفكون عدة كتب في النحو والصرف نعرف بعضها فقط، من ذلك كتابه الكبير (فتح المولى بشواهد ابن يعلى) (2)، و (شرح على أرجوزة المكودي في التصريف) وقد ذكر العياشي الذي رأى هذا الكتاب واستفاد منه أن الفكون قد أجاد الشرح والبحث وأن شرحه يفضل شرح أبي عبد الله المرابط الدلائي على نفس الأرجوزة، وقد فرغ الفكون من هذا الكتاب سنة 1048 أي أثناء نضجه الفكري (ولد سنة 988). وأخبر العياشي أن الفكون افتتح شرحه بهذه العبارة (الحمد لله الذي أجرى تصاريف المقادير بواسطة أمثلة الأفعال، وأوضح بيان افتقارها إليه بتغيير حالاتها من حركة وصحة واعتلال) (3)، وللفكون أيضا (شرح على شواهد الشريف على الأجرومية) (4). وله أيضا شرح على نظم محمد المجرادي في النحو وهو (فتح الهادي بشرح المجرادي) (5)، ومن ثمة يظهر أن الفكون لم يكن مجرد مدرس للنحو على الطريقة التقليدية، شأن كثير من علماء الوقت، ولكنه كان، بالإضافة إلى التدريس، مؤلفا ماهرا في علم النحو والصرف، وكلاهما من العلوم العقلية، وهذا يتماشى, مع اتحاهه العقلاني الذي كشف عنه في
__________
(1) نفس المصدر، 101 - 105، وقد توفي الفلاري سنة 1039 بتونس، وكان قد تولى فتوى المالكية بها. انظر عنه الوزير السراج (الحلل السندسية) 2/ 1، 181.
(2) مخطوطات المكتبة العباسية في البصرة (العراق) رقم ج - 64 مذكور في قسم الأدب والشعر. إعداد علي الخاقاني، طبع المجمع العلمي العراقي، 1961 - القسم الأول. ورغم أن كتاب الفكون مبتور الآخر فإن الموجود منه يبلغ 324 صفحة، ولعله يقصد به شرح الشواهد الواردة في (الدرة النحوية في شرح معاني الأجرومية) لمحمد بن أحمد الحسني الفاسي المعروف بابن يعلى والمتوفى سنة 723.
(3) العياشي (الرحلة) 2/ 391، ولعله هو (فتح اللطيف في شرح أرجوزة المكودي في التصريف) الذي أطلعني علي امقران السحنوني على نسخة منه.
(4) عبد الرحمن الجيلالي، 2/ 391 - 393، ولعل هذا الكتاب هو نفسه (فتح المولى).
(5) مجاميع تيمور، رقم 263، والنسخة تعود إلى سنة 1264، وقد توفي محمد المجرادي السلاوي سنة 1036.
كتابيه: (منشور الهداية) و (محدد السان) (1).
وكان يحيى الشاوي من المعاصرين للفكون، وربما أخذ عنه، لأن الفكون أكبر منه سنا وكان في الجزائر موضع شهرة واحترام عندما كان الشاوي ما يزال طالبا يبحث عن الشيوخ الذين يشبعون نهمه العلمي، وإذا كنا قد عرفنا جانبا من توجيه الفكون نحو علم النحو فإننا ما زلنا لا نعرف من الذي دفع الشاوي إلى هذا العلم. وقد أخبر عنه العياشي بأنه كان من الأذكياء وأن له معرفة حسنة بالنحو ومشاركة في غيره، وأنه كان مواظبا على التعلم والتعليم. حقا إن مزاجه كان، كما أشرنا، يشبه مزاج المقري المعاصر له أيضا، كلاهما كان يجانب أهل الباطن ويطمح إلى الاتصال بالأمراء وأصحاب الجاه، وكلاهما استعمل علمه سلما للدنيا، فهذا الشاوي قد ألف كتابا في أصول النحو جعله على أسلوب (الاقتراح) للسيوطي وكتبه برسم السلطان العثماني، محمد خان، وقدمه للعلماء العثمانيين فقرظوه، ولم يذكر المحبي الذي أورد هذه القصة اسم الكتاب ولكنه قال عنه إنه تأليف صغير. ومن كتب الشاوي الأخرى في النحو: نظم لامية في إعراب اسم الجلالة جمع فيه أقوال النحاة وشرحها شرحا طيبا، وله شرح على التسهيل لابن مالك، وحاشية كبيرة على شرح المرادي (2).
وممن وضعوا حاشية على شرح الخلاصة للمرادي أيضا سعيد قدورة،
الذي عرفنا أنه قد اشتهر، كمدرس، بوضع حواشي وشروح على الكتب التي كان يدرسها لتلاميذه، وقد سمي حاشيته القصيرة (رقم الأيادي على تصنيف المرادي) (3).
__________
(1) انطر ترجمة الفكون في الفصل السادس من الجزء الأول. وذكر في (فتح اللطيف) أن له كتابا آخر سماه (فتح المالك). والظاهر أنه شرح على لامية ابن مالك.
(2) نسخة من هذه الحاشية في المكتبة السليمانية (إسطانبول). انظر محمد بن عبد الكريم (مخطوطات) 157. انظر أيضا المحبي (خلاصة الأثر) 4/ 486. وقد ترجمنا ليحيى الشاوي في الفصل الثاني من هذا الجزء.
(3) الخزانة العامة، الرباط، 2692 د. انظر ترجمة سيد قدورة في فصل التعليم من الجزء الأول.
وقد أخذت الأجرومية وألفية ابن مالك حظا وافرا من عناية الجزائريين، فألف محمد الصباغ القلعي (الدرة الصباغية في شرح الجرومية) (1)، وهو عمل يدل على سعة معلومات صاحبه في علم النحو، رغم أنه كان، كما عرفنا، من المهتمين بعلم التصوف، إذ هو أول من كتب طويلا عن أحمد بن يوسف الملياني في (بستان الأزهار). وقد أشار الصباغ إلى ظروف تأليف (الدرة) وطريقته فقال إنه ألفها (في زمان كثير شره، وقليل نفعه وخيره .. ومع شغل البال، وتراكم الهموم والأهوال)، كما ذكر أنه قرأها على شيخه محمد بن منصور المستغانمي فأجازه بها، أما عن طريقته فقال إنه كان يهدف إلى وضع تقييد على الأجرومية (لنفسي، ولمن هو مبتدي مثلي من أبناء جنسي .. وتكلمت على إعرابها، ولم أر أحمدا أعربها قبلي)، ومن المفيد أنه ذكر اسمه فيها هكذا: محمد بن محمد بن أحمد بن علي الصباغ الهواري.
ومن جهة أخرى، نظم خليفة بن حسن القماري الأجرومية في قصيدة (لذيذة يطرب لها الناشئ ويرقص لها المبتدئ لسلاسة نظمها وعذوبة موسيقاها) (2) وسماها (اللامية في نظم الأجرومية)، وكانت الأجرومية هي ملح الطعام عند مدرسي وطلاب الجزائر.
أما ألفية ابن مالك فمن أوائل من ألف فيها في العهد العثماني محمد بن عامر الأخضري البسكري (وهو والد عبد الرحمن الأخضري). فقد أراد أن يوضح في شرحه عليها ما غمض منها، ولكن شرحه قد طال. فهو لم يكن يعلق ليوضح ولكنه كان يشرح شرحا تقليديا لأبواب النحو المعهودة في الألفية، ثم أضاف إلى ذلك طبعا بعض معارفه الخاصة التي تظهر من الإعراب والتنبيهات واللطائف، ويبدو أن الناسخ قد وجد تحريفا في الأصل فأثبته كما هو، وليس لهذا الشرح عنوان وإنما اكتفى الناسخ أو المالك له
__________
(1) المكتبة الوطنية - الجزائر، 2325 في 156 ورقة، عن الصباغ انظر الفصل الثاني من هذا الجزء.
(2) التليلي (إتحاف القاري) مخطوط.
بوضع عبارة (تقييد) فقط (1)، كما أن أحمد بن العباس الوهراني قد وضع شرحا على لامية الأفعال في التصريف لابن مالك (2). وكذلك شرح محمد بن يحيى البجائي لامية الأفعال (3) وناقش الناظم وجاء بآراء النحاة، كما استعمل الإعراب وذكر الشواهد، واللامية المشار إليها هي التي تبدأ هكذا.
الحمد لله لا أبغي به بدلا ... حمدا يبلغ من رضوانه أملا
ثم الصلاة على خير الورى وعلى ... ساداتنا آله وصحبه الفضلا
وبعد فالفعل من يحكم تصرفه ... يحز من اللغة الأبواب والسبلا
ويبدو أن أبا القاسم بن محمد البجائي كان من النحاة التقليديين في القرن الحادي عشر، فقد عاش على الأقل جزءا من حياته في تونس وأخذ بها العلم على علمائها وعلى الوافدين عليها من العثمانيين وغيرهم. ويذكر حسين خوجة صاحب (بشائر أهل الإيمان) أن البجائي قد تولى الخطابة في جامع الخطبة خارج باب الجزيرة بتونس وأنه كان أيضا فقيها ورعا (4)، والعبارة الأخيرة كانت تطلق على كل العلماء المرضي عنهم في ذلك الوقت، ولو كانوا من النحاة والأطباء، لأن مقياس الإنسان الصالح عندئذ هو الورع والفقه والزهد، ومهما كان الأمر فإن حسين خوجة قد ذكر أن البجائي ألف كتبا، منها شرح شواهد أربعة كتب هي القطر والشذور والمقدمة.
وقد اطلعنا نحن على شرحه على شواهد القواعد الصغرى في النحو لابن هشام الأنصاري، وذكر البجائي في تبريره تأليف هذا الكتاب أنه لم ير من شرح هذه الشواهد فأراد هو أن يشرحها (شرحا يرفع عنها حجابها، ويكشف نقابها، ويذلل صعابها، ويزيل عنها إغرابها، متجافيا فيه عن
__________
(1) المكتبة الملكية - الرباط، 8315، ويقع في خمس وستين ورقة.
(2) نفس المصدر، 4268، 8849، وتوجد قطعة منه أيضا في المكتبة الوطنية. الجزائر، رقم 2231 مجموع، وفيه أن اسمه محمد بن العباس.
(3) المكتبة الوطنية. الجزائر، 2231 مجموع، النسخة التي اطلعنا عليها منسوخة سنة 1055 وهي في 20 ورقة، وخطها جيد.
(4) (بشائر أهل الإيمان)، المكتبة الوطنية - الجزائر مخطوط رقم 2192.
الإطالة، خشية السآمة والملالة) (1)، ومن الجدير بالذكر أنه بدأ شرحه بتعريف الشعر نقلا عن ابن رشيق، كما رأينا له (شرح شواهد كتاب شذور الذهب) لابن هشام الأنصاري أيضا (2).
وعبارة البجائي في مقدمته لا تختلف كثيرا عن عبارته في الشرح السابق، فقد افتتحه بهذه العبارات (وبعد، فإن كتاب شذور الذهب في معرفة كلام العرب من أنفس ما ألف في علم النحو، غير أن شواهده لم أر من تعرض لشرحها، فأردت أن أجعل عليها شرحا يذلل صعابها .. ناقلا ذلك من شرح العيني على شواهد الكتب الأربعة، ومن وشي الحلل في شرح أبيات
الجمل للشيخ الفهري ومن شرح شواهد المغني للشيخ السيوطي، ومن شواهد الشيخ ابن هشام اللخمي، ومن الدماميني الكبير على المغني، ومن غيرها ما تدعو إليه الحاجة)، والنسخة التي اطلعنا عليها ليس لها عنوان وإنما أضاف إليها السيد عمار البطالبي عبارة كتاب شواهد السرور (الشذور؟).
وممن اعتنى بالتأليف في النحو أيضا محمد الزجاي، فقد ذكر في ترجمته أن له شرحا على ألفية السيوطي، وعلى التسهيل لابن مالك وعلى لامية الأفعال في التصريف وعلى نونية صاحب الشذور، الخ. والزجاي، مثل سعيد قدورة والأنصاري، كان يعلق على الكتب التي كان يتناولها في درسه فيوضحها لطلابه، وقد يزيد على ذلك شواهد وتبسيطا وأخبارا، ولا نظن هذه التآليف إلا موجهة للطلبة فقط (3)، أما أبو راس الذي قيل إنه كان يلحن في درسه، رغم علمه الواسع، فقد ألف أيضا في النحو واللغة، وهو
__________
(1) المكتبة الوطنية - تونس، 1598، انتهى البجائي من هذا الشرح سنة 1029، وهو في 18 ورقة فقط.
(2) المكتبة الوطنية - الجزائر، 2265 مجموع، وهو في 94 ورقة، وهذه النسخة بقلم محمد بن مراد الحنفي سنة 1188. ورأينا نسخة من هذا الشرح عند علي أمقران السحنوني بخط محمد بن أحمد بن فتح الله الصنهاجي سنة 1033.
(3) (إتمام الوطر) مخطوط باريس.
قد اعترف أن أحدا لم يفته في كثرة التآليف سوى السيوطي، ومما ذكره لنفسه من التآليف في باب النحو (الدرة اليتيمة التي لا يبلغ لها قيمة) (1).
ولم يؤلف في تراجم النحاة، على ما نعلم، سوى بركات بن باديس وتلميذه أحمد بن قاسم البوني، أما ابن باديس فقد ألف كتابا سماه (التنقيح في التعريف ببعض أحوال رجال طالعة التصريح على التوضيح)، قال عنه (وبعد فهذا تقييد مفيد .. لمعرفة طبقات بعض أئمة النحويين وأخبار الجهابذة المشهورين (يشتمل) على طرف من ألفاظ طالعة التصريح للشيخ أبي البقاء خالد الأزهري)، والظاهر أنه جمع فيه تراجم مختصرة لعلماء النحو الذين يتعرض لهم أثناء تدريسه لهذه المادة في قسنطينة، ومنهمحوالي ثمانية وعشرين ترجمة مثل المازني وابن الحاجب، والسيرفي، وابن مالك، والخليل بن أحمد، وأبو الأسود، وسيبويه، وابن هشام، والكسائي، وابن جني، والأخفش، الخ .. وقد قلنا إنها تراجم مختصرة لأن تأليف ابن باديس لا يعدو ثماني وعشرين ورقة من النسخة التي اطلعنا عليها (2).
أما البوني فقد ألف، كما عرفنا، في علوم مختلفة، ومنها النحو واللغة، ويشهد لذلك كتابه المسمى (فتح المتين في تراجم بعض مشاهير النحاة واللغويين)، ويبدو من عنوانه أنه قد اقتصر فيه على (بعض المشاهير) فهو إذن ليس كتابا شاملا للنحاة واللغويين، ولكن غير مقتصر على زمانمعين، ومن الذين ترجم لهم، ابن خالويه، وقد جاء في كتابه أيضا ببعض الأخبار الأدبية واللغوية التي يسميها بالفوائد، ومن ذلك القصة التي رواها عن ابن العديم صاحب (تاريخ حلب) من أن سيف الدولة قد طلب من
__________
(1) (فتح الإله ومنته) مخطوط الخزانة العامة بالرباط.
(2) نسخة في مكتبة المرحوم المولود بن الموهوب (عند السيد ماضوي) من نسخ سالم بن محمد من أولاد سيدي عيسى بن الأكحل، نسخها لشعبان بن جلول سنة 1146. ولبركات بن باديس كتب أخرى في النحو منها شرح على ألفية ابن مالك في ثلاثة أجزاء، وآخر في شرح الشواهد للمكودي على الألفية.
العلماء أن يذكروا له بعض الأسماء الممدودة وجموعها مقصورة .. وأن ابن خالويه قد ذكر من ذلك صحراء وصحارى وعذراء وعذارى، وقد نظم أحمد البوني هذه الأسماء في قوله:
صحراء عذراء ولفاء وخبراء ... ممدودة كلها وزيد سبتاء
وجمعها جاء مقصورا فكن فطنا ... واحفظ فديتك ما بالحفظ بأساء (1)
وقليل هم العلماء الذين ألفوا في علم اللغة المحض، ومن هؤلاء أحمد بن محمد بن علي بن ويغلان البجائي الذي نسب إليه بروكلمان (الروض النظيم (المنظم؟) في معاني حروف المعجم (2)، ومحمد بن بدوي الجزائري المعسكري. صاحب كتاب (الارتضاء في الفرق بين الضاد والظاء)، فقد لخص فيه كتاب (الاعتضاد في الفرق بين الظاء والضاد) لأبي حيان محمد بن يوسف الأندلسي، وقال ابن بدوي الذي كتب عمله سنة 1127، (هذا كتاب لخصته من كتاب الاعتضاد .. ورتبته على ما فيه ظاء من حروف المعجم، وعددت في كل حرف ما فيه من المواد، وبدأت بالصحيح ثم المضاعف ثم المعتل بالثلاثي ثم بغيره، وما وضح لي من المقصور انقلاب ألفه عن ياء أو واو، وذكرته بما وضح، وما لا ذكرته مقصورا، على حاله .. وسميته الارتضاء) (3)، أما أبو راس فقد ذكر أن من تآليفه كتابا سماه (ضياء القابوس على كتاب القاموس) الذي يبدو أنه حذا فيه حذو (الجاسوس على القاموس)، وقد وضع المفتي علي بن عبد القادر بن الأمين رسالة سماها (إتحاف الألباب بفصل الخطاب)، وعبارة الخطاب التي يقصدها هي (أما بعد)، لذلك افتتح تأليفه بقوله: (حمدا لك يا من علم آدم الأسماء)، وهي
__________
(1) ورد هذا الخبر بقلم ابنه أحمد الزروق، في ذيل (فتوى في الحضانة) لوالده، المكتبة الوطنية. الجزائر، رقم 2160.
(2) بروكلمان 2/ 917، ورغم اهتمامنا فإننا لم نعرف شيئا كثيرا عن حياة أحمد بن ويغلان.
(3) مخطوطات المكتبة العباسية بالبصرة، علي الخاقاني، طبع مجمع اللغة العربية - العراق، 1961، ص 62 القسم الأول رقم المخطوط 105، وهو في 30 صفحة.
مكتوبة سنة 1186 وبخط المؤلف (1)، وهناك من العلماء من اكتفى بنظم مسائل النحو والصرف.
البيان والمعاني (البلاغة) والعروض
وكما كانت أعمال عبد الرحمن الأخضري في المنطق والحساب محل درس وتعليق من بعده، كان نظمه وشرحه في البلاغة أيضا، فقد نظم الأخضري (الجوهر المكنون) في علمي البيان والمعاني ثم شرحه بنفسه شرحا كبيرا فاق فيه (تلخيص المفتاح) لجلال الدين القزويني، ولكن الأخضري توفي قبل أن يبيض الشرح ويصقله، فكان ذلك حافزا لعدد من العلماء على استكمال النقص، ومن هؤلاء أحمد بن المبارك العطار القسنطيني في عمله المسمى (نزهة العيون)، وكذلك عبد الكريم الفكون. ويفهم من كلام الفكون أن الأخضري، قد توفي قبل استخراج شرحه وأن ما قام به هو (الفكون) محاولة استخراج الشرح من مبيضته التي قال عنها (وفيها محو وضرب وبياضات وأسطار بطررها مشار إليها وغير مشار إليها، جردت ما أمكنني نقله منها وأترك لكل بياض قدره لعل الله يمن علينا بإكماله لمن يشاء من عباده) (2)، ومن جهة أخرى تولى شرح (الجوهر المكنون) والتعليق عليه عدد من المشارقة أمثال أحمد الدمنهوري الذي نشر شرحه في القاهرة سنة 1892 (3).
ومن الذين سرحوا (الجوهر المكنون) للأخضري أيضا، محمد بن محمد بن علي بن موسى الثغري الجزائري الذي سمى شرحه (موضح السر المكنون على الجوهر المكنون)، وقد أخبر الثغري أنه كان مقتنعا بأن منظومة
__________
(1) حصلت منها على نسخة مصورة بواسطة الدكتور وليد الجادر العراقي وهي مليئة بالفوائد الأدبية والتاريخية أيضا، وقد توفي ابن الأمين سنة 1236 وتوجد منها نسخة أخرى في مكتبة الإسكندرية، انظر بروكلمان 2/ 918. وقد رأيتها محققة حديثا على يد أحد الأساتذة المصريين.
(2) من (العقد الجوهري) لأحمد بن داود، مخطوط.
(3) لوسياني، 11، و (العقد الجوهري) مخطوط.
الأخضري من أجمل ما كتب في علم البيان وأنه قرأ شرح الأخصري عليها، ولكنه كان متحمسا للقيام بعمل يوضح الغامض منها ويظهر جمال البلاغة وقوة البيان فيها، لذلك افتتح الثغري شرحه بقوله:
(الحمد لله البديع الذي يشرح صدور البلغاء بجواهر المعاني وإيضاح التبيان. أما بعد، فلما رأيت منظومة الشيخ سيدي عبد الرحمن الأخضري الموسومة (بالجوهر المكنون) من أجل ما صنف في علم البيان، محتوية على جل قواعد (التلخيص) وعيون مسائله بلفظ موجز وتهذيب واتقان، قد شرحها ناظمها شرحا مفيدا وأعرب عما في ضميره وأبان، لكن بقي في بعض الأماكن بياض في الشرح (1) وذلك في جميع النسخ الواصلة إلينا فصار من نظر فيه لم يشتف منه جنان، ثم شرحها الشيخ الغزي وأجاد لكنه لم يطلع على شرح المصنف، والمنظومة الواصلة إليه وجدها مصحفة ومحرفة تحريفا أخرج كثيرا من أبياتها عن الأوزان، فتتبعها بالإصلاح ولم ينبه على ذلك .. وقد عثرت على نسخة صحيحة كادت أن تكون بخط المؤلف أو منقولة منه سالمة من التحريف والألحان (2)، فقرأتها على الأشياخ فوجدتها موافقة لما في شرح المصنف بالتتبع عيان، أردت، بعون الله وقوته، تقييد دررها .. بشرح يكشف الغطاء عن جواهرها المصونة. واعتمادي في النسخ على الشرحين المذكورين وسعد الدين التفتزاني وبعض كتب البيان، وانتحلت غالب ألفاظهم وفصوص وجواهر عباراتهم الصافية الحسان، ولم أسلك طريق الإطناب الممل ولا الإيجاز المخل، وإنما اقتصرت على الإفادة والبيان، وسميته الخ) (3).
__________
(1) قارن ذلك بما كتبه الفكون عن شرح الأخضري.
(2) لعلها هي النسخة التي استخرجها منه الفكون وأشار إليها أحمد بن المبارك العطار.
(3) المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 2146 مجموع، وهي في 200 صفحة، وقد فرغ من تخريجها من المبيضة سنة 1115، وتم نسخها سنة 1174 بيد الحاج محمد (؟)، كما اطلعنا منه على نسخة أخرى في نفس المصدر رقم 2017، وهي منسوخة سنة 1126 بخط علي بن الحاج أبو القاسم بن مجنان القسنطيني، وهذه النسخة توجد =
وقد سار الثغري في شرحه على ما وعد فأظهر فنون البلاغة وعالج موضوعاتها بتفصيل وتبسيط، حتى جاء الشرح في حجم ضخم، بالإضافة إلى أنه عرف فيه بالأخضري تعريفا وافيا، ومما يلاحظ أنه لم يبوب الشرح وإنما اتبع تبويب الناظم نفسه معتمدا في ذلك وحدة البيت والباب والفصل، ويبدو أن شرح الثغري كان كثير التداول بين العلماء، ويتبين ذلك من كثرة النسخ منه.
أما خارج أعمال الأخضري فالجهود قليلة، فقد قام عبد الله بن أبي القاسم الثعلبي بشرح قصيدة الحلي شرحا بلاغيا سماه (أنوار التجلي على ما تضمنته قصيدة الحلى) (1)، واهتم محمد بن محمود بن العنابي أيضا بعلم البلاغة فألف (التحقيقات الإعجازية بشرح نظم العلاقات المجازية) (2). وعد أبو راس من مؤلفاته في البيان (ذيل الأماني)، ولا شك أن له ولأحمد البوني محاولات أخرى في هذا الباب، فقد عرفنا أن لهما مؤلفات كثيرة وأنهما خاضا في جميع العلوم، وبالإضافة إلى ذلك نذكر بأن كثيرا من الشروح الأدبية التي سنعرض إليها كانت تعالج موضوع البلاغة بشكل واضح مثل شرح (العقيقة) الذي وضعه أحمد بن سحنون الراشدي وسماه (الأزهار الشقيقة المتضوعة بعرف العقيقة).
وقد اشتهر بن عبد القادر المعروف بابن الأمين بتأليفين على الأقل في هذا العلم أحدهما رسالة في (أما بعد)، والثاني حاشية على مختصر
__________
= ضمن بقايا مكتبة ابن أبي شنب، وبناء على هذه النسخة فإن الأخضري قد انتهى من شرحه على (الجوهر المكنون) سنة 942، وهذا لا يتناسب مع ما قاله الشيخ العطار من أن الأخضري قد أدركته الوفاة قبل إتمام شرحه، ذلك أن الأخضري قد توفي سنة 953. حسب معظم الروايات.
(1) الخزانة العامة - الرباط، 1968 د. ويعرف الثعلبي بأنه فاسي الأصل جزائري الدار، ويقع شرحه في 322 صفحة.
(2) بروكلمان 2/ 923، عن ابن العنابي انظر كتابنا (المفتي الجزائري ابن العنابي) الجزائر، 1977.
السعد، وكان ابن الأمين درس في بلاده وفي المشرق وخصوصا مصر، وتتلمذ على الشيخ محمد الجوهري، ومحمد الأمير والشيخ البليدي والشيخ العدوي وأحمد دردير وغيرهم، وقد ألف رسالته الأولى وهو في مصر سنة 1186، وبعد أن عاد إلى بلاده تولى التدريس بجامع حسين ميزمورطو فترة طويلة كما تولى الفتوى على المذهب المالكي مدة طويلة أيضا دامت إلى وفاته سنة 1236 (1).
ويظهر من رسالته (أما بعد) أنه صاحب أسلوب جدلي واضح، فقد أكثر فيها من النقود عن أئمة البلاغة والنحو والتفسير، ولم يستعمل فيها السجع وإنما جاء بعبارة دقيقة محبوكة تؤدي المعنى بالقليل من الألفاظ، وقد قسمها إلى مقدمة ومقصدين وخاتمة وتذييل، وجعل المقدمة في مقصدين كما جعل كل مقصد فصولا، فابن الأمين رغم نقوله الكثيرة يبدو في رسالته عقليا، غير أنه في حاشيته على السعد قد اتبع مقولة الغزالي (ليس في الإمكان أبدع مما كان) حتى أن تلميذه حمدان بن عثمان خوجة قد ناقشه في هذا الرأي ولكنه تهيب من تفنيد قوله لأنه شيخه (2)، وعلى كل حال فنحن لم نطلع على حاشيته إلا من خلال نقل حمدان خوجة منها. فلعل ابن الأمين قد وفق فيها أيضا كما وفق في رسالته (أما بعد) التي اطلعنا
عليها.
ولكن يظهر من النماذج التي سقناها أن العناية بالبلاغة، كعلم قائم بذاته، ضعيفة عند الجزائريين، وأن اعتمادهم في التدريس كان على عمل الأخضري وعلى تلخيص المفتاح وغيرهما.
__________
(1) عن حياة ابن الأمين انظر الأرشيف الفرنسي (287) 41 - 228 Mi وغيره، وكذلك فهرس الجزائري (ابن العنابي) في كتابنا (المفتي الجزائر ابن العنابي) الجزائر، 1977، وهو تلميذه. وكذلك تحقيق رسالة ا (أما بعد).
(2) انظر (حكمة العارف بوجه ينفع) لحمدان بن عثمان خوجة، مخطوط 22، وهو المصدر الوحيد الذي ذكر لشيخه ابن الأمين تأليفا في البلاغة حشى فيه على مختصر السعد.
ونفس الشيء يقال عن عناية الجزائريين بعلم العروض، فرغم جودة الأشعار التي سنعرض لها عندهم، فإن التأليف في قواعد العروض قليل جدا، ومن هذا القليل شرح سعيد قدورة على (الرامزة الشافية في علمي العروض والقافية) للخزرجي المعروف بأبي الجيش المغربي، والذي سماه (شرح المنظومة الخزرجية) (1)، وينسب إلى بركات بن باديس شرح على متن الخزرجية أيضا. ولا شك أن هناك محاولات أخرى لم نطلع عليها في هذا الميدان. ومهما كان الأمر فإن هذا النوع من التأليف لا يخرج عن كونه أدوات مدرسيه.
فنون النثر
نعني بالنثر هنا النثر الفني أو الأدبي، وهو يشمل المقامات والرسائل الرسمية (الديوانية) والإخوانية، والوصف، والتقاريظ، والتعازي، وعقود الزواج، التي تفنن فيها أصحابها، والإجازات المنمقة، والشروح الأدبية، والقصص، والخطب. وقد كان الأدب الجزائري في العهد العثماني غنيا ببعض هذه الفنون كالرسائل والتقاريظ، ولكنه كان فقيرا فى بعضها كالخطب والقصص.
وقبل أن ندخل في تفاصيل هذه الفنون ودراستها، نذكر بما قلناه في الجزء الأول من أن معرقلات نمو اللغة وانتشار الأدب كانت أقوى من المشجعات، فالولاة كانوا لا يفقهون العربية ولا يتذوقون أدبها، ولا نتوقع ممن هذه حالته تشجيع الأدباء والشعراء وتذوق إنتاجهم وتقديره، حقا إننا وجدنا بعض الباشوات، مثل محمد بكداش، يجمع حوله نخبة من المثقفين باعتباره، كما قيل، (قد جمع النظم والنثر والخطابة والشعر) ولكن حكمه لم يزد على ثلاث سنوات (2)، وشجع الباي محمد الكبير، كما عرفنا، حركة
__________
(1) زاوية تانعملت ببني ملال (المغرب)، 299 مجموع.
(2) يذكر ابن ميمون أن محمد بكداش كان (له أدب غض المقاطف رطب المعاطف) وأنه =
النسخ والتأليف والتعليم بالعربية فازدهرت هذه الحركة في عهده وظهرت أسماء من الأدباء والعلماء كانوا مدينين له بالمساعدة المادية ولكن الحركة اختفت باختفائه، ونفس الشيء يقال عن مشاريع صالح باي في التعليم التي لم تتواصل بعده، فهذه النماذج كانت تعتمد على جهود فردية ونادرة، كما رأينا، وليست قائمة على سياسة مستمرة ومرسومة، وقد دام حكم محمد باشا خمسا وعشرين سنة دون أن نعرف أنه قدم شاعرا أو أجاز كاتبا على تأليف أو شجع حركة التعليم، ونفس الشيء يقال عن حسين باشا الذي بقي في الحكم اثني عشر سنة، وهكذا كان كل حاكم، من الداي إلى الباي، يستغل حكمه للربح المادي الشخصي وخدمة حاشيته وجنوده الذين كانوا جميعا غرباء عن الشعب لسانا وذوقا.
وبالإضافة إلى ضعف مستوى الثقافة، وإلى منافسة اللغة التركية (بل واللغات الأوروبية الأخرى التي كان بعض الباشوات يتكلمونها لأنها لسانهم الأم) للغة العربية في الدواوين وفي المجالس الرسمية وفي التجارة فإن هناك بعض اللهجات المحلية التي كانت أيضا تزاحم اللغة العربية، فبعض مناطق الأوراس وجرجرة وميزاب كانت تتكلم اللهجات المحلية ولم يكن هذا مقصورا على الطبقة العامة، بل كان موجودا عند العلماء أيضا، فالورتلاني يحدثنا أن هناك من كانوا يمدحون الرسول (صلى الله عليه وسلم) ويتناولون التصوف باللهجة المحلية، وقد تمنى هو أن يكون كلامهم بالعربية حتى تدرك حلاوته وطلاوته وقوة إبداع أصحابه، وضرب لذلك مثلا بعلي بن درار وسعيد الفاني (1).
يضاف إلى ذلك أن الفئة المثقفة، كما عرفنا، قد انحصر نشاطها في بعض الوظائف الرسمية التي لا علاقة لها بالأدب وتذوقه وتشجيعه، فالقضاة
__________
= كان بارعا في فنون الأدب وأنه كان يكتب بالسجع. انظر (التحفة المرضية) مخطوط باريس، ص 54. وقد نوه عبد الرحمن الجامعي أيضا بأدب بكداش، انظر فصل العلماء من الجزء الأول.
(1) الورتلاني (الرحلة)، 187 - 198، 603.
والمفتون والمدرسون وكتاب الإنشاء كانوا راضين بالمستوى الذي كانوا عليه، ولم يكونوا يطمحون إلى مستوى أفضل منه لعدم الحاجة إليه، بل ان الباشوات والولاة عموما كانوا يفضلون المستوى الثقافي الأدنى على المستوى الأعلى، لأنهم هم أنفسهم لم يكونوا مثقفين، وكان يرضيهم من الموظف أن يكون في مستواهم أو أقل منهم، أما الجزائريون الطموحون إلى المزيد من العلم والأدب وذوو المواهب الدفينة الذين كانوا راغبين عن الوظائف. الجامدة والتبعية الذليلة فقد اختاروا طريق الهجرة إلى حيث يجدون الرعاية والاعتراف بإنتاجهم وفضلهم، وكان هذا مصير أديبين كبيرين سنترجم لهما في هذا الفصل، وهما أحمد المقري وأحمد بن عمار، كما كان مصير الشاعر سعيد المنداسي.
وقد أدى موقف الولاة ومنافسة اللهجات واللغات وشيوع الجهل وضعف المستوى الثقافي وجمود الوظيفة وهجرة أصحاب المواهب إلى شيوع اللحن على ألسنة الكتاب والمدرسين، حتى من الذين لم نتوقعه منهم، لكثرة تآليفهم ووفرة علمهم، أمثال أبي راس الناصر، وقد تحدث هو عن هذه الظاهرة في الإنتاج كما تحدث عنها أحمد بن سحنون الراشدي والورتلاني، وشاع الخطأ، وخصوصا في الشعر، حيث كثر ما يسمى بالشعر الملحون والشعر الفصيح المكسور، وكان اللجوء أحيانا إلى الشعر الملحون أو الشعبي يبرره التلغيز الذي يقصده الشاعر ليغطي هجومه على الأوضاع السياسية والأخلاقية، وكان بعض الشعراء يتبسطون لكي يسهل على العامة فهم مرادهم، وقد احتج أبو راس في شرح (العقيقة) بأن محمد الهواري (1) كان يلحن في كتاباته، وأن المنداسي قد كتب بالملحون ولم يكن عاجزا عن الإعراب وإنما نظم العقيقة بالشعر الملحون (لتسهل للعوام كما تسهل
للخواص) (2).
__________
(1) عن محمد الهواري انظر الفصل الأول من الجزء الأول.
(2) أبو راس (شرح العقيقة) ورقة 4 - 5، مخطوط باريس رقم 5028.
الشروح الأدبية:
وهناك ظاهرة أخرى تلفت النظر في الأدب الجزائري وهي أن الأدباء بدل أن يخترعوا القصص والروايات أو يؤلفوا في الظواهر الثقافية والنقد عمدوا إلى شرح الأعمال الجاهزة، ونحن هنا لا نقصد شرح الأعمال الصوفية والتاريخية والفقهية، ولكننا نقصد شرح الأعمال الأدبية. والشرح الأدبي قد يكون على قصيدة نظمها الشارح نفسه وقد يكون على قصيدة أو عمل آخر لغيره، وقد حفل الإنتاج الجزائري بالنوعين. من ذلك قصيدة سعيد المنداسي المسماة بـ (العقيقة) التي تداول على شرحها كل من أبي راس الناصر وأحمد بن سحنون الراشدي، وشرح لامية العجم لمحمد بن أحمد بن قاسم البوني، وشروح المواعظ والحكم والحلل الحريرية لأبي راس أيضا، ولعل شرح الشواهد النحوية يدخل أيضا في هذا الباب كما فعل عبد الكريم الفكون في شرح شواهد ابن يعلى، ولكننا لن نأتي على كل هذه الشروح هنا وحسبنا التنبيه على أن أصحابها كانوا يهدفون من ورائها إلى خدمة الأدب واللغة والبلاغة مظهرين براعتهم القلمية والخيالية ومحفوظاتهم وذوقهم الفني.
عرف أحمد بن سحنون الراشدي أنه من الأدباء البارزين أوائل القرن الثالث عشر الهجري (19 م) ويظهر ذلك من تآليفه ومن تقاريظ أدباء العصر له، أما التقاريظ فسنذكرها بعد قليل، وأما التآليف فنعرف منها عددا يشهد له بالحذق والمهارة ويجعله في صدر أدباء وقته، من ذلك شرحه الضخم الذي وضعه على (عقيقة) المنداسي والذي سماه (الأزهار الشقيقة المتضوعة بعرف العقيقة)، وقد بذل في هذا الشرح جهدا لا يعرفه إلا من وقف عليه واطلع على ضخامة العمل.
والعقيقة قصيدة في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصحابته، كتبها سعيد المنداسي بالعامية الفصحى أو الفصحى العامية، وهي ليست قصيدة سهلة، لا في لغتها ولا في معانيها لأنها احتوت على تراكيب غريبة وعلى تواريخ وحوادث تحتاج إلى توضيح واطلاع واسع، وقد سلك فيها الشاعر مسالك بلاغية معقدة ومسالك لغوية أكثر تعقيدا، وكان المنداسي ينظم بالفصيح والملحون وله
أشعار كثيرة، وكان مقصده من كتابة العقيقة بالعامية تقريب معانيها من العامة مع الاحتفاظ بمستوى لغوي وأدبي وتاريخي لا يدركه إلا الخاصة. وقد كتب القصيدة سنة 1088 وبدأها بالحديث عن الخمر والغزل على الطريقة التقليدية واستعمل فيها رموزا كثيرة، ومطلعها: (كيف ينسى قلبي عرب العقيق والبان ..).
وقد تحدث ابن سحنون عن دافع شرحه للقصيدة فقال ان ابن خلدون قد نعى على أهل المغرب العربي إهمالهم رواية أشعارهم فضاعت أنسابهم، فكان رائد ابن سحنون أن يخالف العادة ويكفر عن هذا الإهمال بكتابة شرح على العقيقة يحفظها ويحل ألغازها ويقرب معانيها. بدأ ابن سحنون عمله سنة 1200 وبعد حوالي سنة انتهى من التبييض وبدأ في التخريج إلى أن وصل في ذلك نصف العمل، وهنا كلفه الباي محمد الكبير باختصار (كتاب الأغاني) فتوقف عن شرح (العقيقة)، واستجاب لأمر سيده، وكان ذلك سببا في إهمال رقاع الشرح الكبير الذي حاول ابن سحنون أن يظهر فيه موهبته اللغوية والأدبية والتاريخية. وبالإضافة إلى أمر الباي، أجبره الطاعون الذي حل ببلاده عندئذ على الجلاء عنها إلى أن ينقشع الوباء، فخرج من معسكر تاركا أوراقه وراءه، معزيا نفسه بقصيدة جيدة، قالها في الطاعون وآثاره. وفي سنة 1202 انتهى الطاعون فعاد ابن سحنون إلى تسويد شرحه، ولكنه اضطر إلى اختصاره، ذلك أن (أحزانا) ألمت به جعلت نفسه تعزف عن التبسيط والإجادة، كما أن بعض العلماء قد لاموه على طول الكتاب ورجوه اختصاره وتجريده من الحشو والاستطراد، ومن هؤلاء محمد بن شهيدة، قاضي معسكر، وأحمد بن هطال كاتب الباي. وهكذا انتهى ابن سحنون من عمله سنة 1202، مطولا مليئا بالاستطرادات الأدبية واللغوية في القسم الأول، ومختصرا مجردا من الزوائد في القسم الثاني.
ولولا أن المنداسي من الشعراء العلماء لما أقدم ابن سحنون على شرحه الكبير، فالقصيدة في نظره موجهة بالدرجة الأولى إلى العلماء لأن العامي لا يفهمها، وقد أورد للمنداسي أيضا عدة قصائد من الشعر الفصيح
المتين، وكأن ابن سحنون أراد أن يكون في مستوى الشاعر في العلم والأدب، فملأ شرحه بالأخبار الأدبية والتاريخية، سيما تاريخ الإسلام الأول الذي تعالجه القصيدة، ولم يقسم الشرح إلى فصول وإنما شكل كل بيت من العقيقة قسما أو فصلا مستقلا، فهو يذكر البيت ثم يشرحه لغويا وأدبيا ويأتي إليه بالشواهد والأخبار، وهذا هو سبب الاستطراد والطول، ويدلنا مطلع الشرح على ذوق ابن سحنون ومراميه، فقد بدأه هكذا (الحمد لله الذي وشح مطالع المعاني ببدائع البيان ..) وهو طالع يبتعد عن طوالع الشروح الفقهية ونحوها، فـ (الأزهار الشقيقة) إذن يعتبر كتاب أدب ونقد وبلاغة في بابه لتخصص صاحبه في ذلك، وتؤكد التقاريظ التي وردت عليه هذا الاتجاه، ولاشك أن هذا هو ما يجعل شرح ابن سحنون للعقيقة يفوق شرح أبي راس لها (1)، ورغم أن ابن سحنون قد تمنى أن لا يكون عمله من (الدفاتر المهملة) فإننا إلى الآن لم نقرأ أن هناك من تناول هذا المخطوط الهام بالتعريف أو التحقيق.
أما شرح أبي راس (للعقيقة) فقد سماه (الدرة الأنيقة)، ومن عادة أبي راس أن يشرح العمل الواحد عدة مرات ويطلق على كل شرح عنوانا جديدا، وهذا ما حدث هنا. فقد قال إن له على العقيقة سبعة شروح، وكل شرح منها له عنوان خامس (2)، وقد اطلعنا على أحد هذه الشروح فوجدناه يذكر في البداية فضل الشعر وخصوصا الشعر الديني، وعرف أبو راس الشعر وأشاد به وقال إنه لفضله استعمل في المدائح النبوية، وذكر أن دافعه للتأليف كون المنداسي مدح بالعقيقة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ورغم أن العقيقة من (الشعر الملحون) فإنها قد (احتوت على غرائب وعجائب من اللغة والبلاغة واللحون)؛ وأضاف أبو راس مبررا اللجوء إلى الشعر غير الفصيح قوله: (وليس في الشعر الملحون من بأس). وقد ذكرنا أنه هو نفسه كان يلحن في اللغة رغم علمه
__________
(1) دار الكتب المصرية رقم 12160 ز، والمخطوط بخط المؤلف ويقع في 278 ورقة وعليه حواش كثيرة، وكان في ملك المفتي محمد بن محمود بن العنابي، وتنتهي النسخة سنة 1202، وفيه بعض البياض.
(2) ذكر ذلك في (فتح الإله ومنته) عند تعداد كتبه، ك 3 226، ك 2332.
وسعة إطلاعه وحفظه، وتدل قصائده أيضا على أنه كان لا يتقيد بالوزن، رغم أنه كان يكتب بالفصحى، وزعم أبو راس أن البعض ممن تأثر كثيرا بالعقيقة سأله أن يضع عليها شرحا (يفصح عن تلك المقاصد واللغات، ويذلل ما فيها من الأبيات، وأن يكون باختصار، لداعية الضرورة إلى الاقتصار، وتنشيطا للاطلاع، وانتهازا لفرصة الانتفاع)، وهنا يظهر الفرق بين عمل ابن سحنون وأبي راس، فالأول أطال حتى طلبه معاصروه الاختصار، والثاني قد استجاب منذ البداية لمن طلبه الاختصار، ويبدو أن شرح ابن سحنون سابق على شرح
أبي راس رغم أننا لا ندري بالضبط متى انتهى أبو راس من شرحه أو على الأقل من شرحه الأول.
اتبع أبو راس أيضا نفس طريقة زميله ابن سحنون في اتخاذ البيت من القصيدة هو الوحدة، فهو يورد البيت ثم يشرحه من جميع الوجوه، وكأن أبا راس كان ينافس زميله حفظا وطريقة، ولكن شتان بينهما، فإذا كان أبو راس يمتاز بالحفظ فإن ابن سحنون قد امتاز بذوق أدبي أرهف وأرق من زميله، فهذا أديب بالسليقة، وذلك أديب فقيه، وقد أجاد كل منهما فيما خلق له، فقد أورد أبو راس أيضا شواهد الشعر والقرآن والحديث أثناء الشرح، وضمنه، كما يقول، (مباحث شريفة، ونكات لطيفة، وتحقيقات غريبة، وتدقيقات عجيبة، ودلائل أنيقة، ومسائل دقيقة ..) فكلا الشرحين إذن مصدر من مصادر تاريخ النقد الأدبي في الجزائر (1).
ولأبي راس عدة شروح أدبية أخرى نذكر منها شرحه على مقامات الحريري الذي سماه (الحلل الحريرية في شرح المقامات الحريرية)، وقد ذكر في (فتح الإله) أن له شرحين من ذلك وهما الكبير والأكبر (2) ومهد لشرحه
__________
(1) (الدرة الأنيقة) مخطوط باريس رقم 5028.
(2) جاء في (المجلة الإفريقية) 1864، 152، ان رئيس المكتب العربي في مدينة معسكر، وهو السيد مونان Monin، قد أهدى نسخة في جزئين من (الحلل الحريرية) إلى المكتبة الوطنية - الجزائر، والنسخة مجلدة تجليدا أنيقا ومكتوبة بخط مغربي جميل. ولم يقل هذا الرجل الفرنسي العسكري كيف ولا من أين حصل على النسخة.
بمقدمة هامة عن حالة الأدب في عصره، وعن دافعه إلى شرح المقامات، كما ذكر من سبقوه إلى شرحها. والواقع أن عمله الذي اطلعنا عليه عبارة عن خزانة أدب أظهر فيه براعته في المحفوظات وذكر العجائب والغرائب واللطائف والنوادر والأشعار والحكايات من تاريخ الأدب العربي، ولا سيما القديم والوسيط منه، وقلما تعرض أبو راس لأهل عصره فيه، وهذه بعض عباراته (الحمد لله الذي أعلى مقامات أهل الفصاحة، وأضاء بهم كل فناء للكلام العربي وساحة، حتى سما على غيره وامتاز، بلطائف الآداب واللغا وأفرغوا معانيها في قالب الإيجاز، وشيدوا مبانيها بدلائل الإعجاز، نظما ونثرا باهر الصدور والأعجاز، وأتحفوها بطرف الكناية والمجاز (1)).
كما نذكر لأبي راس شرح قصيدة الصيد المسماة (روضة السلوان)، فقد وجدناه أيضا محشوا أدبا وظرفا وأخبارا، وقد سمي شرحه هذا (الشقائق النعمانية في شرح الروضة السلوانية) (2)، وبدأه بهذه الفاتحة (الحمد لله الذي أحل لهذه الأمة ما صادوا ..) وترجم فيه للشاعر الفجيجي وذكر شيوخه، ثم قال: (هذا، وإني عزمت أن أجعل عليها (أي القصيدة) شرحا .. مع ما أنا فيه من أهوال فاغرة، وأرضنا من شروحها شاغرة، وسميته بالشقائق النعمانية، الخ) وكان أبو راس يسير في هذا الشرح على نفس النمط الذي سار عليه في شروحه الأخرى فيذكر اللطائف والغرائب والفوائد والتنبيهات، واعتذر في آخر الكتاب على أنه قد يكون فاتته معاني بعض الكلمات لغموضها وغرابتها (3).
__________
(1) اطلعنا على الجزء الأول فقط وهو ضخم، جميل الخط، مذهب، حسن التجليد، بلغ 257 ورقة (مع بياض من 147 إلى 150)، انظر المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 1893، وفي فاتحة النسخة أربعة أبيات في مدح هذا الشرح نظمها السنوسي ابن الحاج عبد القادر الدحاوي، وفيها أيضا إمضاء أحمد بن حنيفي عبد الله المعسكري.
(2) دار الكتب المصرية، تيمور 3 فروسية، وهي في حوالي 160 صفحة.
(3) النسخة التي اطلعنا عليها لا تحمل اسم ناسخ ولا تاريخ نسخ، وفيها انتقالات بالحبر =
ومع ادعاء أبي راس بأن (أرضنا من شروحها شاغرة) فإن غيره قد سبقه إلى شرحها بقرنين على الأقل، ففي سنة 986 ألف أبو القاسم بن محمد بن عبد الجبار الفجيجي التلمساني شرحه الجيد على القصيدة السلوانية، وسماه (الفريد في تقييد الشريد، وتوصيد الوبيد) (1)، وهو أحق بأن يدعى أنه لم يسبق إلى شرحها، فقد قال: (ولم يسبقني إليها أحد بشرح أنصبه أمامي، واتخذه إمامي، ووددت أن ذلك كائن فيسعني الامتناع، أو يسبقني إليها سابق يكون لي فيه أسوة الانتفاع، مع أنها جديرة بالاهتبال، عديمة المثال، لأنها تضمنت من اللغة وفقه الصيد ومحاسن النزهة ورفع الهمة والنباهة ما لا يسع الحازم رفضه، حتى يستكمل غرضه، فشرعت في وضع تعليق عليها يوضح إن شاء الله غريبها ويدني أبيها، مشيرا إلى ما لا بد من المعنى اللائق لكل بيت دون استيفاء ما يستحق لفظها، إذ لو تتبعت استقصاء المعاني والحكايات لأربى على المجلدات) (2)، ولا نعتقد أن الجزائر كانت خالية من هذا الشرح، والغالب أن أبا راس، الذي كان ولوعا بشرح الآثار الأدبية، لم يشأ أن يفوته شرح قصيدة أخذت شهرة واسعة بين الأدباء والولاة، مثل قصيدة الصيد التي نظمها الشاعر إبراهيم الفجيجي.
ولأبي راس أيضا شرح أدبي لغوي هذا موضعه، فقد ألف مسلم بن
__________
= الأحمر، وهي بخط مغربي جيد، وقد ضبط فيها أبو راس اسمه بأنه (الناصر) وليس (الناصري)، كما هو الشائع، فقد قال (أما بعد فيقول العبد المقل القاصر، محمد أبو راس الناصر).
(1) في بعض النسخ (الشريد في تقييد الشريد وترشيد الوليد).
(2) نقلا عن (روضة السلوان) ط. الجزائر 1959، 15 - 16، وتوجد من شرح الفجيجي نسخة في مكتبة الهامل نواحي بوسعادة اطلع عليها نور الدين عبد القادر وقال إنها جيدة، وقد ترجم الفجيجي لناظم القصيدة وبناء عليه فإنه تلقى العلم في المغرب والمشرق وتوفي ببلاد السودان القديم، وكان حيا سنة 920، أما أبو القاسم شارح القصيدة فقد توفي سنة 1021. انظر (نشر المثاني) 1/ 247 وبروكلمان 2/ 168، وتوجد من الشرح أيضا نسخة في مكتبة حسن حسني عبد الوهاب بتونس، رقم 18312.
عبد القادر كتابا صغيرا في الحكم والمواعظ والآداب والأمثال، رتبه على حروف المعجم وجعله فصولا، عدد منازل القمر، ويبدو أنه كانت لمسلم بن عبد القادر دالة على أبي راس، ذلك أنه هو نفسه الذي طلب منه شرح عمله، فقام مدفوعا بدوافع خارجية لا ذاتية، ولذلك جاء شرحه مختصرا ولا يدل على براعته المعهودة ولا على غزارة حفظه، وقد جاء في ديباجة الشرح أن العلماء قد سبق لهم أن ألفوا في الحكم والمواعظ إلى أن خلت الديار بعدهم، (حتى رمى الدهر العقيم بواحد، من صميم آل حمير وكهلان الأماجد، وممن انقادت إليهم أزمة ذوي الأقدار والمقادر، السيد مسلم بن عبد القادر، فإنه من أجل أدباء هذا الزمان، وأحرزهم لقصب السبق في هذا الميدان، فإنه أتى من درر النظم والنثر، ما يقصر عنه أهل العصر) (1).
وسار أبو راس في شرحه على (ما يقتضيه المقام من المواعظ المبكية والمفاكهات، أو ما يدل على أسلوب البلغاء في بعض المطارحات). وسمى شرحه (إسماع الأصم وشفاء السقم في الأمثال والحكم)، وقد أورد فيه الشعر والأمثال والمأثور من القصص والحكم، وهو يذكر حروف المعجم واحدا بعد الآخر مبتدئا بالألف: أدبك ثوبك، ووجهك عرضك، الأدب سلاح زمان الكفاح، ثم حرف الباء: برك بذر، فانبت زرعك، البذر بر، إذا كان المطر، وهكذا. ولا شك أن لهذا التأليف أهمية خاصة في دراسة الأمثال والحكم الشعبية السائدة عندئذ، رغم أن عبارته فصيحة، وقد شكا أبو راس، كعادته، في آخر كتابه من العصر وأهله ومن أحواله المادية والصحية (2). ويدخل في هذا الباب أيضا تأليف محمود بن الطاهر بن حوا الذي سماه (نظم الجواهر في سلك أهل البصائر) الذي شرح به أحد أعمال مسلم بن
__________
(1) عن مسلم بن عبد القادر انظر فصل التاريخ من هذا الجزء.
(2) المكتبة الملكية. الرباط، 5553 في 44 ورقة من الحجم الصغير، وتعود هذه النسخة إلى سنة 1234، أي أثناء حياة أبي راس، وقد تكون آخر ما ألف، لأنه غير مذكور في قائمة تأليفه الأخرى التي ذكرها في (فتح الإله ومنته). والغالب على الظن أن النسخة بخطه.
عبد القادر أيضا، وكان لمسلم هذا أتباع ومريدون من الأدباء يشملهم برعايته، ومنهم محمود بن حوا المذكور (1).
وآخر هذه الشروح الأدبية التي ندرسها هو (نبذ - أو نبز؟ - العجم على لامية العجم) لمحمد بن أحمد بن قاسم البوني، وهو الشرح الذي اختصر به شرحا آخر قام به جلال بن خضر الحنفي على نفس اللامية. وأشار البوني إلى أن بعضهم قد طلب منه القيام بهذه المهمة فسأل عن شرح في بلاده على اللامية فلم يجده لأن (ربوع هذا العلم قد درست عليه الدارسات، وذرت رسومه الذاريات)، وهكذا تعين عليه أن يقوم بالشرح، وقد ترجم للحسين بن علي الطغرائي صاحب لامية العجم، باختصار وقارن لاميته بلامية العرب للشنفري، وأشاد بلامية الطغرائي ذاكرا أن صاحبها قد حاز قصب السبق في فنون الأدب والبديع وأن القصيدة نفسها قد (لمع برق نوئها وأزاح غياهب الظلم، كيف (لا) ومعانيها قد عنت معانيها) وأراد هو من هذا الشرح تزيين فرائد عقدها، وأن يضيء. . قلائد جيدها) وقد سار فيه على طريقة شبيهة بزملائه الآخرين، فهو يعرض للغة والمعنى والإعراب ومغزى الأبيات ومبناها، كل ذلك، كما قال، (بألفاظ رقيقة وعبارات أنيقة) وافتتح عمله، بعد ذلك، بطالع اللامية:
أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل (2)
__________
(1) المكتبة الوطنية بالجزائر رقم 0893، ولمحمود بن حوا تأليف آخر بعنوان (زهر الآداب).
(2) المكتبة الوطنية - الجزائر 2266 مجموع من ورقة 92 إلى 110، في آخرها سنة 966 بالقسنطنطينية، أما ناسخها فهو علي بن محمد بن موسى الملقب بالجرود سنة 1144، ولا نعرف الآن المزيد عن محمد بن أحمد بن قاسم البوني، والمعروف أن لأحمد بن قاسم البوني ولدين اشتهرا بالعلم، ونعرف أن أحدهما وهو أحمد الزروق كان حيا سنة 1157 ولكننا لا نعرف اسم الآخر، فهل شارح اللامية هو أخوه؟ ومن جهة أخرى ينسب إلى بركات بن باديس شرح على لامية العجم للطغرائي أيضا. ولكننا لم نطلع عليه.
ولا شك أن هناك عددا آخر من الشروح الأدبية التي تتناول قصائد أو مقامات أو نحوها من الأعمال ذات الطابع اللغوي والبلاغي (1)، ولم نقصد بذكر النماذج السابقة سوى إعطاء فكرة عن الميادين التي كان النثر الفني يستعمل فيها، فالأدباء كانوا يظهرون براعتهم في عدة ميادين، ومنها الشروح الأدبية التي كانت تعطيهم فرصة لاستعراض محفوظاتهم وذوقهم الأدبي والنقدي ومدى اطلاعهم على تاريخ الأدب والحضارة بوجه عام، وكان هؤلاء الأدباء لا يقصدون إلى السجع إلا في المقدمات أو الديباجة للعمل الذي يدرسون، فالعبارة عادة مرسلة مع طول الجملة وتعثرها أحيانا بالاعتراضات والاستطراد، كما أن الشروح الأدبية تعكس ثقافة العصر، فأصحابها كانوا غالبا ما ينمقون أسلوبهم بالمأثور من العبادات الدينية والحكمية. ومهما كان الأمر فإن هذه الشروح في نظرنا تمثل شكلا من أشكال النثر الأدبي الذي شاع في العهد العثماني.
التقاريظ والإجازات والعقود:
ومن أشكال النثر الأدبي أيضا التقاريظ وبعض الإجازات والعقود والتعازي ونحو ذلك مما كان النثر فيه وسيلة للتعبير دون الشعر.
وفي التقاريظ تسيطر الروح الإخوانية على الأسلوب، وتبرز ثقافة الكاتب الأدبية واللغوية، ولدينا جملة من هذه التقاريظ التي كان يتناولها العلماء والأدباء على السواء، وكانت في موضوعات فقهية كما كانت في موضوعات أدبية أو غيرها، فالمهم هنا هو الأسلوب الذي كتب به التقريظ وليس الموضوع المقرظ.
أما الإجازات فقد عرفنا أنها تتناول السند وسرد أسماء الشيوخ ومواد
__________
(1) من ذلك أيضا حاشية أحمد بن عمار على الخفاجي، وقد ذكرها له أبو راس في (فتح الإله)، وقال إنها (عاطرة الأنسام قبلتها أزهار ثغور أزهار العلوم في افترار وابتسام). وكان أبو راس قد اطلع عليها، وهو من تلاميذ ابن عمار. انظر الخزانة العامة بالرباط ك 2263.
الدراسة، ولكن صيغة بعض الإجازات رغم موضوعها وثبوتها على شكل واحد تقريبا، كانت أقرب إلى الأسلوب الأدبي، لأن أصحابها كانوا من الأدباء المهرة فيضفون عليها طابعهم وذوقهم، وبذلك تصبح الإجازة أيضا قطعة أدبية من حيث الأسلوب على الأقل. ولدينا شواهد على ذلك أيضا.
وبالإضافة إلى ذلك كان الكتاب يفتنون في كتابة العقود، لا سيما عقود الزواج، ويظهرون براعتهم اللغوية والأسلوبية حتى أصبح العقد النموذجي يقلد في المناسبات المشابهة، وكان بعض القضاة أدباء بطبعهم يحذقون اللغة ويتذوقون الأسلوب الأدبي، فكانوا يمزجون ثقافتهم الفقهية والقانونية بثقافتهم الأدبية واللغوية، وبذلك أعطونا نماذج من العقود التي غلب عليها الطابع
لأدبي.
وفي أغلب الأحيان كان المقرظ يمزج في تقريظه بين النثر والشعر، ويحفل العهد العثمانى بعدد من هذه التقاريظ، ونود أن نذكر منها تقريظ أحمد بن عمار لكتاب (الدرر على المختصر) الذي وضعه ابن حمادوش في المنطق (1)، وكان ابن عمار، كما سنعرف، من أقطاب الصنعة الأدبي نثرا وشعرا، وكان غالبا ما يسجع ويكثر من المحسنات البديعية. ومما جاء في تقريظه للكتاب المذكور نثرا قوله: (ناهيك به مؤلفا جموعا، مبذولا خيره لا ممنوعا، قد أحكم فيه الرصف والالتئام، واستخدم لطائف المعاني في بديع الكلام، حتى أفض عن (المختصر) الختام، وكشف عن وجوه خرائده اللثام، ووضع كنوز فرائده على طرف الثمام، فأصبح به إذ ذاك في أعلا الذرى، وطلع في سماء المعالي والمكارم بدرا، هذا ولا عيب فيه غير أنه كتاب صغر جرما، وغزر علما، قد أودع فيه من لطائف المعاني العجيبة الرائقة، والألفاظ البديعة الفائقة، ما هز به أعطاف الآداب، واستمال قلوب أولي الألباب). وقد ختم ابن عمار تقريظه بستة أبيات من الشعر على هذا النحو:
__________
(1) انظر رحلة ابن حمادوش، طبع الجزائر، 1983، والتقريظ في حوالي أربع صفحات.
هنيئا هنيئا أيا مختصر ... بشرح بديع جموع أغر وقد احتوت رحلة ابن حمادوش على تقاريظ أخرى له من علماء الجزائر، ولكنها لم تبلغ في المستوى الأدبي نثر ابن عمار.
وأورد أحمد بن سحنون شارح (العقيقة) ثلاثة تقاريظ أيضا من علماء وأدباء بلاده تعتبر من النماذج الأدبية الجيدة، نعرف اثنين منهم ولكننا نجهل المقرظ الثالث، وأولهم المفتي محمد بن الشاهد، الذي كان من الأدباءالبارزين في وقته ومن الشعراء أيضا، وقد وضع التقريظ في شكل رسالة إلى ابن سحنون بعد أن اطلع على تأليفه (الأزهار الشقيقة). فأشاد ابن الشاهد بالعمل وبنبوغ صاحبه رغم نضارة عوده، وقد سماه في التقريظ (الشاب الضريف (كذا)، الناضر روض أدبه الوريف، أبو العباس أحمد بن محمد بن علي الشريف). ومن هذا التقريظ وغيره نعرف أن ابن سحنون كان سنة 1202، وهي سنة التأليف والتقريظ أيضا، ما يزال في مقتبل العمر، وكان تقريظ المفتى ابن الشاهد فى صفحتين وبأسلوب أدبي جيد، ونفس الشيء يقال عن تقريظ المختار بن عمر الصنهاجي الملقب انكروف، الذي لا نعرف عنه الآن غير هذا، فهو لم يستعمل الشعر أيضا في تقريظه الذي كتبه سنة 1202 من صفحتين، كما أنه وصف ابن سحنون بالشاب اليافع وأنه قام بعمل ضخم فيه أدب ونقد وبلاغة وتاريخ. أما التقريظ الثالث الذي قلنا إنه لمجهول فيغلب على الظن أنه لأحمد بن عمار لأن أسلوبه كأسلوبه، ومع ذلك لا نستطيع الآن الجزم بذلك، ويتفق هذا التقريظ مع الأولين في التاريخ والحجم والإشادة بالعقيقة وناظمها وبالمؤلف الذي تكلف شرحها رغم صغر سنه، ولكن هذا المقرظ اختلف عن زميليه في كونه جمع بين النثر والشعر، وبذلك تكون هذه القطع الثلاث نماذج من النثر الأدبي في أوائل القرن الثالث عشر (1).
ومن التقاريظ الجيدة أيضا ما كتبه أحمد بن عمار سنة 1196 كتقريظ
__________
(1) انظر هذه التقاريظ في أول كتاب (الأزهار الشقيقة)، دار الكتب المصرية رقم 12160 ز.
لرسالة في التوحيد، ألفها صديقه الوزير التونسي الحاج حمودة بن عبد العزيز صاحب (الكتاب الباشي)، وتذكر المصادر أن التقريظ يقع في صفحتين ونصف من الحجم الكبير وأنه بخط صاحبه وختمه، وقد أجاد فيه ابن عمار، كعادته، في اتخاذ الصنعة البيانية والبديعية، وذكر فيه أن حمودة بن عبد العزيز قد أصاب المحز في أجوبته على الأسئلة التي كان قد وجهها له بعض علماء قسنطينة، وأشاد به لأنه من أهل السنة، ومما جاء فيها قول ابن عمار: (وقد أطلعني .. على الرسالة المحبرة، المنقحة المحررة، التي لهذا التاريخ أملاها، وأولاها من باهر التحقيق والتدقيق ما أولاها، وضمنها أجوبة على أسئلة كلامية وردت .. على الحضرة، ذات البهجة والنصرة، فنظرتها بعين المنة والإنصاف، مجانبا للتعصب والتعسف شيمة سليمي الصدر كاملي الأوصاف، ايه أيها الساري ولا رفيق، إلا التوفيق، ويا أيها الشاري خذ أحرار النفوس فكل لذلك الطبع الرقيق رقيق، هكذا هكذا، وفي عين الشاني القذى، أطلع شموس معارفك وعوارفك في أفلاك البداعة والاتقان، وزين سماء رئاستك وسياستك من فضائلك وفواضلك بأبهي النجوم الزاهرة والزبرقان، جادل عن الملة الحنيفية بلسانها، وجالد بسيف السنة ودافع بإحسانها ..) (1)، وعلى هذا الأسلوب الجميل الرائق سار ابن عمار في تقريظه لصديقه، شعرا ونثرا، وكان ذلك أيام إقامته بتونس التي كان قد ورد عليها سنة 1195، كما سيأتي في ترجمته.
وما دام الطابع الأدبي هو الغالب على ابن عمار فإن إجازته أيضا قد اصطبغت بهذا الطابع. وقد منح لغيره عدة إجازات مثل إبراهيم السيالة التونسي، وعبد الستار بن عبد الوهاب المكي الهندي، وله ثبت كما عرفنا،
__________
(1) انظر (الكتاب الباشي) تحقيق محمد ماضور، تونس 1970، 69 - 20، ومن التقاريظ أيضا رسالة المفتي علي بن عبد القادر بن الأمين إلى أبي راس الناصر في كتابه (الحلل الحريرية) الذي شرح به أبو راس مقامات الحريري، وتبلغ الرسالة التي ذكرها أبو راس في كتابه (فتح الإله) صفحة ونصفا، وفيها بيتان من الشعر، وهي رسالة أدبية متصنعة، وكان ذلك عند زيارة أبي راس لمدينة الجزائر سنة 1214.
ولدينا نموذج من إجازته لمحمد خليل المرادي الشامي، وهي رغم قصرها جيدة النسج قوية العبارة ومسجعة في أغلبها، ومما جاء فيها قول ابن عمار بعد التحميد والصلاة على الرسول (صلى الله عليه وسلم) (فقد روينا بتوفيق الله ويمنه، وإعانته وعونه، عدة وافرة، مخدراتها سافرة، من كتب العلوم الشرعية، والفنون المرعية، من منقول ومعقول، وفروع وأصول، ورقائق وآداب، وسائر ما يجذب بتلك الأهداب، عن مشائخ جلة، يروق بهم الدهر وتزدهي بهم الملة، من أهل الغرب والشرق، وجهابذة الجمع والفرق، فمن أهل الحرم المكي، من سطع عبير ذكره سطوع الأرج المسكي، خاتمة المسندين، وأول القداة المرشدين .. هذا وقد أجزت السيد المستجيز المجاز، ورجل الحقيقة لا المجاز، مفتي الشام، والغيث الذي تستمطر بروقه وتشام، السيد محمد خليل المذكور أعلاه، دام فضله وعلاه) (1) الخ.
ونود أن نسوف نموذجا ثانيا من الإجازات الأدبية، ونعني بذلك إجازة عمر المانجلاتي إلى ابن زاكور المغربي، وهي بالطبع أقدم زمنا من إجازة ابن عمار، وكان المانجلاتي من الفقهاء الأدباء، فقد درس علي سعيد قدورة وعلي بن عبد الواحد الأنصاري، وبدأ الإجازة بالسجع ثم استرسل، فكأن السجع، مثل الشعر، يقصده الكتاب للتعبير عن خلجات أنفسهم، فإذا تناولوا الحقائق المجردة عمدوا إلى النثر المرسل. وهذا نمودج من الجزء المسجع من الإجازة (وبعد، فقد اجتمعت بالشاب الأديب، الأريب الحاذق اللبيب، السيد محمد بن قاسم بن زاكور، فرأيت من حرصه واعتنائه واشتغاله بما يعنيه ما أعجبني، وفيه قابلية لما يلقى إليه مع ذهن ثاقب، وفهم صائب، ومشاركة في فنون من العلوم .. فطلب مني أن أجيزه فامتنعت لأني في نفسي لست من أهل هذا الشأن، ولا من فرسان ذلك الميدان، فألح علي المرة بعد المرة لظنه الجميل، أني من هذا القبيل، فأسعفت طلبته حرصا على جبر خاطره، خشية من كسر قلبه، لأن كسر القلوب في كسر القلوب وجبرها في
__________
(1) إجازة ابن عمار للمرادي نسخة خاصة مصورة في صفحة كبيرة، كتبت سنة 1205 بخط ابن عمار، نشرنا هذه الإجازة في مجلة (الثقافة) الجزائرية عدد 45، 1978.
جبرها، فأجزته أن يروي عني ما رويته عن أشياخي من الفنون التي أسردها بشرطها المعتبر، عند أهل النظر ..)، ثم ذكر المانجلاتي مشائخه والكتب التي قرأها عليهم في أسلوب سهل مرسل (1).
وفي رحلة ابن حمادوش نصوص لعقود زواج مختلفة منها الفقهي التقليدي ومنها الأدبي الاجتماعي، ومنها الذي كتب لبكر والذي كتب لثيب، ومنها القصير ومنها المطول، وجميعها تصلح نموذجا لدراسة الحياة الاجتماعية. ومما أورده ابن حمادوش كصيغة لعقد زواج بكر، العقد الذي كتبه العالم الأديب محمد بن عبد المؤمن، وقد لاحظ ابن حمادوش بأن صيغة هذا العقد قد أصبحت محل تقليد الموثقين عند كتابة عقود الزواج، ومن أبرز من قلد صيغة ابن عبد المؤمن، القاضي محمد بن المسيسني عند كتابة عقد زواج حفيد إبراهيم باشا بالجزائر عندئذ. وهذا جزء مما كتبه محمد بن عبد المؤمن سنة 1087 أثناء زواج عبد الرحمن المرتضى، حفيد سعيد قدورة. . (وبعد هذا القول الذي أشرقت أنواره في رقم هذا الرقيم، وسقى أرضها الأريضة من در عنصر البلاغة من نثر البراعة ما أبان عن فضل العلم الموهوب من الحكيم العليم، فنمق أديمها بسطره الأبهج، وعطر أنفاسها بتنميق زهره الأبلج، كأنه الحلة السيراء نشرت في غرة الصباح، فأضاءت لها الأباطح والربا وأغنتها إغناء الصباح عن المصباح، فإن النكاح جالب اليسار، حافظ الحسب والمقدار ..) ويشغل العقد من رحلة ابن حمادوش حوالي خمس صفحات، وكله, على هذا النحو من الأسلوب مع تفصيل الصداق وتدقيق في ذكر الالتزام من الطرفين. وبعد أن أورده ابن حمادوش ذكر أن (عليه عادة بلادنا وبمثله جرى العمل عندنا) (2).
ورغم ذلك فإنه يبدو أن صيغة هذا العقد متكلفة ومصطنعة، مع طول
__________
(1) (رحلة) ابن زاكور، ص 8 - 9.
(2) (رحلة) ابن حمادوش، وكان ابن عبد المؤمن من كبار القضاة، وقد توفي سنة 1101. أما عبد الرحمن المرتضى فقد كان من الأشراف وتولى الإفتاء المالكي عدة مرات خلال القرن الثاني عشر.
الجملة واستعمال السجع الثقيل ورتابة الإضافات، ومن جهة آخرى فإن تقليده من قبل الموثقين الآخرين يدل على العجز أكثر مما يدل على الإعجاب به، فقد طغى الأسلوب الفقهي عندهم، فبدا لهم هذا العقد وكأنه شيء عجب، ولعل شمول هذا العقد لنواحي الالتزام ودقته كانت من بين الأسباب التى جعلته نموذجا عند المقلدين والذي نخلص إليه هو أن التقاريظ
والإجازات والعقود كانت ميدانا خصبا لإظهار تفوق الكتاب والقضاة وبيان مقدرتهم الأدبية بالنثر المسجع والمرسل.
الرسائل:
احتلت الرسائل في كل عصر حيزا كبيرا من اهتمام الأدباء والموظفين والأصدقاء والأحباء، ومن العادة أن تقسم الرسائل إلى رسمية (ديوانية) وإخوانيه، وقبل الخوض في كل نوع نود أن نذكر بأن بعض الجزائريين كانوا مكثرين في كتابه الرسائل وبعضهم كانوا مقلين، وهذا بالطبع يعود إلى مزاج كل أديب ومدى علاقاته الإنسانية والاجتماعية، فعبد الكريم الفكون مثلا كانت له علاقات كثيرة ومراسلات تبعا لذلك، وكذلك كان الأمر مع أحمد المقري وسعيد قدورة وأحمد بن عمار، ومن حسن الحظ أن الوثائق تحفظ لنا نماذج من هذه الرسائل الإخوانية، ويبدو أن بعضهم كان متميزا في عصره بكتابة الرسائل الجيدة كما كان غيره متميزا بنظم الشعر الجيد.
وقد جمع محمد بن محمد القالي بين النثر والشعر، وعبر بكليهما ليصل إلى قلب محمد بكداش باشا ويشكو إليه حاله، ومدح الباشا بأنه من كبار السلاطين كما مدح في شخصه حكم الترك وأشاد بأصلهم ونوه بفضلهم على الدين والقطر الجزائري أيضا، ولعل هذا الموقف هو الذي جعل الباشا يخصص له خراجا من أوقاف سبل الخيرات (1) العثمانية بالجزائر (ليعالج به داء النكبات.) كما قال ابن ميمون، وقد جاء في رسالة القالي لبكداش: (جل
__________
(1) عن (سبل الخيرات) انظر الفصل الثالث من الجزء الأول، وهي مؤسسة وقف حنفية.
الله تعالى مالك الملك، ومقيم قسطاس العدل بما أراده من إعزاز السادات الترك .. جمع سبحانه وتعالى بهم كلمة الدين الحنيف، وآثرهم بهذا الملك الكبير وهذا العز المنيف، وشرفهم بما وهبهم من الرتب العالية، وهم أصل للرفعة والتشريف، وخصهم بمكارم الأخلاق ونزاهة الأقدار، وجعلهم بهذا القطر رحمة للعباد، وأخمد بشوكتهم نار الفتنة والعناد، فسلكت بهم السبل وأمنت بهم البلاد، لطفا منه سبحانه بهذه الأقطار، نسأل الله .. أن يبقى جنابهم السعيد عاليا على كل جناب، وأن يخلد الملك فيهم على مرور الدهور وانقضاء الأعمار ..).
وبعد هذه المقدمة العامة التي تخص الترك وحكمهم انتقل القالي إلى موضوعه الرئيسي وهو مدح الباشا نثرا أيضا والدعاء له ولدولته بالنصر والتمكين، وأخيرا تخلص إلى غرضه وهو طلب الإعانة والعطايا، وهذه عباراته في هذا الصدد (.. وبعد، فإن الله تعالى من على المسلمين بسيدنا ومولانا سلطان الملوك والأكابر، المخصوص بأفضل الشمائل والمأثر، الإمام العادل، السلطان الفاضل، العالم العامل، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، الذي أطلعه الله في سماء الجلالة بدرا، ورفع له في درجات الأمراء قدرا، وأجرى له على ألسنة الخلق ثناء جميلا وذكرا، فأصبح الدين مبتهجا بكريم دولته، وجناب الكفر مهتظما بعظيم صولته، مولانا وسيدنا محمد خوجا الدولاتلي (1)، أبقى الله تعالى أيامه، وأصحب النصر والتمكين ألويته وأعلامه، وهو نصره الله، أجل من استعين به فكان خير معين، وأعطى مفاتيح فتلقاها باليمين، وأفضل من امتثل قوله (صلى الله عليه وسلم): من فرج على أخيه المؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عليه كربة من كرب
الآخرة، إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية والآيات القرآنية، حسبما أحاط به
__________
(1) هذا هو لقب الباشوات في الجزائر منذ العهد المعروف بعهد الباشوات، أي منذ سنة 1075، والعبارة تعني أنه باشا وداي في نفس الوقت، أي أنه ممثل للسلطان وحاكم الجزائر، وأول من تسمى كذلك، حسب رواية ابن حمادوش، هو القبطان الحاج محمد التريكي.
علم مولانا، نصره الله، من مروي ومنقول. .) (1).
ورغم غلبة السجع، فإن عبارة القالي سهلة واضحة، ويظهر على أسلوبه التأثير السياسي والديني، فإذا نظرنا إلى الألقاب وأوصاف الملك نجد القالي متأثرا بالجو السياسي للعصر، رغم أن الباشا لم يكن سلطانا هكذا وإنما السلطان هو خليفة المسلمين في إسطانبول، ولعل ذلك منه كان بقصد المبالغة لا الجهل، أما التأثر الديني فيظهر من عبارات الأدعية والتضمين التي وردت في نص الرسالة، ومن الغريب أن محمد بكداش الذي حرك مشاعر القالي وأطمعه في ماله وإحسانه، كما حرك وأطمع غيره من الكتاب والشعراء، لم يحكم الجزائر أكثر من ثلاث سنوات لم تكن كلها استقرارا وأمنا، ولا ندري ماذا سيكون عليه حاله عند الكتاب والشعراء لو ظل في الحكم مدة أطول.
ونصل الآن إلى ما أسميناه بالرسائل الرسمية أو الديوانية، والواقع أن سيطرة اللغة التركية على الإدارة في الجزائر قد جعلت الرسائل العربية لا تظهر إلا في النادر، وهي إذ تظهر لا يراعي فيها الإجادة بقدر ما كان يراعي فيها التوصيل والفائدة، وكانت أحيانا تأتي متكلفة ركيكة لأن أصحابها كانوا يحاولون ما ليس من شأنهم بطريقة تذكر المرء بما كان يفعله باللغة العربية بعض المستعربين الفرنسيين أو المتفرنسين الجزائريين أثناء العهد الفرنسي، حقا إن بعض الباشوات قد اتخذوا لهم كتابا عربا يحذقون اللغة، كما فعل يوسف باشا ومحمد بكداش باشا، وحقا أيضا أن بعض البايات قد وظفوا بعض الأدباء والمؤرخين العرب، كما فعل محمد الكبير في معسكر والحاج أحمد في قسنطينة، ولكن الغالب على الإدارة العثمانية في الجزائر اتخاذ التركية في المعاملات والوقائع الرسمية، وبذلك أضرت باللغة العربية إضرارا شديدا وحرمتها من ميدان هي به أولى، ولذلك لا نجد من الرسائل الديوانية العربية إلا القليل.
__________
(1) ابن ميمون (التحفة المرضية) مخطوط باريس، 74 - 78.
ومن هذا القليل ما تبادله يوسف باشا مع محمد ساسي البوني. ففي ذي الحجة من سنة 1050 أرسل الباشا رسالة منمقة إلى العالم المرابط محمد ساسي (1) بعنابة حدثه فيها عن عدوله عن حرب الإسبان بوهران والتوجه بدلا من ذلك، إلى قسنطينة وبسكرة لمحاربة المتمردين (ثورة ابن الصخري)، وطلب الباشا من المرابط العمل على جلب طاعة الناس والقيام بدور العلماء في مثل هذه الأحوال باعتباره عالم تلك المدينة والنواحي المجاورة لها، ويبدو من الرسالة أن كاتبها أديب بارع متمكن من صناعة الإنشاء والأسايب البديعية، وهي في ثلاث صفحات، وقد رد محمد ساسي برسالة من عنده طالبا من الباشا العفو على أهالي عنابة ونواحيها، بعد أن تأكد أن الباشا قادم إليها لمعاقبة الثوار والمشايعين لهم، وأخبره بأنه يدعو الله أن يغير من أحوال السوء التي نزلت بالباشا وأبدى له الأسف عما وقع ضده، وناشده الصبر وعدم تصديق ما نقله الناس إليه، كما أخبره أنه لن ينسى وده. ورغم أن رسالة محمد ساسي ليست ديوانية بالمعنى المصطلح عليه فإنها متصلة بهذا المعنى اتصالا مباشرا.
أما الرسالة الثانية الديوانية الصادرة عن الباشا والموجهة إلى محمد ساسي أيضا فهي بتاريخ أوائل صفر سنة 1051، ردا على رسالة المرابط السابقة، فقد مدح الباشا فيها محمد ساسي بالولاية والصلاح وأخبره أن الرسالة في طلب العفو لأهل عنابة قد وصلته، ونازعه في القول القائل إن العامة لا تعرف المصالح العليا، مذكرا له بأنهم قد استوجبوا النقمة على أنفسهم ما داموا قد ثاروا أو شايعوا الثورة، ولكنه، مع ذلك، سيعفو عنهم استجابة لطلب الشيخ، بشرط أن يقوم هو (محمد ساسي) من جهته بواجبه في تعريف الناس بما يجب عليهم نحو الحاكم ونحو السلطان (2).
وضمن هذه المجموعة من الرسائل الديوانية توجد رسالة من محمد
__________
(1) انظر عنه الفصل السادس من الجزء الأول.
(2) نفس الرسائل الثلاث في المكتبة الوطنية. باريس، رقم 6724، وقد درسنا هذه الرسائل ونشرناها في (الثقافة) عدد 51، 1979.
بكداش إلى أحمد البوني (1)، حفيد محمد ساسي المذكور، وتاريخ هذه الرسالة هو جمادي الآخرة سنة 1115، ولم يكن بكدارش عندئذ قد تولى الباشوية بل كان ما يزال مسؤولا فقط على خبز العسكر، وقد بدأ رسالته بمدح وإطراء الشيخ والاعتراف له بالعلم والولاية، ثم السؤال عنه وعن أهله وعشيرته، وكان الباشا في الواقع يرد على رسالة وصلته من الشيخ ذكرته، كما قال، بأيام خوال وذكريات عطرات، وفي هذا إشارة إلى أن بكداش كان قد زار الشيخ قبل توليه الحكم، وأخبره أيضا أنه أطلع علماء مدينة الجزائر على تأليفه وتقاييده فتأثروا لذلك (2). وتكاد هذه الرسالة تكون من الرسائل الإخوانية، رغم أنها صادرة عن جهة رسمية.
ومهما كان الأمر فإن هذه الرسائل جميعا تعتمد النثر المسجوع وتضمن النص آيات قرآنية وأحاديث نبوية وأخبارا تاريخية وأحيانا بعض الأبيات الشعرية إما من نظم الكاتب أو من محفوظاته الخاصة، كما أنها تهتم بالمحسنات البديعية بكثرة، واستعمال التلغيز والتلميح والتورية، وتسير على طول المقدمة أو الديباجة والتفنن فيها بصفة خاصة، والدعاء للمرسل إليه، ونحو ذلك من الأساليب الإنشائية التي لم تكن بدعا في حد ذاتها.
وقد عثرنا على رسالة ديوانية تعود إلى سنة 1064 فوجدناها رسالة أدبية قوية، رغم أنها مغرقة في التكلف والصنعة، وكاتب الرسالة هو المحجوب الحضري (3) على لسان الباشا عثمان (4) إلى سلطان المغرب
__________
(1) انظر عنه الفصل الأول من هذا الجزء.
(2) توجد هذه الرسالة أيضا في المكتبة الوطنية - باريس، رقم 6724. انظر أيضا (الثقافة) عدد 51، 1979.
(3) لم نستطع أن نجد له أثرا آخر غير هذه الرسالة، ولم نجد من ترجم له أو تحدث عنه، ولعله كان من مدينة الجزائر مثل قريبه الذي ورد اسمه في الرسالة، وهو الحاج محمد بن علي الحضري المزغنائي، أي من مزغنة (مدينة الجزائر).
(4) ليس في قائمة ابن حمادوش عن باشوات الجزائر اسم هذا الباشا الذي ينطق بالتركية عصمان.
عندئذ، وهو محمد بن الشريف صاحب سجلماسة، وموضوعها هو العتاب الشديد لمحمد بن الشريف على إثارته أهل تلمسان وندرومة والأغواط وغيرهم ضد العثمانيين، وجاء في الرد المغربي التعريض (بالأعلاج) وهم الترك. والذي يهمنا هنا ليس موضوع الرسالة، لأن ذلك في الواقع يهم المؤرخين بالدرجة الأولى، ولكن يهمنا منها الأسلوب الذي كتبت به. انظر إلى هذا التصنع في العبارات وطول الجمل وكثرة الإضافات وتصيد الألفاط الناشزة (سلام عليكم ما رصع الجفان سموت البحور، ولمح الجواهر الحسان على أزهار رياض النحور، ورحمة الله تعالى وببركاته، ما أساغت محضر الجلال ذكاته، فقد كاتبنا كم من مغنى غنيمة الظاعن والمقيم والزائر، رباط الجريد، مدينة الجزائر، صان الله من البر والبحر عرضها، وأقر من زعازع العواصف أرضها، إلماعا لكم، معادن الرياسة، وفرسان الغابة والعيافة والفراسة، فضلا عن سماء صحا من الغيم والقتام جوه، وضحى نشرت عليه الوديقة وشيها ففشا ضوه. . إن شؤون المملكة التي يتوارى عن مكنونهم أمرها).
ثم فصلت الرسالة أحداث مستغانم وتلمسان وندرومة والأغواظ ومازونة، ووصفت بإسهاب (الإيالة العصمانية) وقوتها، وفي آخرها أشارت إلى أن الباشا عصمان قد أرسل إلى المغرب عالمين وقائدين عسكريين لفتح المفاوضات وربط العلاقات، (إننا قد شيعنا نحوكم أربع صحاب، تشرق بمجالستهم الخواطر والرحاب، الفقيه الوجيه سيدي عبد الله بن عبد الغفار النفزي والسيد الحاج الأبر محمد بن عبد الله الحضري المزغناي المغراوي، واثنين من أركان ديواننا وقواعد إيواننا، أتراك سيوط (؟)، وغاية غرضنا منكم جميل الجواب، بما هو أصفى وأصدق جواب) (1).
__________
(1) عثرنا على هذه الرسالة في المكتبة الملكية بالرباط، رقم 4485 مجموع، وهي في ثلاث ورقات من الحجم الصغير، وبعدها مباشرة يأتي الرد المغربي، وبعد اطلاعنا عليها هناك وجدنا الناصري السلاوي في (الاستقصا) 7/ 22 - 25، قد أوردها بحذافيرها، والظاهر أنه اطلع على نسخة أخرى منها لأن نصه يختلف قليلا عن نص النسخة التي اطلعنا عليها، كما أورد السلاوي خلاصة رسالة المغرب. ولاحظ أن =
والذي يقارن بين رسالة الجزائر والرد المغربي عليها يلاحظ أن الرسالة المغربية أجمل أسلوبا وأسلس عبارة، مما يبرهن ربما على أن الكتابة الديوانية في الجزائر عندئذ أضعف منها في المغرب.
ومن الرسائل الديوانية أيضا الرسالة التي بعث بها حسن باي وهران، إلى حسين باشا، فقد أخبره، بأسلوب أدبي رفيع، عما غنمه الرايس علي البوزريعي من غنائم في المحيط الأطلسي حيث استولى على ثلاث سفن للنصارى واحدة محملة بالقهوة والثانية بالقماش والثالثة بالعطور، كما أسر عددا من الملاحين والركاب. ورغم أن الرسالة بدون تاريخ فإن المعروف أن حسين باشا قد تولى سنة 1233، فهي إذن من إنشاءات آخر العهد العثماني. وكذلك يقال عن رسائل الحاج أحمد باي قسنطينة إلى حسين باشا أيضا، ومنها تلك الرسالة التي فصل له فيها الهدية الخاصة التي وجهها إليه وهي: قافلة تمر وزيتون (على حسب العادة، والطريقة المعتادة)، وفرسان أحدهما أحمر والثاني أزرق، وبرنوسان جريديان وبرنوسان من حرير السوستي وقندورة مجعبة بالحرير. كما أخبره فيها بالهدية الأخرى (عوائد أرباب دولتك السعيدة)، وهذه الرسالة أدبية إدارية. وفي رسالة أخرى له أخبره بأحوال الرعية في أقليمه وانتصاراته على الثوار في الأوراس، كما استشاره في عدد من القضايا والأشخاص، ويهمنا من هاتين الرسالتين، بالإضافة إلى رسالة الباي حسن، كون الإدارة العثمانية الإقليمية كانت تستعمل اللغة العربية في مراسلاتها مع الحكومة المركزية، وأن بايات الأقاليم كانوا يوظفونالكتاب العرب في دواوينهم (1).
__________
= السلطان محمد بن الشريف قد اقتنع بوجهة نظر الجزائر وأقلع، بعد تردد وفد الجزائر عليه، عن إثارة الفتن ضد الأتراك لأن ذلك يخالف قواعد الإسلام.
(1) أورد هذه الرسائل السيد بريسنييه في كتابه (فن الكتابة العربية). فأما رسالة حسن، باي وهران، التي لا تاريخ لها، فعلى صفحات 144 - 148، وأما رسالتا الحاج أحمد، باي قسطينة، فالأولى على صفحات 166 - 173، وهي بتاريخ 1243، والثانية على صفحات 179 - 85 1 وهي بتاريخ 1244.
وهناك العديد من الرسائل الإخوانية بعضها قد فقد نصه ولم تبق إلا الإشارات إليه في التراجم ونحوها، والبعض الآخر ما زال موجودا لحسن الحظ. وممن اشتهر بين معاصريه بكثرة المراسلات مع غيره: أحمد المقري وعبد الكريم الفكون وأحمد بن عمار من الأدباء، بالإضافة إلى علماء آخرين تغلب عليهم الفقه أكثر من الأدب، أمثال عيسى الثعالبي وعبد القادر المشرفي وسعيد قدورة وابن العنابي. فقد كان الأدباء يتبادلون الرسائل في أغراض شتى كإعراب مسألة، والإخبار بكتاب ألف، والتعزية في فقيد، والتهنئة بحادث سعيد، والاعتذار، وحل لغز أدبي، والتوصية على قريب أو صديق، ونحو ذلك من الأغراض الاجتماعية، وكانوا في العادة يضمنون رسائلهم النثرية بعض الشعر من البيت إلى الأبيات، ويتنادرون ويظهرون براعة الحفظ، وأحيانا كانوا يجاملون بعضهم البعض فيكتفون بالثناء والإطراء على النقد وإظهار الحق.
وكانت لعبد الكريم الفكون مراسلات مع عدد من علماء عصره، منهم الجزائريون وغير الجزائريين، فقد ذكر هو أنه كان يتراسل مع سيد قدورة وأحمد المقري ومحمد تاج العارفين العثماني وإبراهيم الغرياني التونسي، وغيرهم، وأورد المقري في (نفح الطيب) رسالة بعثها إليه عبد الكريم الفكون من قسنطينة سنة 1038، وهي الرسالة التي أخبره فيها الفكون أنه متجه إلى الله هروبا من نفسه الأمارة بالسوء، وقد علق المقري على ذلك بأن الفكون (مائل إلى التصوف، ونعم ما فعل). وفي رسالة الفكون ما يشير إلى تبادل الرسائل بينه وبين المقري قبل ذلك، فقد أضاف الفكون إلى رسالته المسجوعة تسعة أبيات على وزن وقافية الأبيات التي ذيل بها المقري رسالته إلى الفكون، مع الاعتذار بأنه ليس من أهل هذا الفن، كما أخبر الفكون زميله بأنه ينوي وضع شرح على منظومة (إضاءة الدجنة) للمقري في علم الكلام ووعده بأن يحمل الشرح معه عند حجة العام الموالي، وأنه مشتاق لزيارة الحرم، واعتذر له عن قلة أبيات الشعر لوفاة زوجه. أما المقري فقد سمى الفكون (عالم المغرب الأوسط
غير مدافع) (1)، ولكن الفكون قد انتقد المقري في كتابه (منشور الهداية) وأورد نموذجا للمراسلات التى دارت بينهما حول إعراب آية (2).
ومن رسائل الفكون أيضا ما راسل به محمد تاج العارفين العثماني حوالي سنة 1037، وتذهب رسالة الفكون إلى أن الدنيا قد كثر فيها الأشرار وكسدت فيها أسواق العلم والعلماء. وهي نغمة تذكرنا بنغمة كتابه (منشور الهداية) الذي كان عندئذ يجمع مادته، فالرسالة إذن من الأدب الوعظي، وهي طويلة تقع في ثلاث صفحات، وفيها الكثير من قدرة الفكون الأدبية واللغوية والدينية، ورغم أنها بدون تاريخ فإنها تكون قد كتبت حوالي سنة 1037، كما ذكرنا، لأن تاج العارفين قد كاتبه في هذه السنة، ويبدو أن الرجلين لم يلتقيا وجها لوجه، ذلك أن الفكون يشير في (منشور الهداية) إلى أن تاج العارفين قد جاء إلى الجزائر سنة 1037، رفقة العالم إبراهيم الغرياني القيرواني للصلح بين حكومة تونس وحكومة الجزائر بعد الحرب التي دارت بين الطرفين، فراسله العالمان التونسيان من قصر جابر، وقد أورد الفكون نص رسالة تاج العارفين، وهي منمقة متكلفة، ورسالة الغرياني وهي أيضا نثرية - شعرية، ومن حسن الحظ أننا عثرنا على رسالة الفكون إلى تاج العارفين (3).
ورغم تميز عيسى الثعالبي بالحديث والفقه فقد كان يجيد النثر الأدبي والشعر. فقد كاتبه العياشي المغربي ذات مرة بقصيدة جعل لها مقدمة نثرية، فرد عليه الثعالبي بنفس الأسلوب، وجاء في نثره ما يلي: (الحمد لله، يقول كاتب الأحرف المسمى نفسه آخرا أن صاحبنا الأديب البليغ الناظم الناثر ريحانة الآداب وواسطة الأحساب سيدي ... العياشي، وصل الله إكرامه، وبلغه من محمود المقاصد مرامه، خاطب العبد الفقير بقصيدة متمكنة
__________
(1) الرسالتان في (نفح الطيب) 3/ 238 - 240.
(2) (منشور الهداية) - ترجمة المقري.
(3) (كناش الطواحني) المكتبة الوطنية - تونس، رقم 18647، 41 - 43، وكان تاج العارفين قد سافر مع أحمد المقري إلى المشرق من تونس، قىصد الحج.
الأعجاز والصدور، مسبوقة بأسجاع متناسقة ولا تناسق القلائد في النحور على الصدور، فجرى قلم فكري الفاتر وذهني القاصر، شاكرا لفضله بهذه الأبيات المتأخرة عن مباراة الصاحب الأرضي، البائنة عن صوب معاقد البلاغة إن لم تنظر بعين المسامحة والإغضا) (1). ولا شك أن التكلف ظاهر في هذه السطور وروح الدين فيها أوضح من روح الأدب، ولكنها مع ذلك قطعة تعطي فكرة تداخل الأدب والدين في النثر.
وفي رحلة ابن حمادوش نص رسالة تعزية عزاه بها المفتي محمد بن حسين عند وفاة أحد أبنائه، وقد اعتذر المفتي عن عدم حضور الجنازة شخصيا، وضمن رسالته آيات قرآنية وأحاديث نبوية في الحث على الصبر والتحمل عند الفجائع، والرسالة مسجعة ولكنها غير ثقيلة ثقل بعض القطع النثرية عندئذ، ومما جاء فيها قول المفتي (فقد بلغنا ما أحار الأذهان وأشجاها، وأطار النور من الأجفان وأبلاها، وأضرم لواعج الأشواق، وأذكى زواعج الاحتراق، بالذي صدع أعشار القلوب، وأفاض على صحن الخد الدموع من الغروب .. حتى أدركتني محنتك وموت ولدك فأخذتني الصدمة، وهيجت لي المحنة، فلقد رمانا الدهر بسهام صروفه فأصمانا، وتعهدنا خطبه فهذ عروشا وأركانا، فاصبر له صبر الأجواد، إنما صبر الكريم على الرزيه أجمل ..) (2)، فجملة ابن حسين خفيفة وأسلوبه في الجملة جيد، وكان في رسالته يقارن بين محنته (التي لم يذكرها) ومحنة ابن حمادوش في وفاة ولده.
وقد اطلعنا على رسالة قاضي معسكر، محمد بن شهيدة، إلى ابن سحنون مؤلف (الأزهار الشقيقة) فوجدناها رسالة أدبية جيدة، ولكننا للأسف لم نأخذ منها نصا، كما اطلعنا على مخاطبة أحمد بن هطال لنفس المؤلف (3)، وإذا كنا متأكدين من أن رسالة ابن شهيدة تدخل في باب النثر
__________
(1) رحلة العياشي 2/ 130.
(2) رحلة ابن حمادوش، مخطوطة.
(3) كلاهما في (الأزهار الشقيقة)، دار الكتب المصرية، 12160 ز. لأحمد بن سحنون =
الفني بدون منازعة، فإننا غير متأكدين من رسائل عبد القادر المشرفي التي وجهها إلى الحبيب الفيلالي، فلا ندري هل هي رسائل أدبية أو تاريخية أو فقهية (1)، ولا بد من الإشارة إلى رسالة أحمد بن عمار التي وجهها إلى أستاذه وصديقه المفتي ابن علي (2) وقد تبادل محمد بن رأس العين ومحمد سعيد الشباح الرسائل الإخوانية الأدبية، كما اشتهر محمد بن عبد المؤمن بتجويد الرسائل.
ولعل فيما ذكرناه من النماذج للرسائل الديوانية والإخوانية كفاية في توضيح الصورة التي نحن بصددها. فالأدب الجزائري غني بهذا النوع من التعبير، ونعتقد أن ما ذكرناه من الرسائل ومصادرها، سيكون حافزا للدارسين الآخرين على المضي في طريق البحث والاستزادة.
الوصف:
وهناك لون آخر من النثر الأدبي، ونعني به الوصف، وصف مظاهر الطبيعة أو وصف القصور والمدارس ونحو ذلك من المنشآت البشرية، أما وصف المرأة فالغالب أنه كان بطريق الشعر لا النثر، ويدخل في الوصف أيضا وصف الكتب والخيل وغيرها من الحيوانات، ووصف القوافل والمدن، ويمكننا أن نضيف إلى هذا اللون الوصف المعنوي كوصف المشاعر الإنسانية عند الحج، ووصف أثر نكبة من النكبات على الإنسان، أو الحديث عن معركة طغى فيها الحس الديني، إلى غير ذلك، فالمقصود بالوصف هنا الوصف الحسي والمعنوي، ولكن القليل فقط من الكتاب الجزائريين لجأوا إلى الوصف بالنثر للتعبير عما كان يختلج في أنفسهم من المشاعر.
وأبرز من عالج هذا الموضوع أحمد بن عمار، فقد وصف مشاعره
__________
= أيضا كتاب ضائع في الأدب سماه (عقود المحاسن) ذكره في كتابه الموجود (الثغر الجماني)؛ ولعل (المحاسن) قد جمع بين أدب ابن سحنون ونصوص من أدب غيره.
(1) توجد هذه الرسائل في الخزانة العامة الرباط، رقم 2581 د.
(2) أحمد بن عمار (نحلة اللبيب)، 50. 54. وهي من الرسائل الجيدة في بابها.
الذاتية عند اعتزامه أداء الحج سنة 1166 فأجاد الوصف بأسلوبه المحكم المعهود، ومن ذلك قوله في هذا الصدد: (لما دعتني الأشواق، النافقة الأسواق، إلى مشاهدة الآثار، والأخذ من الراحة بالثأر، وأن أهجر الأهل والوطن، وأضرب في عراض البيد بعطن، وأن أخلع السالين الساكنين الكرى، وأمتطى ظهر السهر والسرى، لبيت داعيها، وأعطيت كريمة النفس ساعيها، علما مني أن ليس يظفر بالمراد، من لم يتابع الإصدار للإيراد .. ولما انبرى هذا العزم وانبرم، والتظى لاعج الشوق وانضرم. شرعت إذ ذاك في المقصود، وأعددت طلسم ذلك الكنز المرصود، وأخذت في أسباب السفر. وكثيرا ما كان يصدر عني في هذه الحالة من المقطعات الشعرية، والموشحات السحرية، والمراسلات الشحرية، والتقريضات (كذا) الزهرية، ما تثيره الأشواق الغالبة .. فأحببت أن أدخل ذلك كله في خبر الرحلة. ولما شرعت في التقييد والجمع)، لما يجتليه البصر ويتشنفه السمع، عزمت على تسمية ما أسطره بنحلة اللبيب بأخبار الرحلة إلى الحبيب) (1).
ومن الممكن مقارنة وصف حالة ابن عمار النفسية بوصف الورتلاني لحالته أيضا عند نفس المناسبة، فقد أديا الحج في سنة واحدة، وهذه بعض عبارات الورتلاني في ذلك: (وبعد، فإني لما تعلق قلبي بتلك الرسوم والآثار، والرباع والقفار والديار، والمعاطن والمياه والبساتين والأرياف والقرى والمزارع والأمصار، والعلماء الفضلاء والنجباء والأدباء من كل مكان من الفقهاء والمحدثين والمفسرين الأخيار، والأشياخ العارفين والأخوان المحبين المحبوبين من المجاذيب المقربين والأبرار، من المشرق إلى المغرب سيما أهل الصحو والمحو إذ ليس لهم من غير الله قرار، أنشأت رحلة عظيمة يستعظمها البادي، ويستحسنها الشادي، فإنها تزهو بمحاسنها عن كثير من كتب الأخبار، مبينا فيها بعض الأحكام الغريبة، والحكايات
__________
(1) ابن عمار، ديباجة (نحلة اللبيب)، 3.
المستحسنة والغرائب العجيبة وبعض الأحكام الشرعية) (1). ومن الملاحظ أن ابن عمار قد استخدم السجع عند الحديث عن النفس والمشاعر الشخصية وفي الحديث عن الأدب والعواطف، ولكنه عمد إلى النثر المرسل عند الحديث عن القضايا الدينية وعن التفسير ونحو ذلك، وكان الورتلاني أيضا يسجع ويتكلف تنميق عبارته في مقدمة أعماله ويسترسل فني غير ذلك، ولكن شتان بين أسلوب الرجلين فى هذا الباب.
أما الوصف الحسي فقد وجدنا لابن عمار أيضا قطعة جميلة يصف فيها قصرا، هو قصر ابن عبد اللطيف بالعاصمة، الذي ما يزال قائما إلى اليوم، وقال ابن عمار إن الوزير الكاتب أحمد بن عبد اللطيف قد استدعاه إلى صنع ما صنعه كسرى أنو شروان، فقضى فيه سهرة ممتعة قلما يجود بها الدهر، مع زملاء آخرين من أعيان البلاد، وقد جمع ابن عمار، كعادته أيضا، في هذا الوصف بين النثر والشعر، ومدح فيه آل عبد اللطيف بالعلم والثروة والجاه والوزارة، ومما جاء في وصف القصر نثرا قوله: (فاحتللنا قصرا وما أدراك من قصر، تقابل الوصف أوصافه بالحبس والقصر، وتعبث محاسنه بالزهراء والزاهرة، وتشرف شرفاته على النجوم الزاهرة، وتزهو بدائعه على الزاهي والدمشق، وتلهو مقصوراته بقصور العراق ودمشق ..) ثم وصف انفساح عرصاته ووفرة الأرائك والمنصات والزرابي والدسوت والفرش والأكواب والفاكهة، وقال إنهم ظلوا في القصر حتى الصباح، يغازلون القدود والبدور الملاح، وكان السرور يغمرهم بحمياه وقد أرخى عليهم الليل سدوله وأداروا الكؤوس ومقطر الورود. وكان الحاضرون لهذه الحفلة (لمة من الأعيان، تهابهم القلوب وتجلهم الأعيان) فيهم رجال الأدب والعلم وفيهم أهل الراية والحرب، وقال إنهم قطعوا هناك ليلة أنس قصيرة ولكنها كانت في الفخر ليلة طويلة، وأضاف ابن عمار إلى هذا الوصف، الذي يبلغ صفحة على الآلة الكاتبة، قصيدة طويلة من جيد ما نظم، ومطلعها:
__________
(1) الورتلاني، الرحلة، المقدمة.
وليلة أنس لذ فيها جنى السمر ... فناهيك من أنس جنيناه بالسهر (1)
وفي هذا الوصف جال ابن عمار في فنون الأدب والبلاغة وتحمل كل ما يستطيع ليبدو وصفه قطعة نثرية نادرة المثال، فحلاه بالمحسنات البديعية ونمقه بالسجع، وإذا كان في غير هذا الوصف ينسج على منوال ابن الخطيب والفتح بن خاقان، فإنه في هذا الوصف حاول التفوق عليهما، وقد سمى هو نفسه قصائد ابن الخطيب الميمية والسينية والنونية إلى السلطان أبي حمو (العقائل الثلاث) وقال عن شعر ابن الخطيب (شعره كله، ما بعده مطمع لطامع)، ووعد في رحلته أنه سيلم عن ابن الخطيب (بشيء من أخباره، ونتف من أشعاره، وشذرات من نثره المزري بالروض وأزهاره) (2)، وانتقد ابن عمار التنسي الذي قال إن ابن الخطيب قد قلد في سينيته أبا تمام.
وقد قيلت أشعار مختلفة في وصف الآثار والأبنية في الجزائر العثمانية سنعرض إليها، ولكن النثر لم يسجل ذلك إلا قليلا. فهناك منشآت الباي محمد الكبير، ومنشآت صالح باي، وقصر الباي الحاج أحمد، ومدارس العاصمة، بل حتى الأضرحة والزوايا والقناطر، وكان بعض هذه المنشآت يثير الشاعرية أكثر مما يثير قدرة الكتاب على الوصف الأدبي، فقد قيل عن قصر أحمد باي أنه كان أهم وأحدث بناية في قسنطينة، تحيط به الحدائق الغناء والحمامات والباحات، ويضم ثمانية أجنحة يقود بعضها إلى بعض في تناسق محكم، وكان يثير الدهشة والإعجاب برشاقة وقوة ونصاعة هندسته المحلية، وقد ضمت حدائقه ألوان الأشجار المثمرة، وترقرقت فيه المياه، واختلط فيه خرير الماء من الفوارات بزئير الأسود في الأقفاص، حتى أن بعض الكتاب تخيل عندما دخله أنه كان في أحد قصور خلفاء
__________
(1) انظر (أشعار جزائرية مختلفة) مخطوط، وكذلك نسخة من وصف القصر، نثرا، قدمها إلي الشيخ المهدي البوعبدلي. انظر أيضا (مختارات مجهولة من الشعر العربي).
(2) ابن عمار (نحلة اللبيب)، 188، والمعروف أن الذي جمع أخبار وآثار ابن الخطيب هو أحمد المقري في كتابه (نفح الطيب)، فهل كان ابن عمار سيأتي يا ترى بجديد عن ابن الخطيب؟
بغداد (1)، ومع ذلك فلا نعرف أن أديبا قد وصفه نثرا وإنما وجدنا في وصفه أبياتا قليلة من الشعر سنذكرها في مكانها.
ومن المؤكد أن أدباء الجزائر قد تناولوا وصف الرياض والدنان والقصور والحيوانات بالنثر أيضا، وإذا كان جهدهم في هذا الباب قليلا، وإذا كنا لم نطلع على الكثير منه، فليس معنى هذا أنهم لم يحفلوا به، ولا نخال أدباء مثل ابن رأس العين وابن علي وابن ميمون وابن سحنون وابن عمار والمقري لا يسجلون انطباعاتهم في مظاهر الطبيعة والمجالس الإخوانية والمشاعر الإنسانية عند الحل والترحال، ولكن علينا أن نجد في البحث عن آثارهم لا أن نحكم بعدم وجودها ونخلد بعد ذلك إلى الراحة.
الخطابة:
تعتبر الخطابة من أبرز فنون النثر في الأدب العربي، وكانت ميادينها وأغراضها متعددة، تشمل الدين والسياسة والاجتماع والعسكرية ونحو ذلك، وقد ألفت في ذلك الكتب مع وصف دقيق للخطيب وشروطه وفن الخطابة وشروطها أيضا، وقد عرف الجزائريون هذا النوع الأدبي عندما كان ساستهم يتحدثون لغة المواطنين ويحذقونها، وعندما كان علماؤهم متمكنين من قواعد اللغة متمرسين على استعمالها منذ نعومة الأظفار، فإذا ارتجلوا بها القول أجادوا مع رباطة جأش وفصاحة لسان وقوة كلمة.
ولكن مع مجيء العثمانيين انحصرت الخطابة في ميدان واحد تقريبا وهو الجامع، ذلك أن الساسة كانوا، كما عرفنا، غرباء عن البلاد وأهلها وعن اللغة التي يفهمها ويتحدث بها الناس، فلا نجد باشا من الباشوات نهض يخطب في الناس لا خطبة جمعة ولا خطبة استثارة للجهاد ونحوه (2)، ولا
__________
(1) بولسكي (العلم المثلث على الأطلس)، 99.
(2) أخبرنا من قبل أنه قيل عن محمد بكداش أنه صعد ذات مرة المنبر وخطب في الناس فوعظ وحذر، الخ. ونحب أن نلاحظ أن ذلك كان سنة 1104 وهو قد تولى الحكم سنة 1118. وأن قضية علم بكداش وفصاحته ونحوهما مشكوك فيها لأنها صدرت من علماء مدينين له، أمثال محمد بن ميمون وعبد الرحمن الجامعي، وهم الذين =
نجد بايا من البايات قد خطب في رعيته يستحثهم على عمل أو يثير حماسهم لفكرة. كان الباشوات والبايات يتوارون عن الناس فلا يحدثونهم ولا يخرجون إليهم، فقد يبقى الحاكم ما يبقى فلا يعرف الناس وجهه ولا شكله ولا يسمعون له صوتا ولا يخرج إلا غازيا أو إلى قبره، بعد أن يكون خصومه قد تخلصوا منه سريا بالخنق ونحوه، حتى التولية والعزل لا يعرف المواطنون عنها شيئا ولا شأن لهم بهما، فتولى الباشا أو الباي أو عزلهما كان يتم في الخفاء وبلغة لا يفهمها الشعب ولا يعرفون أن الأمر قد انتهى بحل من الحلول إلا براية ترفع وأخرى تخفض، فالكلمة السياسية إذن لم تكن معروفة في الجزائر العثمانية، فما بالك بالخطبة في هذا الميدان.
أما صلة الوصل بين الحاكم والشعب فاثنان: الجندي الجاهل بسلاحه المرعب وقسوته المتناهية وشرهه الذي لا يعرف الحدود، والمرابط الذي كان يقوم غالبا بدور المسكن للخواطر والجالب للرعية نحو الحاكم بأساليبه الصوفية والدينيا المتعارف عليها. وبالإضافة إلى ذلك كان هناك بعض شيوخ القرى وقواد النواحي، ولكن حظ هؤلاء كان في أغلب الأحيان هو الجمع بين قسوة الجندي وحكمة المرابط. حقا إن المصادر تحدثنا أن بعض البايات قد استخدموا الطلبة في المناسبات الحربية وجعلوا على الطلبة بعض القضاة والعلماء وكونوا بذلك فرقا محاربة ضد العدو، بينما كان دور القضاة والعلماء هو الإشراف والقيادة والتوجيه المعنوي والإثارة، فهل كان هؤلاء العلماء القواد يخطبون على جنودهم الطلبة في الميدان ليحرضوهم على القتال؟ ذلك ما لا تحدثنا عنه المصادر الموجودة، ولكن أغلب الظن أنهم كانوا يفعلون ذلك (1).
__________
= نسبوا إليه أيضا الأصل العربي والدم النبوي فقالوا إنه كان قرشيا هاشميا تزلفا وتملقا، بينما كان هو من أتراك أناضوليا، كما عرفنا، ولكن هذا لا يعني عدم تدينه وحبه لأهل التصوف، وهو أمر أخذه عن والده، واستفاد منه هو أيضا سياسيا.
(1) انظر فصل التاريخ من هذا الجزء، سيما وصف ابن زرفة وابن سحنون للجهاد ضد الإسبان في وهران.
فإذا أبعدنا عن الخطابة الميادين السياسية والعسكرية فإنه لم يبق أمامها إلا الميادين الدينية والاجتماعية، ولا شك أن هذه الميادين ظلت مفتوحة أمام الخطباء في العهد العثماني، فالمناسبات الدينية والاجتماعية كثيرة، وعلى رأسها صلاة الجمعة والعيدين. بقي علينا إذن أن نعرف الخطيب، والخطيب من حيث المبدأ هو أحد العلماء المعروفين بالعلم واللسان، ولكن هذا الشرط لم يكن دائما متوفرا، فهناك خطباء كان يغلب عليهم العي حتى كانوا ينيبون غيرهم للقيام بمهمتهم، وهناك من كان الناس يشكون من عدم إبانته وعدم أهليته لهذه المهمة الجليلة (1)، وبالإضافة إلى العي وعدم الأهلية كان هناك الجهل الذي تحدثنا عنه في مناسبات أخرى، فقد كانت الخطابة عبارة عن وظيفة يتولاها أحدهم لكي يكسب من ورائها مالا وعيشا وسمعة، لذلك كان القليل فقط من العلماء هم الذين شرفوا هذه المهمة السامية ووفوها حقها.
ومع ذلك فإن الخطابة كانت تعتبر وظيفة من أعظم الوظائف في الدولة، ذلك أن صاحبها كان يجمع إليها الإمامة، وقد يكون من المفتين أيضا، وتحدثنا المصادر، ولا سيما تلك التي تناولت حياة العلماء، مثل (تقييد) ابن المفتي و (منشور الهداية) للفكون، عن جملة الخطباء الذين زانوا الخطبة وقاموا بها أفضل قيام كما تحدثنا عن نماذج أخرى شانت الخطبة وحطت من قيمتها. ومهما كان الأمر فإن معالجة هذه النقطة بالذات عند النقاد والكتاب عندئذ تبرهن على أهمية الخطابة في وقتهم، فهم إذا رضوا عن أحد العلماء مدحوه بجودة الخطبة والبراعة فيها وذلاقة اللسان وحسن السمت، وإذا سخطوا عليه عابوا عليه النقص في ذلك. فهذا مصطفى بن عبد الله البوني قد اشتهر بحذق الخطابة وإتقانها حتى زعم من حضره أنه لم ير أفضل منه في ذلك من الجزائر إلى مكة، وهذه عبارة محمد بن ميمون فيه (يبتدع الخطب جارية الفقر .. صدرت له في هذا النوع عجائب أفردته في صنعة الخطابة، وله في الخطب الساعد المشتد، والإلقاء الذي تميل إليه
__________
(1) انظر فصل العلماء من الجزء الأول.
الهوادي وتمتد، والسكينة التي تحدق إليها الأبصار فلا ترتد، ولم أر منذ عقلت بسني، وعلقت خطباته بذهني، أحق منه في طريقة الوعظ والخطابة والإمامة، ولا رأيت من شيوخنا من يتقدم أمامه، لا جرم أنه استحوذ عليها، صناعة استوفى شرطها واستكمل أسبابها ... وكذلك هو في وعظه آية من آيات فاطره ... زعم من رآه أنه لم يسمع من حضرة الجزائر إلى أم القرى أخطب منه ولا من يدانيه إلا واحد من الأفاضل، لم يكن له بمماثل، وإنما كان قريبا من أسلوبه ..) (1).
ولا شك أن الجزائر قد عرفت عددا من هؤلاء الخطباء أمثال سيد قدورة وسعيد المقري وأحمد المقري وعبد الكريم الفكون وأحمد بن عمار، ولكن خطبهم غير مدونة، فنحن لا نعرف من الخطب المدونة سوى مصدرين حتى الآن، الأول خطبة أو مجموعة خطب منسوبة لأحمد المقري (2)، والثاني مجموعة خطب لعبد الكريم الفكون. فقد ذكر الفكون نفسه أنه هو الذي كتب أول خطبة جمعة للشيخ أحمد بن باديس ثم أضاف (وهي مذكورة مع جملة الخطب التي ألفت في غير هذا) (3)، ولكننا لم نطلع على نصوص هذه الخطب لنعرف قيمتها الأدبية واللغوية وأسلوبها، ويفهم من كلام منشئها أنها خطب وعظية بلاغية إذ قال عن الخطبة المذكورة (ضمنتها التوبة وقبولها وإنعام المولى بها عن العباد، فجاءت حسنة بليغة في معناها).
وكانوا يتفنون في هذه الخطب فلا يكتفون بالكلام المسجع أو المرسل، بل كانوا يضيفون إلى ذلك بعض القيود ومحاولة التأثير بها على السامعين، فقد قيل إن سعيد المقري كتب خطبة عارض فيها خطبة القاضي عياض التي ضمنها التورية بأسماء سور القرآن الكريم، وتبدأ خطبة المقري،
__________
(1) ابن ميمون (التحفة المرضية)، مخطوط باريس، 656 - 666.
(2) أشار إلى ذلك محمد بن عبد الكريم في كتابه (المقري وكتابه نفح الطيب) 492، وقال إنها موجودة في مدريد (؟).
(3) (منشور الهداية) 253.
التي يبدو أنها خطبة جمعة أيضا، هكذا (الحمد لله الذي افتتح بفاتحة الكتاب سورة البقرة ليصطفي من آل عمران رجالا ونساء وفضلهم تفضيلا) (1) وهي خطبة مسجعة ويظهر عليها التكلف في أغلبها، وقد كان سعيد المقري خطيبا وإماما في تلمسان مدة طويلة، كما عرفنا (2).
القصص والمقامات:
لم يشع في الأدب الجزائري ما يسمى بالأدب القصصي إلا قليلا، وتذكر المصادر أن الأدب الشعبي كان غنيا بالحكايات والقصص التاريخية البطولية أو الملحمية، ولكنها كانت شفوية، ولا يوجد من المكتوب منها إلا القليل النادر، وكانت تستوحي موضوعاتها من التاريخ الإسلامي والعربي وألف ليلة وليلة، وعنتر بن شداد وسيرة بني هلال، وحتى من تاريخ الجزائر في العهد العثماني. ومن هذا الأخير قصة غرام عروج بربروس مع زافرة زوج سليم التومي، فقد وجد بعض الباحثين نسخة خطية من هذه القصة عند أحد المرابطين، وهو أحمد بن حرام (لعله هارون)، ولكننالا ندري ما إذا كانت لغة هذه القصة فصيحة أو عامية (3)، وكانت رواية القصة الشعبية على النحو الذي أشرنا إليه نوعا من الترفيه الاجتماعي، وكان أداؤها يجمع بين المسرحية أو التمثيلية والحكاية، وكان المؤدون لها، سواء اعتبرناهم ممثلين أو رواة، يؤدونها في الساحات العامة أو في المقاهي أو في خيام خاصة، وهم في ذلك يصعدون على منصة أو يتصدرون الحلقات والجماعات ويحكون للسامعين بأسلوبهم المؤثر المليء بالمبالغات ما جرى لأبطالهم من
__________
(1) (نفح الطيب) 10/ 194 - 196.
(2) انظر ترجمته في الفصل الرابع من الجزء الأول.
(3) روى ذلك السيد لوجي دي تاسي في كتابه تاريخ الدول البربرية، الطبعة الفرنسية سنة 1725، وقد كتب اسم المرابط مرة حرام وأخرى حران. وقال عنه إنه من نسل سليم التومي وأنه كان مرابطا في جهة قسنطينة، وقال عن المخطوطة أنه وجدها مكتوبة على الرق وأخذ منها لكتابه المذكور، والظاهر أن اسم (زافرة) مصحف عن (ظافرة) حسب النطق العثماني.
مغامرات وأهوال وانتصارات، وبعد الانتهاء من أداء هذا الدور تجمع التبرعات المالية (1).
ومما يؤسف له أن المصادر المحلية قليلا ما تعرضت أو سجلت هذه الظاهرة الفنية الاجتماعية، فكأن هذه المصادر كانت مترفعة عن تسجيل مثل هذه الآثار الشعبية، فهي لا تسجل إلا أعمال الولاة وأهل الدين والعلماء والأغنياء ونحو ذلك، ولكن الشعراء الشعبيين قد تركوا في أزجالهم وقصائدهم الملحونة تسجيلا لهذه الظاهرة، وسنعرف بعض ذلك منهم في فصل الشعر، وحسبنا أن نذكر في هذا الفصل أن الموضوعات التي كانت تطرقها القصة الشعبية كانت تعرض أصبحابها إلى غضب السلطة أحيانا، لأن أصحابها كانوا يتحدثون أيضا عن الحرية والوطنية القبلية ومناصرة فريق دون فريق في الخصومات والثورات، بالإضافة إلى الموضوعات المشار إليها والمستمدة من تاريخ العرب والمسلمين، ومع ذلك فإن هؤلاء القصاصين كانوا محبوبين لدرجة أن بعض الضباط العثمانيين كانوا يستدعونهم إلى الأكشاك أو المجالس ونحوها لقص أخبارهم.
فإذا عدنا إلى المصادر النثرية التي تسجل القصص والحكايات الشعبية فإننا لا نكاد نجد من ذلك شيئا (2)، وأقرب صيغة وجدناها من ذلك هي المقامة. وقد أسهم الجزائريون في هذا الميدان، ولعل أشهر من أسهم فيه منهم قبل العثمانيين هو محمد بن محرز الوهراني صاحب المقامات أو المنامات (3)، ولكن موضوعات الوهراني كانت مشرقية، لأنه عاش معظم
__________
(1) بنانتي، ط 2، 226.
(2) انظر تعريف عبد الحميد بورايو بقصة (جني الهيدور) لمؤلف تلمساني مجهول. وهي تضم مجموعة من القصص الاجتماعية والسياسية مستوحاة من ألف ليلة وليلة، وبطلها جميعا هو عبد الله بن منصور، في جريدة (الشعب) 22 يناير، 1981.
(3) بروكلمان 2/ 911، وقد نشرت بالقاهرة، 1968. وكذلك ترك أحمد أحمد بن أبي حجلة مجموعة من المقامات كتبها أيضا في المشرق. ويقوم حاليا أحد الأساتذة بتحقيقها.
حياته الفنية في المشرق. ويقرب من ذلك الإنتاج المسمى بالمجالس وبالمرائي الصوفية، على غرار ما فعل محمد الزواوي الفراوسني في (تحفة الناظر) (1)، ويمكننا أن نغامر هنا فننسب ما يحكي عن كرامات الأولياء والصلحاء وما في ذلك من خيال ومغامرات وانتصارات إلى عنصر الحكاية الشعبية النثرية، فإذا صح ذلك فإن الأدب الجزائري إذن سيجد مادة خصبة في الحكايات المعزوة إلى الصالحين والزهاد عن مغامراتهم الروحية (2).
وأظهر كاتب استعمل المقامة هو محمد بن ميمون (3) في ترجمته لحياة الباشا محمد بكداش، والغريب أن ابن ميمون قد سمى كتابه في ذلك (التحفة المرضية في الدولة البكداشية في بلاد الجزائر المحمية)، ولم يسمه مثلا المقامات المرضية أو نحو ذلك من التسميات حتى تتسق مع المحتوى، وقد جمع ابن ميمون ذلك في ست عشرة مقامة، وجعل كل مقامة عبارة عن فصل من سيرة الباشا وأعماله، فمثلا المقامة الأولى في نبذة من أخلاقه، والثانية في تعيينه سنجق دار، والثالثة في توليه تقسيم خبز العسكر، والرابعة في توليه الحكم، الخ. ولعل هذه التسمية هي التي جعلت بعض النساخ يكتبون على التحفة عبارة (مقامات ابن ميمون) (4)، ورغم أن ابن ميمون أديب ماهر يذهب مذهب الفتح بن خاقان حتى أنه عندما حمد الله في المقدمة شكره أيضا على
__________
(1) انظر عنه الفصل الأول من الجزء الأول.
(2) في وفاة محمد الغراب وفرسة الزواوي المسماة بالرقطاء، وفي الكرامات التي رواها ابن مريم، وفي (بستان الأزهار) للصباغ، وغيرها من الآثار دليل على ما نقول.
(3) مصادر ابن ميمون هي كتابه (التحفة المرضية) ورحلة ابن حمادوش، و (شرح الحلفاوية) للجامعي، و (تقييد) ابن المفتي، و (ديوان) ابن علي، انظر أيضا مقالتنا عن قصيدته في مدح ابن عبدي باشا في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).
(4) مخطوطة باريس، رقم 1625، وهي على ما يظهر أقدم النسخ إذ تعود إلى سنة 1121 أي أثناء حياة ابن ميمون والباشا معا، أما بكداش فقد قتل سنة 1122، وأما ابن ميمون فنعرف من رحلة ابن حمادوش أنه كان حيا سنة 1159، وبذلك يظهر أنه ألف التحفة وهو في سن الشباب، وقد ترجم (التحفة المرضية) إلى الفرنسية السيد روسو الفرنسي، وحققها محمد بن عبد الكريم سنة 1972.
أن جعل (الأدب ريحانة للشم، وقلد البلغاء قلائد العقيان في النثر والنظم)، فإن عمله أقرب إلى التاريخ منه إلى الأدب، ولذلك فضلنا أن ندرس كتابه في فصل التاريخ، أما النواحي الأدبية من الكتاب فهي شكله وأسلوبه. فقد جعله ابن ميمون على شكل المقامات، والمقامة من أنواع الأدب، كما أن أسلوبه مسجع رقيق، أما عنصر الحكاية والخيال الضروري للمقامة الفنية فيكاد يكون منعدما عند ابن ميمون، لقد حاول أن يجعل كل مقامة عبارة عن وحدة قصصية تخص موضوعا معينا، ولكنه كان مجبرا، وهو يتناول شخصيات تاريخية وأحداثا واقعية، أن يكتب التاريخ لا الأدب وأن يسجل الوقائع لا الخيالات: أليس هو القائل عن كتابه (ولم آل جهدا في تنقيحه، وتأليفه من صادق الخبر وصحيحه، على ما تجده من ألفاظ لغوية، وأنواع بديعية، وأخبار مستلمحة، وكتابات مستملحة)؟ (1)، فاعتماده صادق الخبر ومعاودته تأليفه بالتنقيح هو عين منهج التاريخ.
وأقرب مثل إلى المقامة التقليدية مقامة أحمد البوني المسماة (إعلام الأحبار بغرائب الوقائع والأخبار)، وكان البوني قد كتبها سنة 1106، وموضوعها هو علاقة العلماء بالسلطة والاستنجاد بصديقه مصطفى العنابي، والشكوى من وشايات أهل العصر، وهي بدون شك تقرب في أسلوبها وطريقتها من أسلوب وطريقة المقامة المعروفة، وفيها كثير من الخيال والإغراب والتهويل، ولكنها مع ذلك تقص أمرا واقعا وتذكر أشخاصا حقيقيين، وتقع المقامة في أربع صفحات، وهي تبدأ هكذا (الحمد لله الذي جعل المصائب وسائل لمغفرة الذنوب، والنوائب فضائل لذوي الأقدار والخطوب، وسلط سبحانه وتعالى على الأشراف، أرباب الزور والفجور والإسراف .. وبعد، أيها العلماء الفضلا، النبلاء الكملا، فرغوا أذهانكم، وألقوا آذانكم، وتأملوا ما يلقى إليكم من الخبر الغريب، وما يرسله الله تعالى على كل عاقل أريب، فقد ارتفعت الأشرار، واتضعت أربات المعارف
__________
(1) (التحفة المرضية) 3، مخطوط باريس.
والأسرار، وانقلبت الأعيان، وفشا في الناس الزور والبهتان، وأهملت أحكام الشريعة، وتصدى لها كل ذي نفس للشر سريعة، بينما نحن في عيش ظله وريف، وفي أهنى لذة بقراءة العلم الشريف .. إذ سعى في تشتيت أحوالنا وقلوبنا، وهتك أستارنا وعيوبنا، من لا يخاف الله ولا يتقيه، فرمى كل صالح وفقيه بما هو لاقيه، واعتد في ذلك بقوم يظنون أنهم أفاضل، وهم والله أوباش أراذل .. وما كفاه بث ذلك في كل ميدان لأنه يسر الشيطان، حتى أوصله لمسامع السلطان، فلم نشعر إلا ومكاتب واردة علينا من جانب الأمير بعزل صديقنا الشهير، من خطة الفتوى، مع أنه ذو علم وتقوى، تحيرنا من ذلكط أشد التحير، وتغيرنا بسببه أعظم التغير ثم نادى منادي السرور، وقال ابشروا برفع السوء عنكم ودفع الشرور .. فقلنا يا هذا أصدقنا الخ) (1)، ورغم
أن البوني كان من العلماء الفقهاء فإن مقامته قد ظهر عليها الطابع الأدبي القوي والعبارة المتينة، ولكنها تظل تفتقر إلى عنصر الرمز والخيال البعيد.
أما مقامات عبد الرزاق بن حمادوش الجزائري فقد جمعت كل ذلك، وهي ثلاث كتبها على ما يظهر وهو في المغرب. الأولى سماها (المقامة الهركلية) وقد وصف فيها بيته التعسة بأحد فنادق مكناس، المسمى فندق الرحبة، وما سمعه من الجلبة والضجيج أثناء الليل الدامس وتشاجر القوم رجالا ونساء، وأثناء ذلك سمع امرأة تطالب جاره بدفع كيت وكيت على ما فعله معها من نكاح، ثم هدأت أعصاب ابن حمادوش ولكنه قرر عدم العودة إلى هذا الفندق الغريب، ونام. وختم المقامة بسبعة أبيات شعرا في نفس المعنى، وتناول في مقامته الثانية حالته عند خروجه من تطوان وتوجهه إلى
__________
(1) مكتبة جامع البرواقية، مخطوط رقم 15. نسخها لي الأستاذ الشيخ الفضيل طوبال، إمام جامع البرواقية، وقد نشرتها في مجلة (الثقافة) عدد 58 (1980)، 35 - 43 انظر عن أحمد البوني الفصل الأول من هذا الجزء، ولعل مصطفى العنابي هو نفسه مصطفى بن عبد الله البوني الذي تحدثنا عنه في فقرة الخطابة، وهو الذي يرد أيضا في (تقييد) ابن المفتي، وهو أستاذه، وكان العنابي وأخوه حسين العنابي (جد محمد
ابن العنابي) من خصوم أحمد قدورة وابن نيكرو.
مكناس، وقد وصف فيها متاعبه وهدفه من زيارة المغرب بمرافقة اثنين من التجار، والطريق الصعبة التي مروا بها والأخطار التي تعرضوا لها ممن يسميهم العربان، وغرائب ما شاهد أثناء الطريق، أما المقامة الثالثة فقد سماها (المقامة الحالية)، وهي رمزية وصف فيها حالته مع الناس والدنيا والرحلة، وخسارته التجارية ودنو أجله كما قال نتيجة كل ذلك، وكان ابن حمادوش في هذه المقامة يتحدث عن شخص رمزي متعلقا به حبا (ولعله يقصد زوجه)، ومع ذلك سبب له التعب والنكد، وختمها كالأولى بالشعر والدعاء (1).
وهذا نموذج من المقامة الهركلية (الحمد لله، حدى بي حادي الرحلة، إلى أن دخلت في بعض أسفاري هركلة، ودخلت بها في خان، كأنه من أبيات النيران، أو كنائس الرهبان، بل لا شك أنه من أبيات العصيان .. فاختصصت منه بحجرة، فكأنها نقرة فى حجرة. فغلقت بابى، لأحفظ صبابي، وآمن حجابي .. حتى مد الليل جناحه، وأوقد السماء مصباحه، وهدأت الأصوات، وصرنا كالأموات. فلم يوقظني إلا جلبة الأصوات، وتداعى القينات، والتدافع بمنع وهات .. وإذا بجاري بيت، يحاسب (صاحبه) قينة على كيت وكيت، وهي تقول له فعلت كذا وكذا فعله، وتدفع أجر فعله .. فقلت بعدا لهذا الجار، ولا شك أنه بئس القرار، ولبئس الخان، كأنه حان، ثم رجعت إلى هجعتي، وتجاوزت عن وجعتي).
ومن الواضح أن مقامات ابن حمادوش، من الوجهة الفنية المحضة، تعتبر أكمل وأفضل، إذ لا ينقصها عنصر الحكاية ولا الخيال ولا طرافة الموضوع ولا الرمز، ثم إنها تجمع النثر إلى الشعر، والذي يعيبها في نظرنا أن ابن حمادوش من الرياضيين والأطباء، وليس من الأدباء، ولكن يكفيه في هذا الميدان أنه كتب ذلك في الوقت الذي لم يتناول فيه الأدباء المعروفون،
__________
(1) المقامات الثلاث في رحلة ابن حمادوش. انظر دراستنا عنه في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، وكذلك مقالتي (أشعار ومقامات ابن حمادوش الجزائري) في مجلة (الثقافة)، عدد 49، 1979.
كابن ميمون وابن سار وابن سحنون وابن علي، هذا اللون الأدبي الطريف، وهو المقامة.
...
ونود الآن أن نترجم لأديبين كبيرين تميزا بغزارة الإنتاج والتأثير على المعاصرين، وهنا أحمد المقري من أدباء القرن الحادي عشر (17 م) وأحمد بن عمار من أدباء القرن الثاني عشر (18 م).
أحمد المقري
لو حاولنا أن نترجم للمقري ترجمة تقليدية لضاق عنه مجال هذا الكتاب، لأن إنتاجه غزير وحياته خصبة وتأثيره كبير، ثم ان هناك دراسات تناول أصحابها حياته وإنتاجه، ولا نريد أن نكرر هنا ما قاله مترجموه عنه هناك، وحسبنا إذن أن نلفت النظر إلى بعض النقط قبل الحديث عن المقري نفسه.
الأولى أننا سنركز في هذه الكلمة عنه على علاقته بالجزائر خلافا للمترجمين الآخرين الذين ركزوا على حياته في المغرب والمشرق، فجعلوه وكأنه لا صلة له بالجزائر وأهلها.
ثانيها أن المصادر التي سنعتمدها عنه هي ما رواه عن نفسه وما رواه عنه معاصروه، سيما عبد الكريم الفكون وعلي بن الواحد الأنصاري، ذلك أن معظم المترجمين، بمن في ذلك محققو كتب المقري، قد اعتمدوا على (خلاصة الأثر) للمحبي، رغم ما فيها من الإعجاب بالمقري والمبالغات.
وثالثها أننا لم نكرر هنا ما قلتاه عنه في فصول سابقة أو لاحقة من هذا الكتاب كدوره في الإنتاج الديني ونحوه.
ولد أحمد المقرى ونشأ وتثقف في تلمسان، وقد ظل وفيا لهذا التكوين الأصلي حتى وهو يتمتع بالجاه والحظوة في القاهرة ودمشق، فبدأ في تأليف كتاب لم يتمه عن تاريخ تلمسان وأهلها سماه (أنواء نيسان في أنباء تلمسان)،
وكان يذكر محاسن تلمسان وجمالها وهو في المغرب والمشرق، وكان يقارنها بفاس ودمشق. وعندما كان في المغرب موفور الكرامة لم يصبر على زيارتها والبقاء فيها عدة سنوات (1010 إلى 1013). ولا غرابة في ذلك فهو بالإضافة إلى أصوله العائلية حيث أجداده ووالده، وجمال تلمسان الطبيعي، كان هناك عمه سعيد المقري الذي تحدثنا عن مكانته العلمية، وهو الذي أسهم في تكوين ابن أخيه تكوينا أدبيا موسوعيا بعد أن قرأ عليه سنوات طويلة، ونعتقد أن الفتن التي كانت دواليك بين سكان تلمسان والعثمانين هي السبب في هجرة المقري نهائيا من تلمسان إلى فاس (1).
ورغم وجود كتاب له مثل (روض الآس العاطر الأنفاس في ذكر من لقيته من علماء مراكش وفاس) فإن حياة المقري في المغرب ما زالت مجهولة. حقا ان هناك أشعارا وكناشات تنسب إلى المقري في المغرب وتلقي على حياته هناك بعض الضوء، ولكن هذه المصادر لا تجيب على كثير من الأسئلة المتعلقة بحياته ونشاطه في المغرب (2)، ويبدو أن طموح المقري كان بلا حدود، ولا يشبهه بين الشعراء والأدباء إلا طموح المتنبي، ألم يقل المقري عن نفسه بعد هجرته إلى المشرق:
ولي عزم كحد السيف ماض ... ولكن الليالي من خصومي
وقد كان معجبا بالمغرب، متوليا فيه الوظائف السامية، كالإمامة
__________
(1) تحدثنا عن بعض هذه الفتن، ومن مصادرنا فيها كتاب (البستان) لابن مريم (وكعبة الطائفين) لابن سليمان. وقد كثرت هجرة علماء تلمسان خلال هذه الأثناء إلى المغرب، ومنهم الشاعر سعيد المنداسي الذي كان معارضا للعثمانيين، وقد تحدث أحمد المقري عن علاقته بعمه سيد المقري في كل من (روض الآس) و (نفح الطيب).
(2) في (روض الآس) ذكر المقري من أجازوه بالمغرب (وكان ذلك قبل هجرته إلى المشرق)، ومنهم أحمد بن القاضي صاحب (جذوة الاقباس) وأحمد بن أبي القاسم التادلي، وأحمد بابا التمبكتي السوداني، والمفتي محمد القصار، وقد ترجم للمقري صاحب (نشر المثاني) ترجمة وافية 1/ 346 - 351، واستفاد مما كتبه عنه اليوسي في محاضراته.
والخطابة والفتوى، وهي وظائف العلماء البارزين في عهده في الجزائر أيضا. وكان بعض سلاطين المغرب يقدمون علماء الجزائر، وخصوصا تلمسان، لأسباب سياسة تتعلق بسياستهم من الدولة العثمانية عموما، والجزائر بصفة خاصة، وإذا كان بعض علماء الجزائر قد سجلوا انطباعهم نحو العثمانيين، معهم أو ضدهم، فإن أحمد المقري لم يسجل، حسب علمنا، انطباعه سواء عندما كان في الجزائر أو عندما كان في المغرب أو حتى بعد أن هاجر إلى المشرق، ولعل من أسباب ذلك أن عالما من أبرز علماء أسرته، وهو عمه سعيد المقري، كان متوليا لوظيفة الخطابة والإمامة والفتوى في تلمسان تحت العثمانيين قرابة أربعين سنة.
ولكن المغرب، رغم طول مكثه فيه، لم يكن في حالة استقرار سياسي، فالنزاعات كثيرة والعلماء كانوا في مقدمة وقود الفتنة إذا وقعت لأن مكانتهم، وخصوصا إذا كانوا في منصب الإفتاء، تجعلهم هدفا لطلب التأييد والنصرة، ولا شك أن المقري لم يكن يغيب عنه ما وقع لبلديه، عبد الواحد الونشريسي في المغرب أيضا، عندما رفض خلع بيعة السلطان، ومقتله على يد أنصار المطالب بالعرش، لذلك عندما أحس المقري بأن الأمور تسير على غير ما يروم ادعى التوجه إلى الحج سنة 1027، وبذلك يكون قد قضى في المغرب حوالي ربع قرن، وهي فترة هامة من حياته، ومع ذلك فما تزال غير مدروسة. ويسجل صديقه ومعاصره عبد الكريم الفكون سبب هجرة المقري من المغرب بهذه العبارات. بعد فساد البلاد بتبدل دولها بين أولاد أسيرها، حتى تداعت للخراب ارتحل المقري (يقال إنه عن خوف من الأمير الذي تولى اذ ذاك لكونه (المقري)، فيما يقال، له خلطة بالأمراء والانتماء إلى بعض دون بعض) (1)، ,وقد أشار المقري نفسه إلى هذه الظروف دون أن يفصح عنها بقوله لما قضى الله (برحلتي من بلادي ونقلتي عن محل طارفي وتلادي بقطر المغرب الأقصى) ويشير إلى سماسرة الفتن والأهوال الذين
__________
(1) (منشور الهداية)، ترجمة المقري.
جعلوا الأمن في المغرب عزيز المنال (1)، والغريب أنه أطال في وصف قصور المغرب وطبيعته واعتبره بلاده ولكنه قلما ذكر أهله.
ومهما كانت أسباب رحلته من المغرب، فإنه يبدو أن المقري كان ينوي العودة إليه لأنه ترك فيه أهله وابنته ومكتبته، ولعله قد حاول المكث في الجزائر، قريبا من المغرب، حتى تنجلي الأمور السياسية، فقد وجدناه يستقر بمدينة الجزائر سنة 1027، بعد أن مر بمسقط رأسه تلمسان، واتصل في الجزائر بالعلماء وشرع في التدريس وخصوصا التفسير، وتبادل مع كبير علماء الجزائر عندئذ، وهو سعيد قدورة، الألغاز والنكت والمعلومات، وقد روى الفكون ذلك في شيء من التعريض بالمقري قائلا إنه نزل دار الجزائر على فقهائها وعلمائها، وتصدى للتدريس بها، وقرأ بها التفسير على ما قيل، وسأله عالم الجزائر وخطيبها أبو عثمان سعيد بن إبراهيم كدورة (كذا يكتبه الفكون) لغزا بعنوان (هاج الصنبر) فلم يصب المقري الجواب في الأول وأصابه في المرة الثانية، ثم سافر إلى المشرق (2). فهل وجد المقري مدينة الجزائر غريبة عنه فواصل سيره إلى المشرق؟ ذلك ما لا تكشف عنه الوثائق حتى الآن، وقد يكون سفره من المغرب بالبر خوفا من القراصنة، كما قال، ولكن تلمسان بالنسبة إليه هي بلد الآباء والأجداد، وهو الذي تمثل في شأنها بهذين البيتين:
بلد الجدار ما أمر نواها ... كلف الفؤاد بحبها وهواها
يا عاذلي في حبها كن عاذري ... يكفيك منها ماؤها وهواها (3)
__________
(1) مقدمة (نفح الطيب) ط. 1949. وقد جاء في (الاستقصا) 6/ 22 بعض التوضيح لهذه الظروف، فقد استفتى المأمون الثائر المطالب بالعرش علماء فاس، ومنهم المقري، على جواز افتداء أهله من يد الإسبان بمنحهم مدينة العرائش، فأجابه البعض خوفا، وامتنع البعض ففروا واختفوا ومنهم أحمد المقري ومحمد الجنان .. الخ.
(2) (منشور الهداية) انظر أيضا كتاب محمد بن سعيد قدورة (جليس الزائر وانيس السائر)، مخطوط.
(3) (أزهار الرياض) 1/ 6 - و (نفح الطيب) 7/ 352. والبيتان لابن مرزوق. وبلد الجدار هي تلمسان.
ولعل المقري لا يقصد بذلك الحنين تلمسان وحدها، إذ أنه طالما ردد حنينه أيضا إلى مراتع صباه بالمغرب الأقصى، رغم أن حياته في فاس جعلته، كما قال، لا يفكر فيها إلا في (هم أو هول) (1). والذي يطالع مقدمته لـ (نفح الطيب) يدرك أن الرجل كان كثير الشوق إلى وطنه رغم ما وجده في المشرق، ولا سيما في الشام، من حفاوة وتكريم. وكان المقري كثير التمثل بالأشعار وبعبارة (الحنين إلى الوطن مجال لكل حر ومضمار) و (حب الوطن من الإيمان). وبذلك يكون المقري من أوائل المثقفين الجزائريين الذين كرروا موضوع الحنين إلى الوطن بهذه القوة.
وتشهد المصادر الأخرى على ذلك، حتى مصادر خصومه أو نقاده، فهذا عبد الكريم الفكون الذي انتقده في أخلاقه وسلوكه الاجتماعي، أقر، وكان قد عرفه وخبره وسافر معه، بأن للمقري (محبة في المغاربة) وله معهم مباسطة، ويقول الفكون صراحة بأن المقري كان (مشغوف بوطنه وأهله). وأنه كان كثير الحج مع الركب المغربي ليتحدث مع أهله ويتسلى ويسمع أخباره، كما كان يتراسل مع عدد من علمائه وأدبائه (2)، ورغم أن الفكون يعلل حنينه بكونه ترك ابنته وأهله وراءه حتى أنه كان يبكي ويحزن كلما ذكرهم، فإن المقصود هو حنين المقري إلى المغرب العربي، ولا سيما الجزائر التي مدحها كما سبق، بخلاف فاس.
ويبدو أن طموحه والخوف من العودة إلى المغرب هما اللذان كانا وراء بقائه في المشرق، فقد سافر من الجزائر إلى تونس بالبر أيضا، ولعله قد مر في طريقه بقسنطينة والتقى بعلمائها كما كان يفعل معظم الحجاج. ونال في تونس من حسن الاستقبال ما شهد له مرافقة عالم تونس عندئذ، محمد تاج
__________
(1) أزهار الرياض، المقدمة.
(2) تحدثنا عن مراسلة المقري مع الفكون نفسه، انظر فصل النثر، فقرة الرسائل، من هذا الجزء، وقد راسله أيضا تلميذه علي بن عبد الواحد الأنصاري ومحمد بن يوسف التاملي المراكشي، وكلاهما من المغرب، وحدثاه عن أحوال البلاد هناك وسمعة المقري فيها ورواج كتبه ونحو ذلك.
العارفين العثماني له، فقد ركب مع المقري السفينة ونزلا مصر، ومنها سافر المقري بحرا أيضا إلى جدة، فأدى العمرة سنة 1020 ثم فريضة الحج في السنة الموالية، ويقول عن نفسه أنه كان ينوي الإقامة عند البيت العتيق الذي أخذته عنده رعشة وانبهار، ولكنه عاد إلى مصر سنة 1029 لظروف لم يكشف عنها، وتزوج بها، ولعل أحواله المادية هي التي أخبرته على أن يبدأ في مصر السلوك الذي انتقده معاصره الفكون. ومهما كان الأمر فإنه ابتداء من هذه السنة تصبح حياة المقري واضحة أكثر ومسجلة ومدروسة أيضا إلى حد كبير، فقد ظل يتنقل بين مصر والحجاز، ثم أضاف إلى ذلك بيت المقدس ودمشق. فحج حوالي خمس مرات وسافر إلى القدس عدة مرات وذهب إلى الشام على الأقل مرتين، ولكنه لم يعد إلى البلاد التي أحبها كثيرا أو إلى تلك التي أقام بها ربع قرن يعلم ويتعلم، وإذا كانت هذه نكبته هو النفسية فهي بدون شك نكبة وطنه أيضا، لأنه لو عاد إليه بعلمه الغزير وأدبه الجم لأسهم في نهضته وتكوين جيل من الأدباء والعلماء، ولكن القدر شاء أن يقيم المقري اثني عشرة سنة أخرى من حياته بعيدا عن أهله ووطنه، ذلك أن أجله قد وافاه سنة 1041 وهو في مصر يستعد للعودة إلى دمشق.
في الشرق عاش المقري حياة حافلة بالنشاط العقلي، فقد ألف معظم كتبه هناك، ولا سيما موسوعته (نفح الطيب)، وألف عددا من كتبه الدينية في المدينة المنورة، مثل (فتح المتعال) و (أزهار الكمامة) (1). واتصل بالوجهاء والعلماء، ولعله اتصل أيضا ببعض الأمراء، ومدح هؤلاء بالشعر، وأظهر حفظه الواسع وموهبته الأدبية فوجد تقديرا كبيرا، ولا سيما من علماء الشام، أمثال المفتي عبد الرحمن العمادي والوجيه أحمد بن الشاهين، وطارت شهرته كمدرس في الأزهر والجامع الأموي فهرع إليه علماء كل بلد وأعيانها على نحو وصفه المحبي وصفا شيقا (2)، فلا داعي لتكراره هنا، وقد زوجه السادة الوفائية بمصر من ابنتهم على نحو لا يفعلونه مع كل الناس، ولكن
__________
(1) عن كتبه الدينية انظر الفصل الأول من هذا الجزء.
(2) المحبي (خلاصة الأثر) 1/ 303.
مكانته في مصر لم تصل إلى المكانة التي تمتع بها في الشام، وكان حاله في مصر وموقفه منها يذكر المرء بحال وموقف المتنبي أيضا منها، فبينما مدح الشام بكل جميل عاتب مصر بأبيات مرة وتأسف فيها على حاله:
تركت رسوم عزى في بلادي ... وصرت بمصر منسى الرسوم
ونفسي عفتها بالذل فيها ... وقلت لها عن العلياء صومي
ولا شك أن هذا كان أثتاء نزوة من نزواته وثور من ثوراته النفسية، وإلا فنحن نعلم من سيرته أنه أكرم في مصر أيضا وتولى فيها الوظائف وألف الكتب، غير أن طموحه كان أبعد من وسائله، وقد أصابته بعض النكبات في مصر أيضا، فقد توفت والدته وابنته من السيدة الوفائية، بالإضافة إلى غربته عن ابنته وأهله في المغرب (1)، فلا غرابة إذن أن تنقبض نفسه وتثور.
ابتسم الحظ للمقري، وهو في أخريات أيامه، فتعزى عن غربته ونكباته، فقد اعترف له العلماء، وخصوصا علماء الشام.، بما هو أهل له من الحفظ والأدب والظرف، لذلك أكثر من ذكرهم في (نفح الطيب) قائلا عنهم (نوهوا بقدري الخامل)، ونذكر من (هؤلاء أحمد بن الشاهين وعبد الرحمن العمالي ومحمد بن يوسف الكريمي ومحمد بن علي القاري ويحيى المحاسني، فقد تبادل معهم الإجازات والتقاريظ والمدائح والطرف والهدايا والأشعار، وفي هذا الجو عاش المقري حياة اجتماعية وعلمية شبيهة بحياته في المغرب العربي، في تلمسان أو في فاس، وكان إلحاح علماء الشام عليه في تعريفهم بلسان الدين بن الخطيب وبتاريخ الأندلس وأخبارها هو الذي دفعه إلى كتابة موسوعته الأندلسية (نفح الطيب). وقد نشط عقله وشاعريته في هذا الجو المنعش للآمال والطموح فأنتج أبحاثا ضافية وأشعارا غزيرة لو جمعت لجاءت في ديوان ضخم، وكيف لا تتنعش آماله وطموحه وقد قال فيه العمادي، مفتي الشام عندئذ:
شمس هدى أطلعها المغرب ... وطار عنقاء بها مغرب
__________
(1) (نفح الطيب) 3/ 224، وقد عزاه في ذلك ولي نعمته وصديقه أحمد بن الشاهين.
فأشرقت في الشام أنوارها ... وليتها في الدهر لا تغرب (1)
ألف المقري معظم كتبه، التي بلغت ثمانية وعشرين تأليفا، عندما كان في المشرق، وباستثناء (أزهار الرياض) و (روض الآس) فإننا لا نعرف أنه قد ألف في المغرب أو في تلمسان، ولعله قد بدأ (أنواء نيسان) في المغرب أيضا. وقد ألف معظم كتبه الدينية في الحجاز، بينما اشتغل بالأدب والتاريخ وهو في القاهرة ودمشق. ولا نعرف أنه ألف شيئا عندما كان في القدس التي أكثر من الترداد عليها. وقد نشر البعض من كتبه حتى الآن ولكن معظمها ما يزال مخطوطا أو مجهولا، ومن أهم كتبه المطبوعة على الإطلاق موسوعته (نفح الطيب) الذي ألفه بوحي وبإلحاح من أعيان الشام وعلمائه، كما عرفنا، ويبدو أن المقري كان قد شرع في مشروعه منذ كان في المغرب، ذلك أن موضوع (نفح الطيب) الرئيسي، وهو لسان الدين بن الخطيب والأندلس، قد طرقه أيضا في (أزهار الرياض)، حتى أن كثيرا من لوحاته في الكتاب الأخير قد أعاد إنتاجها في (النفح)، وكان اقتراح أحمد بن الشاهين الأولي عليه هو التوسع في حياة ابن الخطيب بإفراده بكتاب، ومعنى ذلك التوسع فيما كان قد بداه في (أزهار الرياض)، وقد اختار المقري عنوان كتابه الجديد ليتلاءم مع ابن الخطيب فجعله (عرف الطيب في أخبار الوزير ابن الخطيب)، ولكن الحديث عن ابن الخطيب قد جره إلى الحديث, عن الأندلس، إما منطقيا وإما باقتراح من زملائه العلماء، وهكذا ولدت التسمية الجديدة للكتاب، وهي (نفح الطيب الخ)، وبناء على الأخبار، التي ساقها المقري بنفسه، فإنه ذهب إلى الشام سنة 1037، وفي نفس السنة عاد إلى مصر وشرع في الكتابة (2)، وفي خلال سنة وبعض السنة انتهى من نفح الطيب في القاهرة أيضا، حيث
__________
(1) نفس المصدر 3/ 168، وهي قصيدة طويلة أرسلها إليه لما كان المقري في مصر، وقد أجابه المقري عنها شعرا رقيقا.
(2) (نفح الطيب) 9/ 342، ومن كتبه المطبوعة، بالإضافة إلى (نفح الطيب)، أجزاء من (أزهار الرياض)، و (إضاءة الدجنة) في التوحيد، و (فتح المتعال) في نعال الرسول (صلى الله عليه وسلم)، و (روض الآس) عن حياة المقري بالمغرب.
جاء في خاتمة الكتاب أنه انتهى منه سنة 1038 بالقاهرة وزاد عليه في السنة الموالية بعض الإضافات.
ونحن هنا أمام بعض التساؤل: لماذا لم يؤلف المقري كتابه في الشام التي أحبها وأحب أهلها وأحبوه، والكتاب أساسا كأنه موجه إليهم وبوحي منهم؟ لعل المقري قد ترك كتبه ورقاعه في القاهرة التي قضى فيها فترة طويلة والتي فيها أيضا عائلته الجديدة، ولعل كرم أهل الشام وحياتهم الاجتماعية النشطة لا تسمح له بالعكوف على كتابة مثل هذا العمل الضخم، فاختار لذلك القاهرة التي يخلو فيها لنفسه. ومن جهة أخرى يكاد يكون مستحيلا في نظرنا أن يؤلف المقري موسوعته في ظرف سنة أو نحوها، سواء كان ذلك بالتحرير الشخصي أو بطريق الإملاء. ومن الممكن أن يكون قد سود الكتاب ثم اشتغل عليه بقية حياته أي إلى سنة 1041، ومن الممكن أيضا أن تكون له رقاع ونصوص حول نفس الموضوع أعدها من قبل في القاهرة فنسقها وأضافها إلى (نفح الطيب) والدليل على ذلك ما أشرنا إليه من التكرار الموجود في (الأزهار) و (النفح).
أعجب المقري بلسان الدين بن الخطيب فنسج على منواله، ولعل إعجابه به لم يقتصر على الأسلوب الأدبي فنحن نعتقد أن المقري كان يحاول تقليد ابن الخطيب في حياته السياسية أيضا لو ساعفته الأيام، ولكن هذه قضية أخرى يهتم بها الدارسون لحياة الرجلين. أما نحن هنا فحسبنا التنبيه إلى أن المقري قد اتبع طريقة ابن الخطيب في تحرير العبارة وانتقاء الألفاظ والسجع الجميل وتوشيح النثر بالشعر، وحتى في اختيار غدد من الموضوعات، وقد هدف المقري إلى أن يكون كتابه مرجعا للشعراء والأدباء وطلاب الموعظة فقال في خاتمته (اعلم أن هذا الكتاب معين لصاحب الشعر، ولمن يعاني الإنشاء والنثر من البيان والسحر، وفيه من المواعظ والاعتبار، ما لم ينكره المنصف عند الاختبار، وكفاه أنه لم ير مثله في فنه فيما علمت، ولا أقولها تزكية له) (1)، ورغم أن
__________
(1) نفس المصدر 10/ 363.
المقري يتواضع أمام القارئ فيرجو العفو عن الزلل، ويعتذر، لكونه ترك مصادره بالمغرب فإنه، من جهة أخرى، كان معتزا بعمله فكرر أنه لم يسبق إليه بقوله: (وقد توهمت أني لم أسبق إلى مثله في بابه، إذ لم أقف له على نظير أتعلق بأسبابه).
شرح المقري طريقته في هذه العبارة (ورجوت أن يكون هدية مستملحة مستعذبة، وطرفة مقبولة مستغربة)، وقال إنه قد أورد فيه النظم والنثر، وأخبار الملوك والرؤساء، سواء في ذلك من أحسن أو من أساء، وذلك للعبرة والأذكار. كما جاء فيه بالهزل والمجون للترويح على القارئ، بالإضافة إلى المواعظ والنصائح وحكايات الأولياء والتوسل بالرسول (صلى الله عليه وسلم) (1)، وقد أوقعته هذه الطريقة في عدة مزالق يمجها الذوق اليوم، وهي الاستطرادات الكثيرة والتكرار الممل أحيانا، وذكر القصص التي ليس لها أهمية والأشعار الضعيفة، مع إهماله حادثة سقوط الأندلس الذي كان قريبا منه، كما أنه أثقل عبارته بالسجع الذي أصبح مع طول الكتاب مزعجا، وهو لا يتخلص منه إلا قليلا؛ وكانت مصادر المقري في كل ذلك مروياته الشخصية ومعارفه كشاهد عيان لما وقع بالأندلس في حياته أو ما أخذ من الجيل الذي سبقه من أهل الأندلس المطرودين، بالإضافة إلى مصادر أخرى مكتوبة مستمدة من المسعودي وابن خلدون والغبريني والبكري وابن بشكوال وابن الخطيب وابن بطوطة وابن سعيد وابن حيان وابن خاقان وابن جبير وابن بسام وابن خلكان وابن الأثير، وقد قسم كتابه إلى قسمين رئيسيين الأول في أخبار الأندلس وفيه ثمانية أبواب، والثاني في أخبار ابن الخطيب وفيه أيضا ثمانية أبواب، ورغم الصلة بين القسمين فإنه يمكن في الواقع فصلهما تماما، فالمهتم بتاريخ الأندلس وآدابها ونظمها المختلفة يكتفي بالقسم الأول (وفيه أخبار أيضا عن ابن الخطيب)، والمهتم بحياة ابن الخطيب السياسية والعلمية والأدبية يمكنه الاستغناء عن القسم الأول.
__________
(1) نفس المصدر 1/ 118 - 119.
ومهما كان الأمر، فإن عمل المقري في (نفح الطيب) لا يفوته في بابه إلا عمل ابن خلدون في تاريخه، وإن كان ابن خلدون قد وضع المقدمة في نظرية علم الاجتماع والاقتصاد السياسي والعمران فإن المقري قد وضع في (نفح الطيب) مقدمة لا غنى عنها في حياة الأندلس وعلمائها وشعرائها، وقد صدق شكيب أرسلان في وصفه لـ (نفح الطيب) بأنه (حقيبة أنباء، وقمطر حوادث، وخزانة آداب، وكشكول لطائف، وديوان أشعار). وفي قوله إن من لم يقرأ (نفح الطيب) ليس بأديب (1)، وقد أشاد بعمل المقري أصدقاؤه الشاميون المعاصرون له، كما أشاد به المحبي الذي عاش بعده بفترة قليلة والذي اعتبره جاحظ المغرب. ثم أهمل الناس المقري، كما أهملوا ابن خلدون، إلى حين اكتشفهما الأوروبيون في القرن الماضي فنشر وترجم القسم الأول من (نفح الطيب) كما نشرت وترجمت مقدمة ابن خلدون، وعندئذ عاد العرب والمسلمون إلى الرجلين يستفيدون من آثارهما ويدرسون أخبارهما، وإذا كان ابن خلدون قد حظي بترجمات وافية لحياته فإن المقري ما زال لم يظفر بهذه الترجمة إلى الآن (2).
بقي أن نقول إن المقري، رغم أدبه وشعره وطموحه، كان متدينا عن عقيدة وليس مجاراة لأهل العصر. فقد أخذه الانبهار عند رؤية الكعبة الشريفة، وألف مجموعة من كتبه عند قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وحج حوالي خمس مرات، وزار بيت المقدس حوالي سبع مرات، وكان حافظا للسند مجيدا في تدريس التفسير وصحيح البخاري كما عرفنا، وألف في التوحيد (إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة). وقرظ شرحا في التصوف كتبه محمد بن سعد الكلشني على رسالة للشيخ أرسلان. وترجم في (نفح الطيب) لأبي مدين وأطال في ذلك لأنه شيخ جده، وللتبرك به، كما ذكر الكثير من كراماته
__________
(1) شكيب أرسلان (الحلل السندسية) 2/ 153.
(2) ترجم للمقري عبد الله عنان، والحبيب الجنحاني، وعبد الغني حسن، ومحمد بن عبد الكريم، كما ظهرت عنه مقالات بأقلام مختلفة مثل شكيب أرسلان وطاهر أحمد مكي.
ومناقبه (1)، وعندما كتب عن الفكون قال عنه إنه مائل إلى التصوف (ونعم ما فعل). لذلك يظهر لنا أن ما كتبه عنه معاصره الفكون من نقد في السلوك الديني والاجتماعي لا يتماشى مع الواقع، وأن الفكون قد بالغ في حكمه على صديقه، حقا إن المقري لم يكن متصوفا ولكنه كان من علماء السنة العاملين، كما رأينا.
ولا شك أن النثر الفني قد تقدم على يدي المقري في وقت كادت لا تكتب الأقلام غير شروح الفقه ومنامات التصوف، وكان وراء المقري تراث من أسرته، فجده، محمد المقري، شيخ ابن خلدون، كان من المؤلفين الأدباء البارزين، وهو صاحب كتاب (بلوغ الآراب في لطائف العتاب) الذي ما يزال مخطوطا. وعمه، سعيد المقري رغم عدم شهرته بالتأليف، كان شاعرا وأديبا رقيقا، ومدرسا من الدرجة الأولى كما عرفنا (2)، وكانت تلمسان على عهده بقايا من تقاليد العهد الزياني التي احتفي بها أحمد المقري في (أزهار الرياض) بذكره أخبار أبي حمو وغيره. كل ذلك كان يمده بتجربة جيدة في الصياغة النثرية والأساليب الأدبية، وفي فاس وجد المغاربة والأندلسيين يذكرون عهود الشباب الأدبي في الفردوس المفقود وأبطاله كابن الخطيب فكانت هذه المدرسة المغربية - الأندلسية هي التي أثرت وأثمرت على أحمد المقري، وهي المدرسة التي بدأ بها (أزهار الرياض) الذي خص به القاضي عياض ثم نقلها معه إلى المشرق، فوجد أن الأساليب هناك قد دخلتها العجمة منذ سقوط بغداد، فإذا به يتألق وسط الكتاب، ويأتي في ذلك بالعجب العجاب. فالمقري إذن يعتبر مجددا ناقلا المدرسة الأندلسيه من المغرب العربي إلى المشرق العربي، وهذه الزاوية من مساهمته ما تزال، حسب علمنا، غير مدروسة أيضا. ولولا خوف الإطالة، ولولا أن بعض كتبه مطبوع ومتداول لأتينا على نصوص من نثر المقري الذي سحر به المشارقة (3).
__________
(1) (نفح الطيب) 9/ 342 - 351.
(2) ترجمنا لسعيد المقري في فصل التعليم من الجزء الأول.
(3) إلى الآن لا نعرف من عثر عر كتبه (الغث والسمين والرث والثمين) أو (البدأة =
أحمد بن عمار
إذا كان المقري قد وجد بعض من ترجم له وعرف به، ولا سيما بين المشارقة، فإن أحمد بن عمار لم يجد هذا الفارس بعد. فقد اكتفى بعض معاصريه وتلاميذه بوصفه بأوصاف التجلة والاحترام، كما فعل الورتلاني وابن حمادوش وأبو راس، وتلميذاه إبراهيم السيالة التونسي وأحمد الغزال المغربي. وكان ابن عمار حريصا على الترجمة لغيره سواء في كتابه المفقود (لواء النصر في فضلاء العصر) الذي قيل إنه ترجم فيه لعلماء قرنين، أو في رحلته (نحلة اللبيب بأخبار الرحلة إلى الحبيب) التي تعتبر في حكم المفقودة أيضا لولا نبذة منها سلمت من الصياع، ولكنه بقدر ما كان حريصا على الترجمة لغيره بقدر ما أهمل نفسه فلم يفعل على الأقل ما فعل زميلاه الورتلاني وابن حمادوش اللذان ساقا حياتهما في رحلتهما بما يلقي أضواء هامة تساعد الدارسين لهما اليوم، فابن عمار إذن ما يزال، رغم مكانته الأدبية والفقهية، مجهولا، ويكفي لتوضيح جهلنا به أننا إلى الآن لا نعرف حتى متى ولد ولا متى وأين توفي، وكل ما نعرفه عنه أنه من أهل القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر الهجري.
وقد أصبح من الضروري حينئذ أن نبحث عن حياته في مختلف المصادر وأن نلتقط أخباره من هنا وهناك لعلنا نستطيع أن نقدم صورة واضحة نوعا ما عن مساهمته في مدرسة النثر الفني، فأقدم مصدر يحدثنا عن ابن عمار في الجزائر هو صديقه عبد الرزاق بن حمادوش في الجزء الثاني من رحلته. فقد أخبر أن ابن عمار قد قرظ له كتابا بعنوان (الدرر على المختصر) سنة 1159 (1)، واعتبره ابن حمادوش من العلماء المنصفين الذين لا يحملون
__________
= والنشأة) أو (عرف النشق في أخبار دمشق)، الخ، ولو اكتشفت لأضافت جديدا عن معلوماتنا عنه وعن أدبه، هذا وسندرس كتابه (أزهار الرياض) في فصل التاريخ والتراجم.
(1) رحلة ابن حمادوش، طبع الجزائر 1983.
حسدا ولا ضغينة، وقد عاش ابن عمار إلى ما بعد سنة 1205 كما نعرف من إجازته في هذا التاريخ لمحمد خليل المرادي الشامي، وبذلك يكون عمره سنة 1150 حوالي أربعين سنة، وبذلك أيضا يكون ابن عمار قد ولد في الجزائر حوالي سنة 1119.
وعلى كل حال فقد تولى ابن عمار وظيفة الفتوى على المذهب المالكي سنة 1180، ولم يدم ذلك إلا بعض الشهور، ثم تولى مرة أخرى سنة 1180 أيضا وظل في الوظيفة إلى سنة 1184 (1)، وفي (نحلة اللبيب) ذكر ابن عمار أنه تبادل الشعر ونحوه مع شيخه محمد بن محمد المعروف بابن علي سنة 1163، ومن جهة أخرى نجده قد أدى فريضة الحج سنة 1166، وقد أكد ذلك أيضا زميله الحسين الورتلاني الذي حج معه وقرآ معا في القاهرة، فقد قال عنه الورتلاني (الفاضل بالاتفاق والعلامة على الإطلاق) وقال إنه قد أخذ معه العلم على الشيخ خليل المغربي في مسجد الحسين بالقاهرة (2)، وهناك تواريخ أخرى تساعدنا على تنقلات ابن عمار، فعبد الحي الكتاني يذكر أن ابن عمار كان سنة 1172 مجاورا بمكة، فهل بقي ابن عمار من سنة 1166 إلى ذلك التاريخ مجاورا أو أنه رجع إلى الجزائر ثم حج من جديد؟ هذه نقطة غامضة، ذلك أننا نعرف من مصادر أخرى أن أحمد الغزال المغربي قد جاء إلى الجزائر سنة 1182 في شأن صلح بين الجزائر والمغرب وحضر درسا لابن عمار في الجامع الكبير، وهو يومئذ متولي الفتوى المالكية، وأعجب بعلمه فمدحه بقصيدته التي منها: هلموا إلى مأوى المفاخر والعلا ... هلموا إلى الأسمى ابن عمار أحمد ويبدو أن ابن عمار لم يطب به المقام في بلاده بعد أن رجع إليها من المجاورة، لأسباب لا نعرفها أيضا، فقد جاء في كتاب لتلميذه إبراهيم
__________
(1) ديفوكس (المؤسسات الدينية)، 117. وقد خلفه في منصب الفتوى في المرة الأولى عبد الرحمن المرتضي وفي الثانية محمد بن جعدون.
(2) الورتلاني (الرحلة) 286، ومن الذين تحدثوا عن أحمد بن عمار ودرسوا عليه أيضا أبو راس الناصر في (فتح الإله)، كما سنرى.
السيالة (1) أن شيخه ابن عمار قد جاء إلى تونس من الجزائر سنة 1195 (بقصد الاستيطان بها)، وأن ابن عمار كان عندئذ كبير السن، ومع ذلك نجده يناظر علماء تونس، كما سنرى، ويؤلف عملين في تونس الأول رسالة في التفسير والأدب، والثاني تاريخ في سيرة وآثار باي تونس عندئذ، علي باشا بن حسن، ولا ندري ما الأسباب التي جعلت ابن عمار يغادر أيضا تونس رغم مجيئه لها (بقصد الاستيطان)، ولعل منافسة العلماء له وموت الباي، ووفاة صديقه حمودة بن عبد العزيز سنة 1202، قد حمله على الهجرة من جديد إلى المشرق ومجاورة الحرم، ذلك أننا نجده سنة 1205 يجيز محمد خليل المرادي الشامي من مكان لم نتأكد منه بعد، ولعله مكة المكرمة أو الشام، ومن ذلك التاريخ تنقطع عنا أخباره، وقد أكد تلميذه أبو راس في (فتح الإله) أن ابن عمار قد توفي بالحرمين الشريفين. ولكننا إلى الآن لا نعرف بالضبط تاريخ ذلك.
والغالب على الظن أن أسرة ابن عمار عريقة في الجزائر، فنحن نعلم أن عالما باسم أحمد زروق بن عمار كان متوليا الفتيا سنة 1028، كما يحدثنا الفكون في (منشور الهداية) أن أحد علماء مدينة الجزائر باسم أحمد بن سيدي عمار بن داود قد ورد عليهم في قسنطينة حوالي نفس العهد (2)، فهل كان هذا أحد أجداد أحمد بن عمار الذي نتحدث عنه؟ ليس هناك ما يعزز أو
__________
(1) (مباسم أو مباهج الأزهار) مخطوط تونس رقم 260، ومما يؤكد وجوده في تونس عندئذ تقريظ ابن عمار سنة 1196 لكتاب ألفه صديقه الوزير حمودة بن عبد العزيز في التوحيد، انظر فقرات من هذا التقريظ في (الكتاب الباشي) تحقيق محمد ماضور، تونس 1970، 19. وقد تعرضنا له في فقرة التقاريظ من هذا الفصل.
(2) (منشور الهداية) 242. ويقول الفكون عن أحمد بن سيدي عمار أنه كان خطيب الجامع الأعظم بالجزائر وأنه زار في قسنطينة الشيخ التواتي والفكون رفقة بعض العلماء، ومعروف أن التواتي قد توفي سنة 1031، كما أنه من المعروف أن سعيد قدورة قد تولى الفتيا مكان أحمد زروق بن عمار سنة 1028، وبذلك تكون زيارة ابن عمار إلى قسنطينة بين التاريخين، وممن رثي أحمد بن داود عند وفاته تلميذه محمد القوجيلي الذي سيأتي ذكره في فصل الشعر.
يبعد ذلك، وكان والد ابن عمار أيضا من أهل العلم في مدينة الجزائر ولكننا لا ندري ماذا كان يعمل (1)، وقد أشار الشاعر المغربي أحمد الغزال إلى ذلك في قوله يمدح أحمد بن عمار بأنه اقتدى بوالده في العلم والدين: بوالده دينا وعلما قد اقتدى ... لقد جل نجل كان بالأب يقتدي ومن جهة أخرى كان خاله، محمد بن سيدي الهادي أحد العلماء البارزين في مدينة الجزائر في القرن الثاني عشر، وقد ذكره ابن حمادوش في رحلته، ولكن إذا صحت هذه الصلة فإن ابن عمار يكون من العائلات التليدة في مدينة الجزائر، التي كانت تتمتع بصيت واحترام والتي كانت غالبا من أصل أندلسي ومرتبطة، كما عرفنا، بالوظائف الدينية (2)، وليس هناك ما يوضح اتباع ابن عمار الطريقة الأندلسية في الكتابة إلا هذه الصلة الوطيدة بالأندلس، ذلك أننا لا نجد ابن عمار يتوجه إلى المغرب للدراسة في فاس، على نحو ما فعل الكثيرون من علماء الجزائر، ويغلب على الظن أن ثقافته الأولى، قبل حجه سنة 1166، كانت جزائرية محضة، ولكنه لا يذكر من شيوخه في الرحلة سوى ابن علي الذي يشير إليه بعبارة (شيخنا)، ونحن نجده في شهادته على كتاب ابن حمادوش المذكور متميزا بأسلوبه المعهود، وكان ذلك سنة 1159 كما لاحظنا، وقد ذكر هناك أنه كان يتردد على مجلس أحمد الورززي المغربي الذي زارهم في الجزائر واقرأ في الجاح الكبير (3).
__________
(1) ذكر لي الشيخ المهدي البوعبدلي في رسالة بتاريخ 7 يناير 1982 أن والد أحمد بن عمار هو عمار المستغانمي، وأن من المرجح أن ابن عمار كان من تلمسان.
(2) يروي أبو راس أن ابن عمار، رغم صغر سنه عند لقائهما، كانت على خاتمه هذه العبارة (سليل الأشراف الصالحين وخلاصة مجد التقى والدين). انظر (فتح الإله) مخطوط الخزانة العامة بالرباط، ك 2263، ص 40، وقد وجدنا نحن على ختم آخر له هذه العبارة (الواثق بالجبار، عبده أحمد بن عمار). انظر إجازته لمحمد خليل المرادي.
(3) في إجازته لمحمد خليل المرادي ذكر ابن عمار بعض شيوخه في مصر والحرمين في علم الحديث، ولكنه لم يذكر أيا من الجزائريين.
عاش ابن عمار إذن فترة حياته الأولى في مدينة الجزائر دارسا وموظفا في الدولة، وكان من معاصريه هناك الأديب محمد بن ميمون، وعبد الرزاق بن حمادوش، والمفتي الشاعر محمد بن محمد المعروف بابن علي، ومحمد بن نيكرو، والمفتي عبد الرحمن المرتضي، والمفتي أحمد الزروق بن عبد اللطيف، (ابن عم صاحب القصر الذي وصفه ابن عمار)، والمفتي محمد بن جعدون، والمفتي علي عبد القادر بن الأمين، والمفتي محمد بن الشاهد، والقاضي محمد بن مالك، أما في الأقاليم الأخرى فمن أشهر العلماء الذين عاصرهم ابن عمار أبو راس الناصر الذي جاء من مدينة معسكر إلى الجزائر واجتمع بعدد من هؤلاء العلماء وناقشهم وأكرموه، وهو الذي تتلمذ على ابن عمار وأشاد به كما سنرى، ومنهم عبد القادر الراشدي الذي اشتهر بالتأليف والإفتاء والتدريس في قسنطينة، والمفتي أحمد العباسي وعلي الونيسي بقسنطينة أيضا. والحسين الورتلاني صاحب الرحلة، أما من الولاة فقد عاصر ابن عمار، أيام نضجه، علي باشا بوصبع (1168 - 1179)، ومحمد عثمان باشا (1179 - 1205)، الذي ظل في الحكم أطول مدة عرفها الولاة العثمانيون في الجزائر والذي توفي، خلافا لأغلب التقاليد، على فراشه، وقد تولى ابن عمار وظيفة الإفتاء أثناء عهده.
فهل حدث لابن عمار أثناء أو بعد توليه الفتوى ما جعله يزهد في الإقامة في الجزائر التي عاش في أكنافها صبيا وشابا وكهلا؟ لا ندري الجواب الآن، ومن المؤكد أن ابن عمار كان محسودا لعلمه وقلمه واستقلاله، فنحن نعلم من عدة إشارات في الرحلة وفي جوابه على مسألة الوقف التي عرضت له مدى استقلاله الفكري ومدى غمزاته لمعاصريه على جمودهم العقلي وضعف عارضتهم وتخليهم عن الاجتهاد والنظر (1). كما نعلم أن بعض
__________
(1) ذكر محمد ماضور في مقدمة (الكتاب الباشي) 19: أن ابن عمار كان صديقا لإسماعيل التميمي الذي كتب ردا قويا على الوهابية وأنه كان صديقا أيضا للوزير حمودة بن عبد العزيز، وكانت بين الرجال الثلاثة تحريرات وآراء، وقد نشر جواب أحمد بن عمار عن مسألة الوقف مع ردود التميمي المذكورة، في تونس.
العلماء المغاربة الواردين على الجزائر، مثل أحمد الورززي وأحمد الغزال، قد أشادوا به، ولا سيما الأخير. وهذا بدون شك يسبب حسدا بين العلماء، وقد رفع أبو راس من قيمة ابن عمار كثيرا فوصفه بأنه شيخنا (الذي ارتدى بالنزاهة يافعا وكهلا، وكان للتلقيب بشيخ الإسلام أهلا). ومدحه أيضا بتخريج (الأساتيذ من التلاميذ والفقهاء النحارير والعلماء الجماهير). كما مدحه بالنبوغ في علوم الفقه والحديث والسند والأصول والبيان، بالإضافة إلى الزهد والنزاهة، وقد درس عليه أبو راس بعض العلوم، من بينها فقه الإمام أبي حنيفة (1). والجديد في رواية أبي راس عن شيخه ابن عمار أن هذا قد عزفت نفسه عن الإقامة بالجزائر بعد أن تولى فيها بعض الوقت الخطابة والإمامة والفتوى، لذلك رحل إلى الحرمين الشريفين، ورغم أن أبا راس لا يذكر تاريخ ذلك، فالذي لا شك فيه أنه كان يتحدث عن رحلة ابن عمار الثانية للحرمين. أما رحلته الأولى، سنة 1166، فقد كانت قبل توليه تلك الوظائف.
ومهما كان الأمر فابن عمار قد رحل إلى المشرق مرتين على الأقل.
الأولى سنة 1166 والتي جاور أثناءها بالحرمين حوالي اثني عشر سنة كما تذكر بعض المصادر، وبذلك يكون قد رجع إلى الجزائر بعد سنة 1176، فنحن نجده كما عرفنا متوليا خطة الفتوى في الجزائر سنة 1160، وخلال هذه المجاورة أو الرحلة الطويلة كتب ابن عمار رحلته التي سنتحدث عنها، أما رحلته الثانيه فهي التي يتحدث عنها أبو راس ويشير إليها إبراهيم السيالة، وهي على أية حال كانت بعد توليه وظيفة الفتوى وعزله أو انعزاله عنها، فمتى كانت هذه الرحلة الثانية؟ بناء على كل الاحتمالات فإننا نرجح أن تكون بعد 1195، فالسيالة يذكر أن شيخه ابن عمار قد جاءهم إلى تونس في هذا التاريخ بقصد الاستيطان بها، والظاهر أن ابن عمار بعد إقامة قصيرة ودخوله في مناقشات ومناظرات مع علماء تونس وتغيير الظروف السياسية (2) قد تابع
__________
(1) أبو راس (فتح الإله)، الخزانة العامة بالرباط، ك 2263. 38 - 30، 63 - 67، 93.
(2) من ذلك وفاة علي باي نفسه الذي ألف فيه ابن عمار كتابه، سنة 1196. وكان علي =
رحلته من تونس إلى المشرق حيث وجدناه سنة 1205 في الحجاز على أكثر الاحتمالات، والغالب أنه لم يعد إلى الجزائر بل ظل مجاورا إلى وفاته، والغريب أن جميع المصادر، وهي قليلة، لا تتحدث عن شؤون ابن عمار العائلية، فنحن نجهل كل شيء تقريبا عنه في هذا الميدان.
ألف ابن عمار عددا من الكتب التي لم تكن تتماشى مع ما كان يفعله علماء وقته من عدم الخروج عن الحواشي والشروح، ونحن نذكر ما اطلعنا عليه منها أو ما وجدناه منسوبا إليه:
1) لواء النصر في فضلاء العصر (في التراجم) وقد ألفه على ما يظهر في الجزائر، وسنتحدث عنه في التراجم وفي الشعر.
2) نحلة اللبيب بأخبار الرحلة إلى الحبيب، رحلة أتمها على ما يظهر في الحجاز أثناء مجاورته الأولى.
3) حاشية على الخفاجي في شرح الشفاء للقاصي عياض، ذكرها له تلميذه أبو راس الناصر في (فتح الإله) وقال عنها إنها (عاطرة الأنسام).
4) رسالة في تفسير قوله تعالى: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} حلاها بأدبه المعهود وذكرها له تلميذاه السيالة وأبو راس.
5) تاريخ الباي علي باشا بن حسن (تونس)، ذكره له أيضا تلميذه السيالة (1).
6) رسالة في الطريقة الخلوتية نسبها له الكتاني وقال عنها إنها: (عمل نادر) (2).
__________
= باي وأخوه محمد باي قد عاشا في الجزائر أثناء هروبهما من تونس، ولعل ابن عمار قد تعرف على الباي في الجزائر أثناء ذلك.
(1) رقم 4 و 5 أشار إليهما السيالة في كتاب له مخطوط عنوانه (مباهج الأزهار ودوحة الأفكار)، المكتبة الوطنية، تونس، رقم 260، ورقات 67 - 69، وما يتعلق بابن عمار في هذا الكتاب مفقود للأسف، ما عدا الورقات المذكورة.
(2) الحاج صادق (المولد عند ابن عمار)، 290 من رسالة له من الكتاني.
7) رسالة في مسألة وقف، مطبوعة ضمن أجوبة وفتارى صديقه إسماعيل التميمي (1).
8) رسائل وإجازات وتقاريظ وقطع في الوصف ونحوه، ذكرناها له في بابها من هذا الكتاب (2).
9) ديوان شعر في المدائح النبوية والوصف وغير ذلك أشار إليه بنفسه في الرحلة.
10) ثبته المسمى (مقاليد الأسانيد).
11) شرح على البخاري، ذكره له محمد بن أبي شنب في مقاله الذي تقدم به لمؤتمر المستشرقين الرابع عشر (الجزائر، 1905).
ويهمنا هنا أن نعرض لرحلته ولطريقته الأدبية وتأثره بغيره، أما أعماله الأخرى فبعضها قد عرضنا له (3) وبعضها سنعرض إليه في التراجم والتاريخ والشعر، يقول أبو راس في وصف أستاذه، ابن عمار، إنه (صاحب الرحلة الجمة الفوائد، حلوة الموائد، عذبة الموارد، الجليلة القدر، المستودع لما يفوت الحصر) (4). ورغم غموض عبارات أبي راس فإنها لا تدع مجالا للشك في أن ابن عمار قد كتب رحلته وانتهى منها أثناء حياته وأنها قد أصبحت معروفة عند الأدباء وأصحاب الأخبار، وأنه (ابن عمار) قد أصبح مشهورا بها حتى أصبح يدعى (صاحب الرحلة). ومع ذلك فإن هذه الرحلة، ونحن هنا نتحدث عن (نحلة اللبيب)، مفقودة الآن إلا جزءا يسيرا منها، سماه ناشره (نبذة) من المقدمة التى وضعها ابن عمار لها, فما ظروف تأليف هذ 5 الرحلة؟ وما محتواها وطريقته فيها؟ كان ابن عمار كثير الشوق إلى البقاع
__________
(1) مطبوعة ضمن رسالة الرد على الوهابية لإسماعيل التميمي، تونس.
(2) نشرنا إجازته لمحمد خليل المرادي في مجلة (الثقافة) عدد 45، 1978.
(3) تعرضنا لأعماله في الحديث والإجازات في الفصل الأول من هذا الجزء، وأعماله في الرسائل والتقاريظ والوصف في هذا الفصل.
(4) أبو راس (فتح الإله)، مخطوط.
المقدسة وكثيرا ما نظم الشعر والموشحات في ذلك، وحين حانت الفرصة للحج اغتنمها، وبدأ تأليفه بمقدمة (تناول فيها ما جادت به قريحته قبل التوجه للحج)، و (غرض مقصود) تناول فيه (ما يحدثه السفر إلى الإياب وحط الرحال)، وبمعنى آخر أن هذا هو أساس الرحلة، ثم (خاتمة) خصصها للحديث عما (نشأ عن ذلك بعد السكون وانضم إليه) (1).
ولكن الموجود من الرحلة حتى الآن هو نبذة من المقدمة فقط، ومع ذلك فقد بلغت صفحاتها عند طبعها 254 صفحة، وهذه النبذة ليست كاملة أيضا لأن ناسخها الذي يبدو أنه أحد تلاميذ ابن عمار، كان يترك بياضات في الوسط كما أنها غير منتهية نهاية منطقية، فالحديث في نهايتها مبتور، ومعنى ذلك أن ما لدينا من الرحلة لا يشكل حتى مقدمتها، وكان ابن عمار عند وعده فيما كتب، فقد بدأ بذكر دواعي تأليف الرحلة وتسميتها، وبيان ضرورة الحج شرعا مع استشهاد بالقرآن والأحاديث والأشعار، والتعبير عن شوقه إلى ساكن الحجاز وتأزمه الروحي، ولكنه استطرد كثيرا في ذلك بإيراد الأشعار له ولغيره، ثم بالغ في الاستطراد فذكر عادة أهل مدينة الجزائر في المولد النبوي وموقف الفقهاء من ذلك واحتفال ملوك بني زيان في تلمسان وملوك بني الأحمر بالأندلس في المولد أيضا، وأطال في ترجمة أحمد المانجلاتي، والشاعر ابن علي والشريف التلمساني وذكر الموشحات الطويلة له ولهم ولغيرهم في المولد أيضا، ثم جاء بأشعار من مختلف شعراء المشرق والمغرب في الأزهار والخمر روفي أغراض أخرى، وهو لا يسوق كل ذلك مرتبا كما ذكرناه، بل كان يذكر الشيء ثم يقطعه ويعود إليه، وهكذا. وهذه الطريقة، وإن كانت شائعة بل مطلوبة في عصر ابن عمار، فهي عندنا الآن ممقوتة لأنها تشتت الذهن وتوزع الجهد وتضيع الوقت، أما في وقته فقد كانت من علامات المهارة في التأليف، والهدف منها التخفيف على القارئ والترويح عنه، أو (استجلابا للأنس واستجلاء للهموم) كما يقول ابن عمار نفسه.
__________
(1) انظر عن هذه الرحلة وغيرها (الرحلات الجزائرية الحجازية) في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، الجزائر، 1978.
وبالإضافة إلى الاستطراد والتكرار أكثر ابن عمار من عبارات شائعة في تأليف عصره مثل فائدة وتتمة ولطيف وكان إذا ذكر قصة أو قصيدة أو خبرا يعلق بما يعن له على ذلك من محفوظاته، وقد يكمل الناقص ويصحح الخطأ، ولم يهتم بالمغاربه فقط بل أورد الشعر والأخبار لهم وللمشارقة أيضا من متقدمين ومتأخرين. فقد أورد للتنسي والمقري والتمبكتي وابن الخطيب ومحمدن يوسف الثغري القيسي وابن زمرك وابن خلدون وابن علي والمانجلاتي وابن خاقان، بالإضافة إلى أبي تمام والبحتري وابن الرومي والمتنبي وبشار بن برد وأبي نواس، وقد أحصى له بعض الباجثين الشخصيات التي جاءت في النبذة المطبوعة من الرحلة فوجدها على هذا النحو: 18 شخصية روى عنها، 30 شاعرا استشهد بشعره، وحوالي عشرة من الناثرين، وحوالي 11 امرأة استشهد لها، وحوالي 14 أميرا وحاكما، وخمسة من الفلاسفة والحكماء غير المسلمين (1).
فإذا حكمنا من المنشور من الرحلة ومن بعض رسائله وتقاريظه فإن ابن عمار كان معجبا بابن الخطيب والفتح بن خاقان. ولا سيما الأخير. وقد قيل إن طريقة تراجمه في (لواء النصر) تشبه طريقة ابن خاقان في (قلائد العقيان) و (مطمح الأنفس) (2). وكان ابن عمار يهتم بالجملة ومقاطعها واللجوء إلى السجع في أغلب الأحيان وتنميق العبارة، ولكن لقوة بيانه لا يظهر أنه كان يتكلف ذلك، فقد شاعت طريقته بين معاصريه حتى وصفه أبو راس بأنه (سلس اللسان والعبارة، مليح التصريح والإشارة) (3)، وكان ابن عمار لا يسجع في تناوله القضايا الدينية وتوضيح المواقف وعند الاستشهاد ونحو ذلك. وكان السجع عنده جزءا من الشعر يلجأ إليه عند وصف أحوال النفس والحديث عن الأدب والعاطفة، كما أن السجع عنده كان مدخلا للتأليف وميدانا للرسائل والتقاريظ ونحو ذلك، وقد بدأ عبارته في (النحلة) هكذا
__________
(1) الحاج صادق (المولد عند ابن عمار)، 272 - 273.
(2) نفس المصدر، عن عبد الحي الكتاني، 274 - 275.
(3) أبو راس (فتح الإله)، 63 - 67.
(وبعد فيقول العبد الفقير، المضطر لرحمة رب المولى القدير، مثقل الظهر بالأوزار، الراجي عفوه سبحانه أحمد بن عمار، ألحفه الله رضاه، وأتحفه القرب من مرتضاه، لما دعتني الأشواق، النافقة الأسواق، إلى مشاهدة الآثار، والأخذ من الراحة بالثأر، وأن أهجر الأهل والوطن، وأضرب في عراض البيد بعطن ..) (1).
وكان ابن عمار يكتب للخاصة لا للعامة، بل لخاصة الخاصة، فأسلوبه راق، ومعانيه بعيدة. فقد جاء في وصف رسالته في التفسير قوله يخاطب الباي علي باشا التونسي (نظمت في سلك دولة هذا الملك السعيد ... عقد لبة وتاج مفرق، مما فتح الفتاح العليم، من هذه الرسالة الغريبة المبني، الوثيقة المعنى، البعيدة المرمى، القريبة المجنى .. فلينظرها المولى، بعين القبول والرضى، وليعرضها على الخواص من أدباء دولته الميمونة وعلمائها وفقهائها وزعمائها، وأما العوام فكالهوام، وليس هم المقصودون بهذه الرسالة، بل بهذا الكتاب كله ..) (2)، فقد أوضح ابن عمار في هذه العبارات القصيرة أسلوبه الفني ومراميه، وجمهوره من القراء والمطالعين، كما أوضح محتوى كتابه في الباي والرسالة التي ضمها.
ويظهر إعجاب ابن عمار بابن الخطيب من عدة وجوه، فقد أكثر من النقل عنه في الرحلة، ولا سيما قصائد ابن الخطيب الثلاث الميمية والسينية والنونية التي قالها في السلطان أبي حمو، وقال عن شعر ابن الخطيب (شعره كله .. ما بعده مطمع لطالع)، ووعد بأنه سيلم (بشيء من أخباره، ونتف من أشعاره، وشذرات من نثره المزري بالروض وأزهاره)، وقد رد ابن عمار على
التنسي الذي قال إن ابن الخطيب قد قلد أبا تمام في سينيته وأنه اختلس منها الكثير من ألفاظها ومعانيها، فقال ابن عمار مدافعا (والحق أن ابن الخطيب غني بما رزقه الله من قوة العارضة عن الاختلاس من ألفاظ أبي تمام ومعانيه،
__________
(1) (نحلة اللبيب) المقدمة، 3.
(2) إبراهيم السيالة (مباهج الأزهار ودوحة الأفكار) مخطوط تونس، رقم 260.
وإن كان أبو تمام، رئيس هذه الصناعة، والألفاظ إنما هي للعرب والمعاني مركوزة في أذهان العقلاء، فليس أحد أولى بها من الآخر) (1)، ولنلاحظ أنه في مثل هذه الردود لا يلجأ إلى السجع، ولعل ابن عمار كان يطمح إلى أن يكون كابن الخطيب في النثر والشعر، كما طمح أحمد المقري قبله لذلك، وإذا كانت صناعة الأدب قد واتت ابن الخطيب في عصره وكان لذلك مبررات كثيرة تساعده، فإن ظهور ابن عمار في القرن الثاني عشر وفي مدينة الجزائر، التي لا يستعمل ولاتها اللغة العربية أصلا، فما بالك بفهم أساليبها وبيانها، هو أمر في حد ذاته يثير الغرابة والإعجاب معا (2).
والواقع أننا مهما أفضنا في الحديث عن دور ابن عمار الأدبي فلن نوفيه حقه في هذا المجال المحدود، ومن عوائقنا في ذلك عدم اطلاعنا على معظم آثاره التي ما تزال على ما يبدو موزعة بين الجزائر وتونس والقاهرة والحرمين، ورغم مكانته الأدبية وفكره المستقل فإن ابن عمار كان، إذا حكمنا من آراء معاصريه فيه، مثالا للاستقامة والتواضع والأخلاق الكريمة، وقد ترك تلاميذ في كل مكان حل به (3). وكان ابن عمار موسوعيا أيضا ولكن الأدب ظل ميزته الأصيلة رغم براعته وتقدمه في غيره، ولعله من المفيد أن نكرر ما سبق أن قلناه في موضع آخر من أن هجرة ابن عمار والمقري والثعالبي والشاوي وابن حمادوش وأضرابهم قد أفرغت الجزائر من قواعدها العلمية وركائزها الأدبية، وهذا درس قاس جدير بنا أن نتعلمه
اليوم.
__________
(1) (نحلة اللبيب)، 188.
(2) عبر الحاج صادق أيضا على رأي شبيه بهذا، انظره في بحثه (المولد عند ابن عمار) 289.
(3) من تلاميذه أيضا في الحرمين، عمر بن عبد الكريم المعروف بابن عبد الرسول المكي الحنفي (توفي بمكة سنة 1247) الذي أصبح يدعى (شيخ الإسلام)، انظر (فيض الملك المتعالي) 2/ 93، مكتبة الحرم المكي، مخطوط. انظر أيضا كحالة (معجم المؤلفين) 7/ 293، والكتاني (فهرس) 2/ 182.
نتناول في هذا الفصل حالة الشعر في العهد العثماني وأغراضه، وقد وجدنا، بعد دراسة مستفيضة، أن الشعر كان نسبيا مزدهرا وأن أغراضه قد تعددت حسب بواعثه، وهي الدين والسياسة والاجتماعيات والذات، وسنحاول هنا أن نتعرف أيضا على الشعر المسمى بالملحون أو العامي والظروف التي أدت إلى استعماله وانتشاره حتى قال بعضهم أنه أصبح لسان كثير من الناس، كما سنترجم للمفتي الشاعر ابن علي الذي كان أبرز شعراء عصره.
مدخل
وقبل كل شيء نذكر أن دواوين الشعراء الجزائريين ما تزال في طي الكتمان، ولا نعرف أن واحدا منها، مما يعود إلى العهد العثماني، قد جمع وحقق، وما نشر عن المنداسي في هذا الصدد لا ينقض هذا الرأي، فدواوين المنداسي وابن علي وابن عمار والمقري والمانجلاتي وابن سحنون وابن الشاهد وأضرابهم لم تنشر أو تعرف بعد. وكل ما نعرفه عن هذا الشاعر أو ذاك هو بعض الأبيات أو القصائد المثبتة عرضا في أحد المصادر التاريخية أو الفقهية أو المتفرقة في الوثائق العامة، ولعل هذه الظاهرة، ظاهرة الإهمال للشعر وأهله، تؤكد ما ذهب إليه ابن خلدون من أن أهل المغرب العربي قد أضاعوا رواية أشعارهم وأخبارهم فأضاعوا أنسابهم وأحسابهم، ومن العجيب أن هذا الرأي كان حافزا لعدد من الشعراء والكتاب على تدوين الشعر، وسمن هؤلاء أحمد بن سحنون في (الأزهار الشقيقة)، وأبو راس الناصر في (الدرة
الأنيقة)، كما رواه عبد الرحمن الجامعي المغربي في شرحه على رجز المفتي محمد الحلفاوي التلمساني في فتح وهران، ويبدو أن الجيل الحاضر أكثر تقصيرا في رواية الشعر وتدوينه من جيل العهد العثماني.
فهذا ابن حمادوش يتحدث عن نفسه بأن له ديوانا بناه على الغزل والنسيب والمراثي ومدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ونحن نعرف من دراستنا له أن شعره يضم أيضا أغراضا أخرى كالفخر والحنين إلى الوطن والأهل والوصف ومدح الأمراء وغير ذلك (1)، ورغم أن (نفح الطيب) و (أزهار الرياض) قد ضما كمية من أشعار المقري، فإن له أيضا كناشا يحمل اسمه (محشو أدبا أندلسيا وغيره) (2) وله أيضا مجموعة أشعار في الكناشة الناصرية (عبد الله بن أبي بكر بن علي الناصري التمغروطي) (3). ولسعيد المنداسي مجموعة قصائد في أغراض مختلفة ما تزال مخطوطة (4)، وينسب إلى سليمان بن علي التلمساني ديوان ما زلنا لا نعرف محتواه، ولكنه ما يزال مخطوطا في إيران (5). وقد ذكر ابن زاكور المغربي أن لمحمد بن عبد المؤمن الجزائري ديوان شعر ورسائل (6)، وتضم دواوين ابن علي وابن عمار والمانجلاتي وابن سحنون
__________
(1) انظر دراستنا عنه في (مجلة مجمع اللغة العربية) بدمشق، عدد أبريل 1975، وهي أيضا منشورة في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). وكتابنا (الطيب الرحالة)، الجزائر، 1982.
(2) مكتبة حسن حسني عبد الوهاب، المكتبة الوطنية - تونس، رقم 18327 في 103 ورقات.
(3) المكتبة الزيدانية بالمكتبة الملكية - الرباط، رقم 2845. انظر أيضا محمد المنوني (الكناشات الغربية)، (المناهل) 2، 1975.
(4) مثلا نسخة رقم 1989 بالمكتبة الوطنية - الجزائر، انظر سركيس 1/ 641.
(5) (مجلة المخطوطات العربية) م 3 ج 1 مايو 1957 في مقال عن المخطوطات العربية بإيران (خزانة مجلس الشورى رقم 32). ويبدو أنه شعر في التصوف. وربما خارج العصر الذي ندرسه.
(6) ابن زاكور (الرحلة) 15، وروى هذا المصدر أن شعر ابن عبد المؤمن (أرق من نسمات الأسحار) لا سيما النسيب.
أشعارا كثيرة في أغراض شتى أهمها المدح والوصف والغزل والمدائح النبوية، وفي كتاب (منشور الهداية) لعبد الكريم الفكون و (البستان) لابن مريم أخبار عن شعراء في تلمسان وقسنطينة عرفوا بجودة الشعر وكثرته، ولكننا لا نعرف إلى الآن أين هو.
كانت بواعث الشعر، والجيد منه على الخصوص، قليلة، ومن أهمها بالطبع الباعث الديني. فالشعراء كانوا يسجلون مشاعرهم في المواسم الدينية المعروفة كالحج والمولد النبوي بنظم الموشحات والقصائد، ولم يكن ولاة الجزائر يثقفون الشعر حتى يشجعوا عليه في الوقت الذي كان فيه الشعر العربي عموما شعر مدح أو شعر بلاطات، فإذا استثنينا حاكمين أو ثلاثة فإننا نلاحظ أن الشعراء لم يجدوا أي تشجيع معنوي أو مادي لقول الشعر. حقا إن النزاع بين الجزائر وإسبانيا كان باعثا لعدد من الشعراء على الدعوة للجهاد وتمجيد النصر، وهو باعث سياسي - ديني لا غبار عليه. وهناك أيضا مجال الطبيعة وعزة المدن، والحنين إلى الأهل والوطن، والمرأة، بالإضافة إلى البواعث الاجتماعية كرثاء عزيز أو تبادل التهاني والتقاريظ بالشعر، والتماجن، ونحو ذلك من الأغراض، يضاف إلى ذلك عدد من الأغراض التقليدية كتخميس قصيدة مشهورة والتلغيز واتخاذ الرجز وسيلة للنظم في التاريخ والفقه والتصوف وغيرها مما يخرج عن نطاق هذا الفصل (1).
وليس معنى هذا أن المجتمع، ولا سيما مجتمع المدن، كان منغلقا تماما على نفسه. لقد كانت أهم المدن مسرحا لتيارات عديدة أوروبية وإسلامية، شرقية واندلسية، وقد عرفنا أن الخمر كانت رائجة وأن بيوت
__________
(1) من ذلك (الدرة المصونة في علماء وصلحاء بونة) لأحمد البوني، ورجز الحلفاوي في فتح وهران. انظر فصل التاريخ، وقصيدة خليفة بن حسن القماري في قص الأثر (فتوى فقهية)، وتخميس قصيدة الأخضري في النبي خالد لعبد العزيز بن مسلم، ولغز (هاج الصنبر) لسعيد قدورة، وفي رحلة ابن حمادوش نماذج من استعمال التلغيز، أما التخميس فهو كثير، يضاف إلى أنواع أخرى من التصرف في قصائد الغير.
الخنا كانت موجودة وأن الفساد الاجتماعي - الأخلاقي كان منتشرا، وبالإضافة إلى ذلك شاعت القهوة والدخان، وكلاهما كان محل مناقشة بين الفقهاء وكثر في ذلك القيل والقال، وانتصر بعض الشعراء، كما سنرى، لشرب الدخان الذي يسميه (السبسي)، بل كانت تجارة الدخان تجارة رابحة. وكان وجود الأسيرات المسيحيات قد أدخل عنصرا جديدا على الحياة الاجتماعية، وكان بعض الضباط والجنود، وبعض رجال الدين أيضا، يتزوجون في أكثر من بلد، وبالغ بعض الضباط فأخفوا زواجا وأعلنوا آخر (1)، بل إن ابن حمادوش يحدثنا أن أحد الباشوات كان مع أهله على سفاح سري إلى أن نصحه العلماء المقربون منه بإفشاء زواجه، ولم يمنع عدم خروج المرأة الحرة واختلاطها بالرجال الشعراء من تناول المرأة في شعرهم، فقد استعمل بعضهم الرموز واستعمل البعض التصريح، ومع ذلك فإن بعض الشعراء قد لجأوا إلى التغزل بالمذكر، وهكذا نجد أن بواعث الشعر الاجتماعية كثيرة ومتنوعة، وأن المجتمع كان متصلا وفيه ما في المجتمعات الأخرى المشابهة من عبث ومجون وتحلل.
على أن من القضايا التي شغلت بعض الكتاب هي علاقة الشعر الفصيح بالملحون وعلاقة الشعر عموما بالحياة والدين، وقد شكا أحمد بن سحنون من غلبة العجمة على ألسنة الناس ولجوء الشعراء إلى الملحون بدل الموزون أو الفصيح، ثم شكا بمرارة من تخلف الشعر وندرة الجيد منه، وقد اتخذ الناس الشعر الملحون أيضا أداة للمدح والهجاء والدين والغزل والمقاصد الأخرى التي اعتاد أن يطرقها الشعر الفصيح. ولنستمع إلى ابن سحنون وهو يتحدث عن هذه القضية في نطاق حديثه عن الباي محمد الكبير ومدح الشعراء له (اعلم يا أخي أن الألسنة غلبت عليها العجمة، وارتفع منها سر الحكمة، فصار الناس إنما يتغنون بالملحون، وبه يهجون ويمدحون، ولهم في ذلك فنون رقيقة، ومعاني رشيقة، وقد مدحوه (الباي محمد الكبير) بما لا
__________
(1) انظر أراندا (قصة أسر وتحرير أراندا)، باريس 1665 , ط. الإنكليزية (تاريخ الجزائر)، 1602 - 1671.
يملك حصره، وذلك أمر خارج عن مقصد الأديب، لا يخصب روض البلاغة الجديب، وعلى قلة المعرب في هذا العصر، فقد قيل فيه منه ما لا يأتي عليه الحصر، غير أن منه الفقهي الذي لا يثبت إما لتكسر مبانيه، أو لاختلال معانيه، ومنه ما بلغ الغاية، وصار في لطافته ورقته آية، وهو أيضا كثير، غير أني لم أقف على أكثر جمانه النثير، وإنما أثبت هنا ما وقفت عليه من الجيد الأثير) (1)، ومن الواضح أن ابن سحنون يفضل الشعر الفصيح الجيد على الملحون لعلاقة الأول بالبلاغة والأدب، ولكن ما حيلته والعصر عصر عجمة وشعر عامي وشعر فقهي لا علاقة له بالذوق والخيال والفن (2).
وقد اضطر عبد الرحمن الجامعي المغربي في شرحه على رجز الحلفاوي في فتح وهران إلى الاستشهاد بالشعر الملحون، وبرر ذلك بأن المعنى أحيانا يتوقف عليه وأن الشعراء قد قالوا شعرا كثيرا ملحونا في هذه المناسبة، ثم إنه (ما في ذلك من بأس، فإنه في هذا القطر (الجزائر) أساس الكثير من الناس) (3) لذلك جاء في شرحه بقصيدة طويلة ملحونة (عروبية) دون أن ينسبها إلى شاعر بعينه. وقد اتبعه أبو راس في ذلك فقال بأنه لا بأس من إيراد الشعر الملحون لأنه قد أصبح لسان الكثير من الناس (4). كما كرر ما رواه الجامعي عن ابن خلدون في لوم أهل بلاد المغرب على إهمالهم رواية أشعارهم وأخبارهم، وقد عرف أبو راس الشعر بأنه (ميزان الأدب .. وزينة الألباب، ومورد الحكمة، وفصل الخطاب، وسبيل
__________
(1) (الثغر الجماني) مخطوط باريس، ورقة 16.
(2) لا شك أن من أسباب عدم تدوين الشعر الفني أو الذاتي طغيان روح التصوف والتدين الكاذب على فئة العلماء، بل على المجتمع عموما، حتى صاروا يربأون بأنفسهم عن أن يتناقل الناس عنهم ذلك، بخلاف الشعر المنظوم في التصوف والمدائح النبوية فإنه كان يشرف صاحبه إذا تناقله الناس عنه، ولو كان مكسور الوزن ضعيف النسج.
(3) الجامعي (شرح رجز الحلفاوي) مخطوط باريس، ورقة 5.
(4) أبو راس (الدرة الأنيقة) مخطوط باريس ورقة 2.
مسلوك، وله موقع عند الخلفاء والملوك، ومدحه في السنة شهير، وبه محيت ذنوب كعب بن زهير). كما نسب أبو راس إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) قوله: (الشعر ديوان العرب)، وهو لذلك قد كتبت فيه الدواوين، وشرحه أكابر العلماء ونوهوا به.
وإذا كان هذا تبريرا من أبي راس لتناوله الشعر بالشرح، ولا سيما شرح قصيدة ملحونة مثل (العقيقة)، فإن قضية الشعر والدين كانت أوسع من ذلك. ففي عصر ساد فيه التصوف لا نستغرب أن يقف المتصوفة ومن يتصل بهم ضد الشعر المعروف في أغراضه التقليدية، ما عدا الشعر الديني. حقا ان أبا راس قد مدح الشعر عموما، ثم قال إن فضل الشعر يزيد عندما يكون في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)، كما فعل المنداسي. والمعروف أن المنداسي قد نظم في أغراض أخرى غير دينية. ولكن هذا ليس هو رأي عالم متصوف مثل الورتلاني. فقد حكم الورتلاني بمنع الأشعار (التي فيها ذكر الخدود والقدود وتسمية المحبوبة من النساء المرغوب فيها الفساد) أما شعر الوعظ والذكر ومدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقد حكم بندبه (1). بل إن الورتلاني قد جوز كسر الأوزان الشعرية واعتبر أن الإصرار على استقامتها هو مذهب المتأخرين. ولا شك أن هذا الرأي يتماشى مع قدرته هو الشعرية، فإن قصائده كانت في أغلبها مكسورة ومختلة، وقال عن قصيدة للولي الصالح سيدي الهادي إنها (وإن خصها بعض الأوزان الشعرية فإن مذهب المتقدمين لا يشترطون ذلك (أي إقامة الوزن) وإنما هو مذهب المتأخرين، على أنه إن استقامت حالة الإنسان، وكانت همته عالية متعلقة بالله تعالى لا يضره مخالفة القوانين الأدبية ولا غلبة العجمة ولا قلة العلم) (2) فالمهم عند الورتلاني إذن هو التصوف وليس الفن، هو الصلاح والاستقامة الخلقية وليس الشعر واستقامة أوزانه. وما دام هذا رأي عالم فقيه وصوفي كالورتلاني، فإننا لا نستغرب أن نجد كثيرا من الأشعار المنسوبة إلى علماء مشاهير مختلة الأوزان أيضا ومرتبكة،
__________
(1) الورتلاني، 196.
(2) نفس المصدر، 13.
وعلى رأس هؤلاء ابن حمادوش وأبو راس.
الشعر الديني
كان الدين، بأوسع معانيه، من أهم الأغراض التي طرقها الشعراء، ولا سيما مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) والتشوق إلى زيارة قبره وإحياء مولده. ويشمل ذلك أيضا الشعر الصوفي، والتوجه إلى الله وقت الشدة، ومدح ورثاء الأولياء والصالحين ونحو ذلك.
ولا شك أن الشعر الديني، وخصوصا المدائح النبوية، من أقدم الأغراض الشعرية، وتحتفظ الوثائق بقصيدة نادرة في مدح المدينة المنورة (طيبة) قالها الشاعر الصوفي أبو محمد عبد الله بن عمر البسكري (1)، وهي القصيدة التي أكثر الكتاب من تداولها والنسج على منوالها لجودتها وصدقها، فذكرها ابن عمار في (الرحلة) وابن سحنون في (الأزهار الشقيقة)، ومنها هذه الأبيات:
دار الحبيب أحق أن تهواها ... وتحن من طرب إلى ذكراها
وعلى الجفون متى هممت بزورة ... يا ابن الكرام عليك أن تغشاها
فلأنت أنت إذا حللت بطيبة ... وظللت ترتع في ظلال رباها
معنى الجمال متى الخواطر والتي ... سلبت عقول العاشقين حلاها
لا تحسب المسك الذكي كتربها ... هيهات! أين المسك من رياها
طابت فإن تبغ التطيب يا فتى ... فأدم على الساعات لثم ثراها
وقد أورد أحمد المقري في (نفح الطيب) نماذج من المديح النبوي قالها الشاعر محمد بن محمد العطار الجزائري (نسبة إلى مدينة الجزائر) (2)،
__________
(1) جاء في (الأزهار الشقيقة) ورقة 207 لابن سحنون، أن البسكري كان معاصرا لإبراهيم بن علي بن فرحون (ت. 799) مؤلف (الديباج المذهب)، وبناء عليه فقصيدة البكسري تقع خارج العصر الذي ندرسه. وفيها تصل 45 بيتا، وهي من عيون الشعر في هذا الباب، وقد ذكرها كاملة. انظر أيضا (نحلة اللبيب) لابن عمار، 9.
(2) قال المقري عنه إنه من جزائر بني مزغنة، وأنه كان حيا سنة 707 هـ. انظر (نفح =
من ذلك قصيدة له في عشرين بيتا في المدينة المنورة أيضا، مطلعها:
أهدت لنا طيب الروائح يثرب ... فهبو بها عند التنسم يطرب
فالتشوق إلى البقاع المقدسة ووصفها والحنين إليها ومدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) أغراض قديمة عند الجزائريين.
وقد أكثر بعضهم من النظم في هذا الغرض حتى أنهم خصوه بديوان كامل. ومن هؤلاء عبد الكريم الفكون. فقد سبق أن أشرنا إلى أنه نظم ديوانا في مدح الرسول وفي حياته عموما. ولا غرابة في ذلك فالفكون كان أميرا لركب الحج الجزائري مدة طويلة، وقد وصفه العياشي بأنه كان يذهب كل سنة حتى بعد أن تقدمت به السن، ووصف العياشي هذا الديوان وقال إن
الفكون قد رتبه على حروف المعجم وكتب عليه مما يمدح به عند الغمة، وساعة الغياهب المدلهمة. وقد التزم الفكون فيه طريقة صعبة فجعل مبدأ كل سطر حرفا من حروف: (اللهم اشفني بجاه محمد، آمين). وجملة ذلك خمسة وعشرون حرفا، ففي كل قصيدة مثلها أبياتا. ففي قافية الهمزة خمسة وعشرون بيتا، وكذلك في قافية الباء، وهكذا إلى آخر حروف المعجم، ويمكننا أن نتصور بعد ذلك كم في هذا الديوان من أبيات، وكان الفكون قد نظم هذا الديوان بعد أن أصيب بمرض غريب ألزمه الفراش سنة وشل نصفه الأيسر ولم يكن يرجو برءا منه فشفاه الله، وكان ذلك سنة 1031 (1). وللفكون قصائد أخرى في التوسل وغيره سبق أن أشرنا إليها في غير هذا المكان (2).
وكل من ابن حمادوش وابن عمار قد تحدث عن عادة أهل مدينة
__________
= الطيب)، 10/ 327 - 337، وأورد له أسماء كتب في هذا المعنى منها (نظم الدرر في مدح سيد البشر) و (المورد العذب المعين في مولد سيد الخلق أجمعين) بالإضافة إلى (درر الدرر). وعن شعر المدائح النبوية في القرن التاسع انظر الفصل الأول من الجزء الأول.
(1) (منشور الهداية) 243 - 244، انظر أيضا رحلة العياشي، 2/ 392 - 390.
(2) انظر ترجمتنا للفكون في الفصل السادس من الجزء الأول.
الجزائر في المولد النبوي وليلة القدر وعند ختم صحيح البخاري، ونعرف مما ذكراه أن البلاد كانت تحتفل بهذه المناسبة احتفالا كبيرا، يتلى فيها البخاري طوال الليل وتضاء الشموع الضخمة ويطوف القراء وغيرهم الشوارع وهم حاملون المصابيح، وتعد النسوة أطعمة خاصة، وتعزف الموسيقى ويكثر إنشاد الشعر الديني والموشحات. وإذا كان ابن حمادوش قد ركز في وصفه على المظاهر الاجتماعية والدينية عند الاحتفال ليلة ختم صحيح البخاري، فإن ابن عمار قد أعطانا صورة حية عما كان يفعله الشعراء بالخصوص أثناء الاحتفال بالمولد النبوي. فهو يقول إنه كلما دخل شهر ربيع الأول شرع أدباء وشعراء الجزائر في نظم القصائد والموشحات النبوية، ثم يلحنونها (بالألحان المعجبة، ويقرأونها بالأصوات المطربة) ويصدحون بها في المحافل الكبيرة والمجامع التي يحضرها الفضلاء والعلماء والرؤساء، في المزارات والزوايا والمكاتب. وكان الناس يلبسون لذلك أيضا أجمل ثيابهم ويتطيبون تقديرا للمولد الشريف.
وكان ابن عمار من بين ثلاثة شعراء اشتهروا بنظم الموشحات والقصائد المديحية في هذه المناسبة، ففي سنة 1166 أنشأ هو موشحا عند حلول شهر ربيع الأول وتاقت نفسه للحج، قائلا في فاتحته:
يا نسيما بات من زهر الربا ... يقتفي الركبان
احملن مني سلاما طيبا ... لأهيل البان
وأضاف ابن عمار بأن له من هذا القبيل وغيره من القصائد المديحية كثيرا ضمنه (بطن ديوان ..) (1) فلابن عمار إذن ديوان في المدائح النبوية بعضه موشحات وبعضه قصائد قريض، كما يقول، وهو يعني بالقريض الشعر الموزون المقفي أو غير الموشحات.
ورغم أن ابن عمار قد لاحظ أن الشعر القريض الذي يتناول المدائح النبوية قليل في عصره، فإنه قد ذكر أن أحمد المانجلاتي قد برع فيه وفي
__________
(1) ابن عمار (الرحلة) 27.
الموشحات أيضا. فقد اعتبره ابن عمار ثالث اثنين هما: البوصيري وابن الفارض في القصائد النبوية. وقد أشاد به واعتبره (مجلى هذه الحلبة، ومقدم الجماعة وناثل الجعبة، وإمام الصناعة ركاب صعابها ومذللها، ومسيل شعابها ومسهلها، عاشق الجناب المحمدي ومادحه بلا معارض، ومثلث طريقتي البصري وابن الفارض)، ثم أثبت له في الرحلة بعض مولدياته التي قال عنها إنها تطرب وتروق، مثل موشح المانجلاتي (نلت المرام):
بالله حادي القطار ... قف لي بتلك الدار ... واقر السلام
سلم على عرب نجد ... واذكر صبابة وجدي ... كيف يلام
من بادرته الدموع ... شوقا لتلك الربوع ... مع المقام
وبعد أن أورد له ابن عمار قصيدة أخرى في المديح النبوي، وهي:
الركب نحو الحبيب قد سارا ... يود شوقا إليه لو طارا
قال عن المانجلاتي إنه من عشاق الشمائل المحمدية وإن له (ديوانا) في المدائح النبوية (تزري بالأزهار الندية) (1)، وني ترجمتنا لابن علي بعد حين سنعرف أنه كان من الشعراء البارزين وأن له أيضا قصائد في المدح النبوي وموشحات أشاد بها ابن عمار في رحلته المذكورة.
ومن شعراء المديح النبوي أيضا الأكحل بن خلوف وأبو عبد الله محمد المغوفل. وكلاهما قد اشتهر في هذا الباب، ولا سيما الأول، حتى أصبحت قصائدو تغنى وتروى على مختلف العصور. وكلاهما أيضا من رجال التصوف. وقد أشاد أبو راس بالأول فقال إنه قد اشتهر بمدح النبي (صلى الله عليه وسلم) شهرة ابن عروس بتونس. أما عن المغوفل فقد قال إنه: (أحد أعجوبات الدهر في
__________
(1) نفس المصدر، 27 - 28، 31 - 35، والظاهر أن ابن عمار كان يتحدث عن أحمد المانجلاتي الذي عاش في القرن الحادي عشر وكان صديقا لسعيد قدورة، وهو الذي أرسل قصيدة أيضا إلى مفتي إسطانبول في وقته، أسعد أفندي، معرفا له فيها لمقام قدورة. انظر (ديوان ابن علي) مخطوط، وعن أثر الحج والحجاز في الشعر انظر مقالتي عن الرحلات الجزائرية الحجازية في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).
عمله وورعمه وكراماته. يشهد لعلمه قصيدة مدح بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فيها سبعون بيتا وليس فيها حرف يستحق النقط، بل كلها عواطل من النقط، وكفي به حجة) (1)، وقد ذكرنا من قبل أرجوزة محمد المغوفل في صلحاء الشلف.
وما دمنا بصدد الحديث عن النواحي الغربية من الجزائر فلنذكر أن أحد شعراء مدينة مستغانم قد نظم قصيدة هائية في المديح النبوي تعرف أحيانا (بهائية المستغانمي) (2)، والقصيدة طويلة تبدأ بالغزل وتنتهي بمدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وفي الأبيات الغزلية وحدها عشرون بيتا، وهي مقسمة إلى عناوين مثل باب التغزل وحسن التنزل، وباب رجوع وانصراف وإقرار واعتراف، وباب التعداد وحسن الإمداد، الخ. وهي أيضا في وصف الرسول وأخلاقه وأيامه وصحابته والاستعانة به، وقد انتهى الشاعر فيها بنظم الأيام السبعة والشهور الهجرية، وهي تبدأ هكذا:
هام الجوى بهوى ليلى فحياها ... قلب تعاطى من الأشواق أعلاها
ناداه سر هواها من كوى شغف ... وعند طور نداها اللب لباها
ويختمها الشاعر بهذه الأبيات التي فيها ذكر مستغانم والدعاء لها بالحفظ والرعاية:
قصيدة الها بها والوصل مردفة ... لسيد الخلق فكر العبد أهداها
لطيفة النسج من لطف الإله بدت ... بمستغانم مذ حلت بعقواها
فالله يرزقها أمنا ويحفظها حفظا ... ويكلؤها دأبا ويرعاها
ومن جهة أخرى ذكر ابن مريم عددا من الشعراء الذين اشتهروا بالمديح النبوي، ومنهم عبد الرحمن بن موسى المتوفي سنة 1511.
والواقع أن معظم الشعراء والأدباء المعروفين قد نظموا في المدائح
__________
(1) أبو راس (عجائب الأسفار) مخطوط المكتبة الوطنية، الجزائر، رقم 1632، 1633.
(2) المكتبة الملكية - الرباط، رقم 6735 ب مجموع، في إحدى عشر ورقة، وفيها أخطاء كثيرة تعود للنسخ، وإلى الآن لم نستطع أن نحدد عصر هذا الشاعر.
vBulletin® v3.8.7, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir